هل الفيلم النضالي الفلسطيني «أرشيف منفى»؟

حجم الخط
0

في الحالة الفلسطينية، وتحديداً لسينما الثورة، النوع النضالي منها على الأخص، الأفلام التي صنعتها فصائل منظمة التحرير الفلسطينية منذ نهايات الستينيات حتى أوائل الثمانينيات، تكثر الإشارات إليها كأرشيف، وكذلك إلى كونها أرشيف منفى، تماماً كما جاء عنوان الحدث الذي شهدته سينماتك تولوز هذا الشهر، بتنظيم من مهرجان السينما الفلسطينية في المدينة الفرنسية.
قبل الحديث عن فكرة الأرشيف التي تحيط بتجربة إعادة إحياء هذه السينما، من خلال عمليات رقمنة وكذلك ترميم، شهدتها السنوات الأخيرة، وما تلا ذلك من عروض لأفلام الثورة في مناسبات ومهرجانات، لنتفق أولاً على خطأ تسميتها بالمنفى. هي تسمية صالحة للنقاش بكل الأحوال، فلا تثبيتها صريح ومطمَئن ولا كذلك نقضها، لعدم نمطيّتها في الحالتين.
هذه الأفلام صنعها لاجئون فدائيون، لا في منفاهم، بل في خيم ومعسكرات لجوئهم، المحيطة ببلادهم. ليست سينما منفيين، بل سينما شعب كامل تجنّب النفي ونصب خيمته على أبواب بلده. المنفى حالة فردية، الشتات حالة جماعية، وهذه السينما جماعية، حتى توقيعاتها كانت بأسماء مجموعات أولاً، وعمليات صناعاتها كانت كذلك جماعية، وكانت متخطية الفلسطينيين، المشتتين أو المنفيين، إلى عرب وأجانب ساهموا في صناعة هذه السينما.
ليست إذن سينما منفى، وإن تفهّم أحدنا تسمية غيره لها بسينما منفى. هي أفلام بين أهلها. المؤسسات المنتجة لها، منظمة التحرير الفلسطينية وفصائلها، تحيط بها، بصناعتها وصنّاعها. موضوع هذه الأفلام، أهالي المخيمات، يحيطون بها كذلك. فمضامين هذه الأفلام وشخصياتها، هي حاضنة للفيلم لا منفية عنه، هو غير منفي عنها، بل لصيق بها ينال عرضه الأول في أزقة المخيمات. الجهات الصانعة للأفلام هي كذلك في المحيط. تخرج هذه الأفلام أخيراً إلى مهرجانات باسم منظمة التحرير الفلسطينية، الممثل الشرعي والوحيد آنذاك للفلسطينيين وثورتهم، وهذه الأخيرة منظمة مخيمات وشتات بالدرجة الأولى. ما يجعل الفيلم النضالي فيلماً في بيئته وبين أهله ومؤسساته لا فيلمَ منفى متجوّل.

هي ليست إذن سينما منفى، بل سينما مستقرة بين أهلها اللاجئين والمشتتين، وليس في هذا التوصيف أي منفى. هي كذلك ليست أرشيفاً، والحكم هذا تقني تماماً، هي أفلام نضالية، وهذا النوع السينمائي انتشر في الخمسينيات، لكن تحديداً الستينيات والسبعينيات، وهو واعٍ لذاته، له نظرياته وقبلها وبعدها أفلامه المتخطية للثقافات والتجارب النضالية، من فيتنام إلى كوبا مروراً بفلسطين.
هو نوع سينمائي له تراكيب شكلية ومضامينية تفصح عنه، أنتجته حركات تحرر ثورية وطنية واجتماعية. له إذن وظيفة إخبارية وتحليلية وتحريضية. والفيلم النضالي الفلسطيني خلال السبعينيات، والمشارك في مهرجانات من لايبزيغ إلى موسكو مروراً بطشقند وقرطاج، له حضور متميز فيها كما كان لثورة الفلسطينيين حضورها.
هي ليست إذن لقطات أرشيفية، بل هي أفلام اعتمدت على لقطات منها تلك الأرشيفية. ولا يمكن لسينما واعية لذاتها، لطبيعتها، وهي امتداد لسينما عالمية مماثلة، أن تُسمّى أرشيفاً، كأنها لقطات عشوائية تائهة، ومواد خام، بل هي النقيض من الأرشيف، فالأخير مادة محايدة تُجيَّر للموقف الفكري والسياسي. الفيلم النضالي موقف فكري وسياسي ناضج يستخدم الأرشيف.
الأفلام هذه سينما نضالية وليست أرشيفاً، وهي ليست منفية، بل سينما ثورة، ثورة لاجئين فدائيين، لا منفيين فرادى في أقاصي الأرض.
في كل الأحوال، تسمية هذه الأفلام أرشيفَ منفى ليست إساءة لها، بل سوء فهم للحالة الفلسطينية، شعباً ومخيمات، وثورةً وسينما. والعمل العظيم الذي قامت به سينماتك تولوز، تحت عنوان «أفلام فلسطينية، أرشيف في المنفى» يستحق امتنان الفلسطينيين، وأملهم في أن يمتد هذا الاهتمام بأفلام الثورة الفلسطينية إلى آخرين في العالم لاستعادته، رقمنته، وترميمه إن أمكن، وإتاحته بشتى الأشكال.

قبل سنوات قليلة جمع هذا المهرجان للسينما الفلسطينية (سينيبالستين تولوز أوكسيتاني) بين خديجة حباشنة، مؤرشفة سينما الثورة، والسينماتك المعنية أساساً بالأرشيف السينمائي للشعوب، وبعمليات الرقمنة والترميم. الثمرة كانت في دورة هذا العام، وهي العاشرة، للمهرجان، بعروض أفلام بعضها يتاح لأول مرة، وبعضها موجود مسبقاً بنسخٍ أقل جودةً.
هي أفلام «خروج 1967» لعلي صيام (1968 – 13 دقيقة) «الفتح 1968» لذاوالت (1968 – 11 دقيقة) «كفر شوبا» لسمير نمر (1975 – 31 دقيقة). كانت هذه عروض اليوم الأول مسبوقةً بطاولة مستديرة شاركت فيها ليلى شهيد وخديجة حباشنة. أما اليوم التالي فكان بأفلام هي «الحرب في لبنان» لبكر الشرقاوي (1976 – 62 دقيقة) «مشاهد من الاحتلال في غزة» لمصطفى أبو علي (1973 – 13 دقيقة) «شهادة الأطفال في زمن الحرب» لقيس الزبيدي (1970 – 18 دقيقة) «أطفال لكن» لخديجة حباشنة (1979 – 21 دقيقة).
كان للفلسطينيين في السبعينيات مكانة ضمن تيار سينمائي خاص، ارتبط بنضالات شعوب هذه الأفلام وأهلها. كان الفلسطينيون واعين نظرياً وتطبيقياً لهذه السينما. وكانت سينما تحررية في روحها ونضالية في نوعها وثورية في سياقها. فلتكن إذن مرجعاً أو درساً لكل عمل سينمائي فلسطيني اليوم.

كاتب فلسطيني سوري

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية