هل تعلّم العربية صعب؟

عبدالواحد لؤلؤة
حجم الخط
0

نشرت صحيفة بريطانية بارزة قبل أسبوعين مقالاً يقول فيه كاتبُه إن تعلّم اللغة العربية صعب، بل قد تكون العربية من أصعب اللغات على المتعلِّم. وهو يوحي، بل يقول صراحةً، لأنها لغة تختلف عن لغتك في الأساس. وأحسب أن هذا الكلام فيه غرارة وتسرّع في الحكم. فلو لم تكن العربية، أو أية لغة، تختلف عن لغتِك، لما سعيتَ إلى تعلّمها، لأن بكَ حاجةٌ إليها. والحاجة تقتضي الجهد. والحاجة قد تكون رغبة المرء في الاطِّلاع على ما في تلك اللغة من آداب وعلوم وثقافة. هذا صاحب «الديوان الشرقي للمؤلف الغربي» الشاعر الألماني كَوتِه، المتأثر بالشاعر الفارسي حافظ الشيرازي، يبيِّن اهتمام الشاعر الألماني بالإطلاع على ما في الشعر الشرقي، مما قاده إلى تعلّم الفارسية، ولا ندري كم أتقن من تلك اللغة حتى استطاع أن يقرأ شعر حافظ الشيرازي ويكتب بلغته الألمانية تحت تاثير لغة «تختلف عن لغته».
ومثل ذلك مساعي الفرنسي آنطوان كَالان (1646-1715) الذي اجتهد في تعلم اللغة العربية لكي يستطيع ترجمة «ألف ليلة وليلة». ولا شك أنه قد عانى كثيراً في الترجمة من «لغة تختلف عن لغته» ولكنّه الاندفاع الأصيل نحو المعرفة. وقد نشرت هذه الترجمة إلى الفرنسية أول مرّة عام 1717 وعنها ترجمت «الليالي العربية» إلى عدد من اللغات الأوروبية، وشكّلت بذلك أول أسس الكتابة الروائية في العصر الحديث.
ولدينا مثال آخر في ترجمة أشعار عمر الخيام من الفارسية إلى العربية قام بها الشاعر المصري أحمد رامي (1892-1981). أُرسل أحمد رامي إلى باريس لدراسة «علم المكتبات» وعاد بشهادة في ذلك العلم، لكنّه أفاد من الفرصة لدراسة اللغة الفارسية في مدرسة اللغات الشرقية بباريس، وبدأ بترجمة مختارات من شعر عمر الخيام، وكانت أول ترجمة إلى العربية أشاعتها وسائل الإعلام في مصر، وزاد من شعبيتها وانتشارها غناء أم كلثوم. وقد انتشرت تلك الترجمة إلى العربية انتشارا ًواسعا، على الرغم من بعض التعليقات النقدية من جانب بعض العارفين باللغة الفارسية من أن الشاعر أحمد رامي قد تصرف بعض الشيء في ترجمته إلى العربية.
ولدينا مثال بارز آخر لمساعي الشاعر العراقي أحمد الصافي النجفي (1897-1977). كان النجفي يتقن اللغة الفارسية بحكم نشأته في النجف والمحيط الديني الذي يكثر فيه الناطقون باللغة الفارسية. ولكنه كان كثير التشرّد والتجوال في البلاد وقد قضى أكثر من 20 سنة في إيران، صقلت معرفته باللغة الفارسية، فبدأ يترجم شعر الخيام إلى شعر عربي، يقول العارفون باللغة الفارسية ودقائقها أنها ترجمة عربية شديدة الشبَه بالأصل الفارسي.
وأذكر عند أوّل وصولي، باحثاً زائراً إلى جامعة كمبرج عام 1971 أن أستاذاً كبيرا جاء ليرحِّب بي عندما علم أني قادم من العراق، فكان أول سؤال لي: ما أخبار المونولوجست عزيز علي، وما هي آخر إصداراته؟ ثم قيل لي إن الرجل أقدم أستاذ للغة العربية في جامعة كمبرج، وأنه مستشار الخارجية البريطانية في شؤون البلاد الناطقة بالعربية، لأنه متخصص بلغة اليمن وجنوب الجزيرة العربية. ولكن عزيز علي يكتب بالعامية العراقية التي قد لا تكون مفهومة تماماً عند بعض العراقيين، فما بالك ببعض البلاد العربية الأخرى!
وأحسب أن صعوبة تعلّم لغة غير لغتك مسألة تتعلق بطريقة التعليم بالدرجة الأولى. فإذا كان المعلم خبيراً بلغته هوَ، استطاع أن يختار وسيلة «لتوصيل» المعرفة باللغة الجديدة وتجنّب المزالق المتعلقة بالنحو والصرف وشواذ الجموع في المرحلة الأولى من التعليم. وأذكر مثالاً ملموساً لذلك في طريقة طوّرها البروفيسور آي.أي. رجاردز، أستاذي بجامعة هاررد والمشرف على دراستي في مرحلة الماجستير، طريقة سمّاها «اللغة من خلال الصوَر» طبّقها في اللغات الانكَليزية والإسبانية والفرنسية وغيرها من اللغات الأوروبية، ولكن لم يمكن تطبيقها على العربية لسبب جوهري وهو أن حروف اللغة العربية غير متفرِّقة مثل اللغات الأوروبية، بل إن كل حرف يُرسم بثلاثة أشكال: بدئية- وسطى- نهائية، وقد تكون الكلمة من ثلاثة حروف أو أكثر، تختلف أشكال رسمها باختلاف الكلمة، وهذا ما يجعل عملية التعلّم صعبة.
ولكن كان في لبنان مدرسة في بلدة «شملان» متخصصة بتدريس اللغة العربية للأجانب، وكان طلابها جميعاً من أصحاب السياسة والدبلوماسية، ولا أدري إن كانت تلك المدرسة ما تزال موجودة، وتمارس نفس الأنشطة! ولكن الذي سمعتُ أن عدداً كبيراً من الدبلوماسيين الأجانب قد تخرج في تلك المدرسة، وقد ظهر بعضهم على التلفزيونات، ولاحظتُ نبرة لبنانية في كلامهم عندما يستعملون بعض الكلمات العربية في أحاديثهم. هؤلاء حتماً كانت بهم حاجة لتعلّم العربية لأغراضهم المهنية.

اللغة الأساس

وثمة مثال طريف حول لغة مصطنعة تقوم على لغة أصيلة، والغرض منها تسهيل الوصول إلى ثقافة مرغوبة، ولكن لغة تلك الثقافة قد لا تكون في متناول الشخص. هذه لغة طوّرها أستاذي البروفيسور رجاردز بإسم «اللغة الأساس» قوامها 850 كلمة انكَليزية منتقاة من بين ألوف الكلمات الانكَليزية، يمكن بها التعبير عن أي موضوع تناولته كتب الأدب والفلسفة، بدأً بكتاب أفلاطون «جمهورية أفلاطون» إلى جانب «الإلياذة» ملحمة هوميروس. وعند قراءة هذين الكتابين يشعر المرء أنه في أرض مألوفة، وأنه يقرأ بلغة جديدة كان من السهل عليه تعلمها والقراءة بها.
أما «المستشرقون» وأصحاب الأنشطة التبشيرية فحاجتهم إلى تعلّم العربية مسألة مفهومة. وما زلت أذكر «مسيو بير جان فييه» ذلك الجزويتي الفرنسي الذي أسس وأدار مدرسة ثانوية ممتازة في مدينه الموصل وكان يصرّ على محادثتي باللهجة الموصلية العريقة. فما الذي كان الدافع لمثل هذا الفرنسي أن يتقن اللغة العربية وباللهجة المحلية؟
ولدينا مثال جيد من قدرة البروفيسور الفرنسي جاك بيرك الذي كان عراقي الهوى، ويرعى الطلبة العراقيين في باريس. وُلِد هذا الفرنسي في الجزائر وهناك تعلم العربية بالاختلاط مع الجزائريين بالدرجة الأولى وبقيت لهجته العربية جزائرية في نبرتها. كان هذا الرجل شديد الإعجاب بالشعر العربي، وبالبلاغة العربية، وكثير الزيارات إلى العراق. وقد أخبرني مرة أنه يفكر جدّياً بإخراج ترجمة جديدة للقرآن الكريم باللغة الفرنسية، ولا أدري ما حلّ بذلك المشروع، ولكنه دليل على تمكّن الرجل من قدرته اللغوية في العربية، وهو الفرنسي الأستاذ المتميّز في جامعة السوربون.
وقد نختم هذا الحديث عن أهميه تعلم لغه ثانية لغرض ترجمة أو نقل نص ثقافي مهم أو نص مقدس مثل ترجمة معاني القرآن الكريم. لقد اطّلعتُ على17 ترجمة لمعاني القرآن الكريم إلى اللغة الانكَليزية وجدتُ في بعضها تقصيراً في فهم النص لاعتماد الناقل على ورود معنى الكلمة في القاموس دون النظر إلى ظلال المعاني. ولدينا مثال ترجمة عبد الله يوسف علي الهندي المسلم الذي نشر كتابه أول مرة عام 1948. وجاء في الكتاب كثير من الأغلاط بسبب التقيّد بالمعنى المعجمي دون النظر إلى المعنى الأوسع. من ذلك أن كلمة أمر في عبارة «قل الروح من أمر ربي» أي أن الروح شأن من شؤون ربي، جاءت في الترجمة «أمر» كما يصدر الأعلى أمراً إلى الأدنى. ومثل ذلك كثير.
في جميع هذه الأمثلة تكون الحاجة هي الدافع للتعلّم والتغلّب على الصعوبات. وتعلّم اللغة يكون بالمحاكاة بالدرجة الأولى، كما نجد في محاكاة الطفل لكلام والديه أوّلاَ، ومن بعد ذلك بمحاكاة الأصحاب والجيران ومجموعات اللعب. وهنا يكون دور الوالدين والإخوة الكبار في تقويم اللفظ وإبعاد الكلمات غير المناسبة تربوياً. وشبيه بذلك ما يقوم به معلِّم اللغة في تقويم اللفظ عند المتعلِّم. وهذه عملية بطيئة ومستمرة، تبقى مع المتعلم على امتداد الأيام، والعيش في بيئاتٍ مختلفة وبلاد مختلفة.
ومن بين مهمّات مُعلِّم اللغة توضيح دقة اللفظ لبعض الحروف في بعض البلاد العربية. فالحرف ج مثلا ينطق مخففا حتى يصبح شبيه حرف الياء في لهجة جنوب العراق وبعض دول الخليج. وقد لاحظتُ ذلك في أيام الدراسة في دار المعلمين العالية ببغداد في أربعينات وخمسينات القرن الماضي. فقد كانت الكلية وأقسام السكن فيها صورة لمختلف اللهجات العربية في العراق. فكلمة دجاج تلفظ: دياي، وكلمة «جاي يجيب» تغدو: ياي يييب. ومثل هذا في بعض دول الخليج. وعلى مدرّس اللغة أن يوضح هذه للمتعلمين والتوكيد على أنها لهجة عامية وليست من الكلام الفصيح. ومثل ذلك لفظ حرف الجيم في مصر حيث تغدو كافا معجمة. وقد صار بعض الكتّاب المصريين يرسمون الجيم الأصيلة بثلاث نقاط تحتها فتقرأ في العراق مثل الجيم الفارسية أوالهندية مثل جادر أي خيمة أو غطاء.
وقد يكون هناك بعض الصعوبات في تعلّم اللغة العربية، ليس من الصعب التغلب عليها عندما تفسّر للمتعلِّم ويجري نطقها بالشكل القياسي، غير المحلّي أو العامّي. تلك هي الحروف: ح-خ-ص-ض-ط-ظ-ع-غ-ق. لا يستطيع عاقل أن يلوم اللغة العربية لأن فيها هذه الحروف. فهل يستطيع عاقل أن يلوم اللغة الصينية على ما فيها من حروف «لا تشبه لغة المتكلم» الذي يريد دراسة اللغة الصينية؟ أسأل كاتب المقال في الجريدة الإنكَليزية المحترمة!
هل يذكر كاتب المقال الانكَليزي كيف ظهرت اللغة الانكَليزية في بريطانيا بعد دخول وليم الفاتح وغزو البلاد عام 1066 فأدخل اللغة النورماندية-الفرنسية إلى البلاد، وبالتدريج أزاحت اللغة َالانكَلو سكسونية بأصولها الجرمانية، وصارت الطبقات العليا من أهل البلاد تتحدث بلغة أنكَلو نورماندية، تتطور بالتدريج إلى لغة فرنسية، واستمر الحال عبر ثلاثة قرون نجد أفضل أمثلتها في شعر جيفري جوسر(1340-1400) الذي يُعَد أبو الشعر الانكَليزي؟ يا ترى كيف تحوّل الناس في بريطانيا إلى تعلم اللغة الانكَلو نورماندية وبعدها إلى اللغة الفرنسية إلاّ لحاجتهم إلى ذلك، فتعلّموا بالمحاكاة وتقليد المتكلمين بها، ولم يكن لديهم معلِّمون أو متخصصون بتلك اللغات الدخيلة على بلادهم.
تعلّم اللغة العربية بالنسبة للناطق بأية لغة أوروبية ليس صعباً إذا توفّرت الحاجة والرغبة في التعلّم، ويساعد في ذلك كثيراً وجود ناطق بالعربية السليمة لكي يقود خطوات المتعلِّم.

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية