أسلوب التركيز بعيداً عن التهويمات الرومانسية: الصُوَرية في الشِعر

عبدالواحد لؤلؤة
حجم الخط
0

الشِعر بأنواعه الثلاثة التي حدّدها أرسطو في كتابه «فن الشِعر» تقوم على الصورة، كما نجد عند أقدم شاعرة إغريقية هي سافو (620-550ق.م) وكما نجد عند هوميروس وشعراء اللاتين من بعده. ونجد مثل ذلك في الشعر العربي القديم والجديد كذلك. والصورة في الشعر تعتمد في قوّتها على موهبة الشاعر وثقافته. ولا أعرفُ صورةً أكثرَ براعةً من صورة حصان امرئ القيس:
«مِكَرٍّ مِفَرٍّ مُقبِلٍ مُدبِرٍ معاً/ كجُلمودِ صَخرٍ حطّهُ السيلُ من عَلِ»
ومن أوائل قصائد إليوت المنشورة قصيدة من أربعة مقاطع بعنوان «مُقدِّمات» وهي مقدِّمات موسيقية شعرية، أحسب أنها أوّل أمثلة الصُوَرية في الشعر الإنكَليزي الحديث.
في المقطع الأول نقرأ:
«يتنزّل المساءُ الشتائي/ بروائح الشواء في الممرّات/الساعة السادسة/ النهاياتُ المحترقة لنهارات مُدخِّنة./والآن الزخّة العاصفة تلفّ/ البقايا المتّسخة/ لأوراق ذاوية حول قدميك/ مع جرائد مرميّةٍ من بيوت خالية./الزخّات تضرب /الستائرَ الخشب المكسّرةَ والمداخن/ وفي زاوية الشارع/حصان عربة مُستَوحِد ينفث البخار ويضرب الأرض بحوافره./ وبعد ذلك تُضاءُ المصابيح».
وفي المقطع الثاني نقرأ:
«يتماثل الصباح إلى وعي/ بروائح خافتة عفنة من بيرة/ في شارع مغطى بنشارة الخشب/ وجميع الأقدام المطيّنة تدعس فيه / ساعيةً إلى مواقف القهوة في البكور/….مع التنكُّرياّت الأخرى/ التي يستعيدها الزمن / يفكِّر المرء بجميع الأيدي/ التي ترفع ستائر كالِحة / في ألوف من الغرف المفروشة».
وفي المقطع الثالث، نقرأ:
«قذفتِ الغطاء عن السرير/ وبقيتِ مُستلقيةً على ظهركِ تنتظرين/ غفوتِ وبقيتِ تراقبين الليل يكشف/ عن الألف صورة قبيحة /التي منها تكوّنت روحُكِ؛/ تطافرت نحو السقف./ وعندما عاود العالم جميعه إلى الظهور/ وتسلّق الضوءُ من خلال الستائر/ وسمعتِ العصافير في مجاري المياه/ تكوّنت لديك صورةٌ عن الشارع/ لا يكاد الشارع يدركها؛/ جالسةً على حافة السرير، حيث/ أزحتِ لفائف الورق من شَعركِ/ أو أطبقتِ على أخمصَي قدميكِ الصفراوين/ براحتَي كلتا يديكِ المُتّسختَين.»
وفي المقطع الرابع، نقرأ:
«تمَطّت روحُهُ بشدّةعبر السماوات/ التي تتضاءل خلف أبنية المدينة،/ أو تطأها أقدامٌ مِلحاحَة/ في الساعة الرابعة والخامسة والسادسة؛/ وأصابعُ قصيرةٌ ضخمة تحشو غلايين،/ وجرائد مساء وعيون/ واثقة من حقائق بعينها/ وَعيُ شارع مُعَتَّم/ توّاق ليلتحق بالعالم/… تستثيرني خيالات تدور /حول هذه الصور وتُقيم:/فكرة شيء بالغ الرقة/ شيء يتعذّب إلى الأبد./… إمسح بيدك على فمك، واضحك؛/ العوالم تدور. مثل عجائز/ يجمعن حطباً في رَحباتٍ خالية».
الصورية أسلوب في كتابة الشعر، ظهر عند شعراء اللغة الانكليزية في بدايات القرن العشرين، وأبرزهم: ت.ي.هيولم وإزرا باوند الذي نشر أولى قصائده في مجلة «شعر» الأمريكية عام 1913. ويعتمد هذا الأسلوب على التركيز في رسم الصور، بعيداًعن التهويمات الرومانسية والسَرد الذي تميّز به الشعر الفيكتوري. وغرض القصيدة يرمي إلى تصوير «الأشياء» مباشرة. من ذلك قصيدتان نشرهما هيولم عام 1908 بعنوان «خريف» و«غروب في مدينة». وثمة قصيدة باوند بعنوان «في محطة المترو» تمثل الصورية بشكل بارع:
«منظر هذه الوجوه في الزحام/ وُرَيقات على غصنٍ أسود بَليلْ»
وفي قصيدة إليوت بعنوان «مقدمات» نجد أمثلةً أخرى على أسلوب الصورية في كتابة الشعر. ففي المقطع الأول تبدأ صورة ملموسة محسوسة في «يتنزّل المساء الشتائي». فالمساء هنا «يتنزّل» ما يوحي بحركة بطيئة في النزول الذي لا نعرف فاعله، ولكن الإشارة الغامضة تتّضح بروائح الشواء التي لا يمكن إغفالها لأن الروائح منتشرة في الممرات في هذه البناية التي تضم عدداً من الناس من ذوي الدخول المحدودة، الذين ينتظرون حلول المساء ليستمتعوا بوجبة عشاء هي اللحم المشوي، لنهايات محترقة لنهارات مدخِّنة. في محيط هؤلاء البشر عمل في النهارات المدخِّنة لهؤلاء العمال في مصانع وقودها الفحم الحجري ودخانه، مما يشير إلى ظروف العمل الكئيبة في أوائل القرن العشرين. ويكون العشاء المنتظر، على الرغم من الروائح والدخان، هو المتعة الوحيدة لهؤلاء البشر المكدّسين في بناية، بعض غرفها خالية، وستائرها الخشبية ومداخنها مكسّرة، وهي صورة حياةٍ كئيبة ليس فيها إشارة إلى ما هو جميل أو سعيد. أما في خارج هذه البناية فيقف حصان عَرَبةٍ مُستوحِد وجسمُه ينفث البخار من طول وقوفه تحت المطر، لعدم وجود من يستأجر تلك العربة في ذلك المساء الشتائي. ولا شيء يحدث في حياة سكّان هذه البناية سوى مصابيح الطريق التي تُضاء، ولا ندري من يضيئُها. وضياء الشارع هو الوحيد في ظلام حياة هؤلاء البشر ويأتي من الخارج لا من الداخل.
وفي المقطع الثاني نجد مزيداً من الصور الكالحة الكئيبة التي تبدأ بصوره الصباح وهو يتماثل إلى الوعي، كما يتماثل المريض المُسجّى على سرير للتخدير، ثم يستفيق وهو ما يزال تحت تاثير التخدير، وما أبعد هذه الصورة عمّن يقوم من المنام نشيطا ليستقبل صباحاً سعيداً جديدا. والروائح هذا الصباح هي روائح بيرة عفِنة من ليلة الأمس. والناس المستفيقون من نومهم لا يَسعون إلى مائدة إفطار بل يَسعون إلى مواقف القهوة في الصباح الباكر، والقهوة هي كل ما يَسعُهم تناوله قبل الذهاب إلى عمل اليوم. ومنطقة سكن هؤلاء المساكين فيها مطعم أو اثنان حيث تكون الأرضية مغطاة بنشارة الخشب، مثل الشارع في تلك المنطقة السكنية، لكي لا تتلوث الأرضيات بأقدام الناس المغطاة بالطين، ويسهل جرف نشارة الخشب وما عليها من طين، بدل غسيل تلك الأرضيات والشوارع بالماء. هذه الصور الكئيبة يراها الشاعر مسرحيات تنكّرية، أي أنها ليست صور حياة في أدنى أشكالها. وهذا يذكِّر المرء/ الشاعر بألوف الغرف المفروشة، التي يسكنها من لا أسرة لهم، وكل نشاطهم في الصباح الجديد هو رفع الستائر الكالحة ليدخل ضوء النهار، في بلاد الثلج والضباب.
وفي المقطع الثالث نجد صورةً من قريب لامرأةٍ من هذا المجتمع الأبعد عن الحياة السعيدة، إمرأه تعيش وحدها دون مُعين، وتكسب عيشها من عمل لا يدرّ عليها إلا القليل، ونراها في غرفتها الكئيبة لا تستقبل الصباح إلاّ مُرغمةً بعد أن تقذف الغطاء من على السرير، وتبقى مُستلقيةً على ظهرها تنتظر الذي يأتي ولا يأتي. وصُور الليل في حياة هذه المسكينة هي صور قبيحة تكوّنت منها روحها. ومع طلوع الصباح بطيئا لا يتشكّل عالمُها إلاّ من أصوات العصافير تغرِّد لا في الخمائل والبساتين بل في مجاري المياه المفتوحة في الشوارع المحيطة، وليس في تغريدها ما يشجع على النهوض من الفراش فبقيت جالسةً على حافة السرير تفكّ لفائف الورق من شَعرها لترى هل اكتسب شَعرها شيئاً من التجاعيد. أمّا أخمص قدميها فقد سرت فيهما صُفرة من قلّة النشاط أو قلّة التغذية. ويداها متّسختان. فهل ذهبت للنوم ليلة أمس من دون اغتسال؟
وفي المقطع الرابع من هذه القصيدة الصُورية نجد صورةَ أخرى من قريب لرجل من هذا المجتمع الأبعد عن السعادة في عالم أوروبا في بدايات القرن العشرين. ومثل المرأة المسكينة في المقطع الثالث نجد في هذا المقطع الرابع صورة رجل مُستوحِد مثل حصان العربة في المقطع الأول. وإذ كانت صور الليل في حياة المرأة المسكينة في المقطع الثالث من هذه القصيدة هي الصُوَر الوحيدة التي تتطافر إلى السقف، نجد الرجل المسكين الضائع في مجتمع بدايات القرن العشرين يبحث عن بديل لما لا تناله يداه. فهو يبحث عن بديل للحب الذي يحلم به، ولا سبيل لبلوغه، فيذهب باحثا عنه في شوارع خلفية، نصف مهجورة، وفنادق تؤجّر لليلة واحدة. وبعد هذه الصوَر عن حياة البشر كما يراها ت.س. إليوت، لا نجد الشاعر متشائماَ بل ساخرا بمرارة فيخاطب القارئ بقوله: إضحك، فالعوالم تدور مثل عجائز يجمعن الحطب في رحبات خالية.
وهذه الصورية في كتابة الشعر عند إليوت إضافة إلى صور الضياع وشخصيات مثل المرأة في المقطع الثالث والرجل في المقطع الرابع تتكرر بشكل أوسع في قصيدته الكبرى «الأرض اليباب» التي صدرت عام 1922.

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية