من تراث العراق: موسيقيّون ومغنّون وشعراء

 عبدالواحد لؤلؤة
حجم الخط
0

 في العصور الوسطى كان الناس في البلاد العربية يتنقّلون من بلد إلى آخر بحرّية، إذ لم تكن هناك جوازات سفر ولا عوائق في الانتقال. وكان الشعراء والفنّانون من كل نوع يتنقّلون بين البلاد طلباً للتوسّع في المعرفة والاطِّلاع على ما لدى البلد الآخر من ثقافات، والإفادة منها والتأثّر بها أو التأثير فيها. ولدينا أمثلة كثيرة على ذلك، ومن أهمّها انتقال العلماء والأدباء من الأندلس إلى المشرق العربي ونقل الكتب والعودة بها إلى حواضر الأندلس، ممّا أقام حضارة وثقافة طابعها أندلسي وجذورها مشرقية عربية من حيث الأساس الثقافي والفكري.

ولدينا مثال بارز في انتقال فنون الموسيقى والغناء من المشرق العربي إلى بلاد عربية أخرى وإلى الأندلس بالذات. وهذا المثال هو شخصية ونشاط المُلاّ عثمان الموصلي (1854-1923). ولد المُلاّ عثمان في مدينة العمادية في أقصى الشمال من العراق. وكان والداه كرديّان، ولكنه يعود في نَسَبه إلى عشيرة الدليم العربية، فنشأ يتقن الكردية والفارسية إلى جانب العربية. وقد عُرِف المُلاّ عثمان في شبابه قارئاً للقرآن بصوت رخيم، يجوِّد فيه حسب الأنغام الموسيقية. ثم انقلب إلى تلحين الأغاني الشائعة في تلك الأيام، ومنها أغنية «زوروني بالسنة مرّة» وهي في أصلها من التوشيحات الدينية في مدح الرسول. ولكن اللحن أعجب المغنّين الدنيويين، فاستعملوه في تلحين أغنية عن الحب الدنيوي، وتناقله المغنّون في بلاد الشام ومصر من دون الإشارة إلى صاحب اللحن، إذ لم تكن في تلك الأيام، كما هو الحال في هذه الأيام في بلادنا العربية، مسألة تدعى «حقوق الملكية الفكرية أو الفنية». وقد لحّن كذلك عدداً من الأغاني مثل «فوق النخل فوق فوق» وكذلك» البنت الشلبية» و«طلعت يا مَحلا نورها» و«قَدّك الميّاس». وقد أخذ هذه الألحان وطبّقها على أغانٍ أخرى عدد من المغنّين اللاحقين مثل سيد درويش وغيره كثيرون، فأصبحت الألحان والأغاني لصيقة بأسماء أخرى، وتضاءل حتى اختفى إسم الملحِّن الأصلي المُلاّ عثمان الموصلي.
ولدينا مثال مُهمّ آخر في انتقال الفنون، إلى جانب الآداب، من المشرق العربي، ومن العراق بالذات، إلى بلاد الأندلس، من دون إهمال المصدر، وذلك في نشاط وشخصية زرياب، علي ابن نافع (789-857) الموصلي أصلاً وثقافةً موسيقية. وزرياب هو طائر أسود غَرِد، صار لقب المغني الموسيقي لأنه كان داكن البشرة جميل الصوت كتغريد الطائر.
وقد تلمذ زرياب على الموسيقي الموصلي إسحاق وتميّز في العزف على العود وقد أضاف وتراً خامسا على العود مما أكسب الألحان مذاقا جديداً، واستمرّ في تطوير الألحان والإبداع فيها حتى دبّت الغيرة في قلب الأستاذ. ويُقال إن زرياب كان يخشى على حياته، لذلك فكّر بالهجرة إلى بلاد الأندلس وهناك أقام في قرطبة، وأسّس أول مدرسة للموسيقى حيث عمل على تطوير آلة العود إلى قيثارة شكّلت الأساس في ألحان الفلامنكو.
عندما حمل زرياب عوده إلى الأندلس أجرى على أوتاره الخمسة بعض التعديلات مما جعله مناسباً للأغاني والرقصات التي صار اسمها لاحقاً «فلامنكو». وقد اختلف الباحثون في أصل هذه الكلمة وتطوّرها، فمنهم من قال إن أصلها «فلاح منكو، أو منكم» أو «منكوب». وهي إشارة إلى الموريسكيين وهم بقايا الأندلسيين في أواخر أيام العرب في الأندلس من الذين وقعوا تحت ظلم الإسبان أيام حروب «الاسترداد» ففقدوا أراضيهم التي كانوا يزرعونها، وصاروا يغنّون الأغاني الحزينة التي تروي مآسيهم. وهنا يظهر دور العود بما فيه من مزيّة «الربع تون» التي تستجيب للغناء الحزين، كما يقول العارفون بفنون العزف على العود. ولأن آلة العود الموسيقية لم تكن معروفة في إسبانيا ولا في أوروبا فصارت تكتب  lute «لوت» ولكن ما طوّره زرياب في العود جعله أشبه بالكَيتار ويستجيب للألحان الحزينة التي هي الأساس في الغناء والرقص الفلامنكو. وقد انتشر الغناء والرقص من هذا النوع في غرناطة وأطرافها لأنه كان يشبه إلى حد بعيد «الشعبي» الجزائري و«الطرب» الغرناطي.
وقد أدخل زرياب بعض المظاهر الحياتية على الأندلس، مثل تطوير المطبخ وإدخال طبخات جديدة، ومنها استعمال عشبة الهلَيون «إسباراكَوس» ومنها تحضير الحلوى المسماة «كيرلاجي» وأحسبُها فارسية الأصل، كانت معروفة ببغداد العباسية. وهو الذي أدخل استعمال الشوكة والسكين لتناول الطعام بدل استعمال الأيادي، كما كانت العادة عند العرب والأقوام الأخرى.
وتروي بعض كتب المصادر التاريخية أن زرياب أدخل إلى الأندلس عمل بعض الحلويات التي كانت معروفةً في العصر العباسي مثل الزلابية، وهي الحلوى التي يكثر تقديمها في شهر رمضان المبارك. وقد تغنّى بها الشاعر العباسي إبن الرومي إذ قال:

أبصرتُه سَحَراً يقلي زلابيةً / في رقّةِ القِشر والتجويفُ كالقصبِ.

كما تذكر أنه أدخل أكلة «البائيّة» كما تلفظ بالإسبانية اليوم، وأصلها «البقية» بتخفيف القاف إلى همزة، وهي ما تبقّى من الطعام المتنوع في المائدة العباسية إذ كانوا يجمعون ما تبقى من اللحم والسمك والخضار والبقول وغيرها فيجعلون منها وجبة كاملة جديدة، بدل أن ترمى بقايا الطعام، وهي مسألة مُحرّمة في التعاليم الإسلامية. وقد أصبحت اليوم وجبة متميِّزة في إسبانيا إذ تُحضَّر من مختلف المواد مثل اللحوم والأسماك والخُضار والبقول، وقد تختلف من بلاد مثل فالنسيا أو مدن الجنوب الإسباني.
كما أدخل زرياب فنون تصفيف الشعر للرجال مثل قص مقدمة الشعر في أعلى الجبهة، ومثل رسم الحواجب للنساء بخطوط سوداء فوق الحاجبين. وفي مجال التسلية واللعب أدخل لعبة الشطرنج إلى قرطبة، وهي من الألعاب الفارسية المعروفة ببغداد العباسية. وفي مجال الصحة البدنية أدخل وسائل العناية بالنظافة الجسدية. وهذا يذكِّرنا بما ورد في بعض كتب التاريخ الأوروبية عن ملكة أوروبية حكمت لمدة طويلة وكانت تكره الاغتسال قائلةً: «أنا لا أجد سبباً لتبليل جسدي من الرأس إلى القدم أكثر من مرّة واحدة في السنة، إلاّ إذا كان من سبب يدعو لذلك». وقد انتهى الأمر بتلك الملكة أن أصابها «الإنتان» فقضى عليها.
كما أدخل زرياب أيضاً استعمال معجون الأسنان لتنظيفها بعد الوجبة من الطعام، بدل استعمال «المسواك» تلك القطعة الرخوة من غصن نباتي، تتفرع نهايته إلى شعيرات بها صلابة، فتقوم بعمل الفرشاة التي يسميها التونسيون «المكنسة» كما أخبرني شاب تونسي!
وليس من المستغرب اليوم أن نتساءل: هل تدرك مجتمعات اليوم أن كثيراً من مظاهر الحياة والحضارة الحديثة، مما يحسب أوروبياً في مصدره، إنما هو أندلسي بجذور مشرقية؟
وثمة مجال آخر يبيّن انتقال بعض معالم الحضارة العربية من العراق إلى الأندلس، وهو مسار التطوّر في الشعر. كان الشعراء الأندلسيون يتطلّعون دائما إلى ما في المشرق العربي من شعر. فإذا نبغ فيهم شاعر قالوا إنه متنبي الأندلس أو أبو تمام الأندلس. وعندما بدأ التطوّر في نظم الشعر في العصر العباسي، بشكل خاص، وظهرت أشكال في النظم وبعضها باللهجة العامية مثل «القوما» و«الكان كان» وبعضها ينوِّع بنظام القوافي، تحرّك الشعراء الأندلسيون فأوجدوا نظاماً في القافية والمقاطع في القصيدة سمَّوه «الموشح» وهو باللغة العربية الفصيحة، ثم ظهر بعده شعر باللهجة العامية وبخاصة لهجة قرطبة، أبدع فيه إبن قُزمان (ت 1160م). ومن التطوير الأندلسي في هذا النوع الجديد من نظم الشعر انتهاء القصيدة في بيتٍ أو اثنين بلهجة عامية، أو بلغةٍ هي في الغالب «لطينية الأندلس». وهذا نوع من محاكاة بعض ما شاع في بغداد العباسية من شعر «هجين» تغنّيه القِيان الفارسيات أو الروميّات. ولكنه في الموشح الأندلسي، كما في الزجل، تنتهي القصيدة ببيت أو اثنين بلهجة محلية مطوّعة للعامية العربية. وهذا مثال على ذلك، يتغزّل الوشّاح فيه بغادة «بابلية» ذات عيون ساحرة، لأن بابل هي بلد السحر في المأثور الشعبي:

لحظاتٌ بابلية/ ملأت قلبيَ عِشقا. ولَمى ثغرٍ مُفلّج/ لائمي منه مُوقّا….

وينتهي الموشح بهذه الصورة الطريفة من لغة المزيج بين الاسبانية العامية (لطينية الأندلس) والعامية العربية التي تنتهي إلى عبارة لا معنى لها، بقصد إثارة الضحك:

البَ ديّا إشتَ ديّا/ ديّا ذا العَنصّرة حقّا. بشتري ميّو المدَبّج /ونشُقّ الرمحَ شقّا.
ومعناها: نهارٌ مشرقٌ هذا النهارُ/ نهارُ يوم العَنصَرة (القديس يوحنا؟)/ سوف أرتدي مُطرَفي ( ردائي المطرّز) ونشقّ الرمح شقا، لا معنى لها سوى إثارة الضحك لما فيها من تفاهة.
ولكن الكثير من الموشحات تنتهي ببيت من الشعر مستعار من شاعر عراقي عباسي معاصر، في الغالب، هي «الخرجة» وهذا توكيد للعلاقة المتجذّرة بين الشعر الأندلسي في الموشّحات والأزجال وبين الشعر العربي المشرقي. وفي «ديوان الموشحات الأندلسية» للدكتور سيد غازي (الإسكندرية 1979) كثير من الأمثلة التي يستعير فيها الوشاح «خرجة» من شاعر مشرقي هو عباسي في الغالب.
لقد كان من آثار هذا الانتقال الثقافي في الشعر والموسيقى، من المشرق العربي إلى الأندلس في مغرب القارة الأوروبية، نتائج أغفلتها أغلب الدراسات والبحوث، لحاجة في نفس يعقوب، في الغالب. ولكن القليل من الدراسات المُنصِفة، غير المتأثرة بالعَنعَنات والتعصّبات القومية والدينية، استطاعت أن تبيِّن أن من أبرز نتائج هذا التأثير الثقافي المشرقي، في انتقاله إلى الأندلس، هو نشوء أول شعر دنيوي غنائي أوروبي غير خاضع لسطوة الكنيسة، وبلغة عامية محلية منسلخة عن اللاتينية، انتشرت في أنحاء أوروبا، وكانت المِهاد لظهور وتطور أول شعر غنائي دنيوي، تطوّر في لغات شتى حتى وصل بنا إلى غنائيات شكسبير.

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية