«هواتف الليل»: شاعرية القصص القصيرة

 عبدالواحد لؤلؤة
حجم الخط
0

هذه مجموعة من القصص القصيرة للشاعرة المُبدعة الدكتورة بشرى البستاني، أستاذة الأدب العربي والنقد في جامعة الموصل، بالعراق. وهذه القصص القصيرة تتوهّج بشاعرية لا تُخطِئُها عين القارئ. والجوّ العام فيها يستحضر جوانب من المشاعر السائدة في تلك القصيدة الباهرة بعنوان «أندلسيّات لجروح العراق». والموضوع الرئيسي في هذه القصص هو الحب، ولكنه حُب من نوع خاص، هو حُب الوطن. نقرأ هذا منذ البداية. ففي الإهداء نقرأ: «إلى العراقيين الذين تحوّل بهم الكونُ إلى منفى من قلب الرافدين حتى المريخ. لجُرح روحهم الذي يفتح سقفَ التفّاح على بهاء السماء، ولنايِ أنينهم الذي يُشكِّل تضاريس الوجود».
أسلوب هذه القصص يُذكِّرنا بأسلوب النثر الشعري، كما في الشعر المنثور أو الشعر الحر بمعناه الدقيق، أي الشعر الذي كتبه الشاعر الأمريكي وولت، ويتمان (1819-1892) ونشره بعنوان «أوراق العُشب» عام 1855 وبقي يُعيد النظر ويصحِّح ويُعدِّل فيه ويُضيف طوال حياته. وفي القصص شخصيات حقيقية أو مُتَخَيَّلة. ولكن ليس فيها تهويمات ولا انقطاع عن الحاضر الملموس. ففي القصَّة الأولى بعنوان «الجنوب» نقرأ: «يقولون في مدينتها إن الخيول ترى في الليل أجنحة الملائكة فتَصهَل. سألَتهُ: هل ترى الخيول في مدينتكم، أجنحة الملائكة؟
ضحك وأخبرها أنه يرى أجنحة الملائكة تُظِلّه وهو يغطّي بشعرها الحريري وَجهَه، برائحته ذات العبير الكثيف ولونه البرونزي المائل للسُمرة».
«ريحٌ رطبةٌ تجتاحُ المكان تحمِل في هُبوبها رائحةَ الشبّو الليلي طالعاً من حديقة بيتها وهو يملأ الشارع عطراً متوحِّشاً…» إلى هنا والجوّ يوحي بمشهد حب بين حبيبين، وربما هما على وشك فراق اضطراري، فثمة إيحاء بوجود سيارة تنتظر الفجر للانطلاق إلى الجنوب. وثمة إيحاء بفراق يحمله إلينا «هاتف ليلي» والهاتف هنا يشبه الهاتف الذي ذكره الخيام في قوله «سمعتُ صوتاُ هاتفاً في السَحَر» ولكنه هنا هاتف من «هواتف الليل». وسرعان ما ندرك أن الحبيب هنا لا يشبه الحبيب في القصص والروايات الرومانسية. ولكنه مقاتل فلسطيني على وشك أن يغادر الحبيبة للذهاب بعيدا في مهمّة «سرية توكلُ إليه بين آونة وأخرى يغيب فيها عن زملائه أياما ثم يعود بعدها متفائلا يواصل أعماله معهم بحب، ويتقاسم وإياهم الخبز والبسمة والطرائف لكن بساطته وعذوبته لم تُنسِ أحداً منهم احترامَه».

الفلسطيني المقاتل

والحبيب الفلسطيني المقاتل قد درس الهندسة المعمارية، فهو فلسطيني بالدرجة الأولى، وعشقُه البشري لا يُنسيه عشقَ فلسطين. والعاشقة هنا تتغزل بيديه خشنتَي الملمس، لأنه لم يجد عملا سوى البناء ورفع الحجارة وتسليح السقوف، ففضّل البقاء في بلده الذي يعشق، ويقدم ما يستطيع دون الهجرة إلى بلد آخر تتوفر له فيه مكاسب مادية كبيرة. وهذا هو معنى التضحية في الحب.
«في الفجر يُعلن بوقُ سيارة خافت عن حضوره… وتهرع سيارة بسرعة لافتة تشُق ضباب صبح باكر باتجاه الجنوب». حصل الفراق إذن، وتوفّر الجو المأساوي في قصيدة الحب هذه.
وفي قصة أخرى بعنوان «توابيت» نلمس الواقعية القاسية المُرّة في أشد صورها وضوحا. بُعيد انتهاء الحرب صار الأسرى يعودون على وجَبات، وصار بعض المفقودين يعودون كذلك». فبعد غياب الحبيب غيابا طويلا في جبهات القتال أعتقد جميع من حول العاشقة أن العاشق قد غاب مع الغائبين في تلك الحرب، ففضّل جميع من حولها تزويجها لأحد إخوته لرعاية طفلتيها. وهكذا كان. وبعد مدة طُرِق الباب ووَسْط ثلَّةٍ من الرجال كان يقف كعهدها به وسيماً باذخاً وإن كان شيبٌ مُبكِّر قد غزا رأسه».
أيّة نفسٍ، بل أية روح تستطيع تحمّل هذا المشهد! «فالمهم أنه ما زال حيّاً وأن ذلك العبير الغامض عاد ليملأ الحياة من جديد».

الرمزية الغنيّة

وثمة قصة قصيرة أخرى بعنوان «سَرقة» فيها من الرمزية الغنيّة ما لا تُخطئه أيّة عين ممن لا تغيّبه عن أذهانهم صور ما يجري في عالمنا العربي المعاصر. «استفاق أهل الصحراء النائية فوجدوا أرضهم مليئة بسبائك الذهب لم يحسنوا جمعها ولا التصرف بها. جاءت أيدي غريبة فجَمعتها… ظلت السبائك تتكاثر. اعترض أهل الصحراء على هذه السرقة السافرة، فقطع الغُرباء ألسِنتَهم وأيديَهم… بمرور الأيام انتقلت سِمَة القطع إلى جينات دمهم فصاروا يلدون أطفالا مقطوعي الألسن والأذرع. ولذلك ظل الذهب يُسرق ليل نهار».
هل تستقيم تُهمة قراءة أفكار القارئ في مضامين هذه القصة القصيرة؟ هل المضامين السياسية-الاجتماعية بعيدة عما ترمي إليه القصة؟ وهل من التجديف النقدي أو الأدبي القول إن الإشارات إلى «بلاد النفطستان» شديدة الوضوح في القصة؟ أم أن النقد السياسي – الاجتماعي يجب أن يكون شديد الوضوح مثل المقالات الصحافية؟
نُشرت هذه المجموعة القصصية عام 2012 ولكنها تكاد تكون وصفا لما يحدث في بلادنا العربية هذه الأيام، وخصوصا في فلسطين. ولكن الجو العام في هذه القصص حزين بشفافية لا تغطي على شيء من الأمل بالقادم. ففي قصة بعنوان «الهلال» تكون رمزية طلوع الهلال واضحة بإشارتها إلى الأمل بالقادم. مثل هذا الأمل بالقادم ذلك المقتطف من «جحيم» دانتِه في بداية القصص: «لكَم أودّ أن أزيد من القول/ بيدَ أني لا أستطيع أن أطيلَ السير والحديث/ لأني أرى هناك دخانا جديدا ينبعثُ من الرمال». بهذا المعنى لا يمكن القول إن هذه القصص تتميز بالحزن أو التشاؤم، لأن طلوع الهلال «يلقي فوق مواكب الشتات حزماً من ضياء».
ولكن هل يستطيع طلوع هلال الشهر الجديد أن يضيء شيئاً من الأوصاف الحزينة في هذه القصة التي تكاد تصوِّر ما يجري في فلسطين هذه الأيام، وكأن خيال الشاعرة قد سبق الأحداث أو تنبأ بها!
تتحدث قصة «الهلال» عن أسرة كانت تتكون من ثمانية أفراد، لم يبقَ منهم إلا طفلين مع هذا الأب، فقد ذهب الجميع ضحايا نيران وقصف أهوج استهدف البلدة الصغيرة. ونقرأ أن «هذا الأب مع من نجا حوّلوا ملعب القرية الوحيد إلى مقبرة، وعندما ضاق المكان… صاروا يودعون في كل حفرة عائلة… قالوا له: أكتب أسماءهم على حجر، وادفنها معهم كي تعرف أجيال الغد الجريمة. هزّ رأسه وواصل السير. هل يحتاج الغد إلى وثائق كي يدرك حجم الجريمة؟ هنا يطلع هلال الشهر الجديد موحياً بشيء من الأمل، الذي تحدّث عن مثله شاعر «الكوميديا الإلهية»: دانته آليكييري.
ولا تتخلى هذه القصص عن موضوعها الرئيسي، وهو الحب، ولو أنه حُب في زمان ومكان غير لائقين ولا مناسبين، ولكنها النفس البشرية التي تبقى معلّقة بالأمل حتى في أحلك الظروف.
وكأن الشاعرة تريد أن تخفّف بعض الشيء عن القارئ الذي أصابه أكثر مما يستحق من المعاناة عمّا ورد في هذه القصص، التي لا يمكن القول إنها تبعث على التسلية أو المتعة. هذه قصة بعنوان «انسجام» تصف عاشقين «حين صارا وحيدَين في سيارته استعادا كل الأكاذيب التي سمعاها خلال جلسة المساء. كل من تحدّث كان يكذب، ويعرف أنه يكذب وكل من سمع كان يعرف أنه مكذوبٌ عليه، ولذلك كان الجميع منسجمين. حينما ودّعها عند باب الدار كانت تبكي وكان هو يمنحها منديلا لتجفف الدموع».
أليسَت هذه عودة إلى واقع الحياة بين عاشقين؟

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية