فرح فلسطيني رغم الحصار… وسينما تتجاوز أزمتها الراهنة

ليس غريباً على الفنان الفلسطيني ذلك الإصرار على المقاومة والاستمرار في إبداعه السينمائي، كأن شيئاً لم يتغير من حوله، ثمة قوة غريبة تدفع بالفنانين إلى تسجيل يومياتهم القاسية على الشريط السينمائي لتبقى معاناتهم وبطولاتهم وثائق تتأملها الأجيال القادمة، بزهو وفخار، فما بين النزوح من مكان إلى مكان، ومن مُخيم إلى مُخيم تحت الأمطار وزمهرير الشتاء وحرارة الشمس وقيظ الصيف الحارق، تكمن الخصال وتتأكد البسالة ويثبُت قانون الشجاعة والبقاء.
تلك المُفردات هي العناصر الأساسية لفيلم «يافا» للمخرج الفلسطيني سعود مهنا، ذلك الصنف الوثائقي الخاص، الذي اتبع فيه المخرج خطوات التسجيل الدقيق ليوميات الشعب البطل، بكل فئاته وطوائفه، مُستنطقاً الحجر والشجر والبشر في شهادات للتاريخ عن آيات الغدر الصهيوني وتخلي الأشقاء والأصدقاء وانتفاضات الشعوب الحرة من خارج المُحيطات القريبة.
لم ينطو فيلم «يافا» على مشاهد تأثيرية لحالات الاستشهاد وجوع الأطفال ولوعة الأمهات الثكلى فقط، لكنه اعتنى بآثار التدمير، التي أسكتت صوت المدينة الصادح بالغناء، وأقعدت الصبايا عن الزغاريد وأطفأت الابتسامات المضيئة في الوجوه، وأخرست الصخب البريء للهو الأطفال وأسقطت البنايات الشاهقة الشامخة، لكنها أبداً لم تُنكس العلم الفلسطيني، بل زرعت رايات النصر في كل شبر من أرض الوطن، وعند كل ناصية وفي الشوارع والطُرقات وأطلقت الحناجر بالآذان ـ الله أكبر ـ حي على الصلاة ـ حي على الفلاح ـ حي على الجهاد. وفي تناغم قرعت فلسطين أجراس الكنائس وهبت على قلب رجل واحد تُلبي نداء البطولة والفداء، فلا مجال لفتنة أو وقيعة أو فصام أو تشرذم، فما بين يافا وحيفا وعكا والخليل ودير ياسين واللد والرملة وطولكرم وغزة والقدس وجنين وبيت لحم والناصرية، تتوحد القوى ويبزغ الفجر بعد انقشاع الظلام. يافا التي دارت حولها الأحداث وحمل عنوانها الفيلم الوثائقي، الذي تم تصويره خلال بضعة أيام، ليست سوى شارة لبقية المُدن والقُرى، ومنصة تُرسل من خلالها السينما الفلسطينية رسائلها المرئية والمسموعة للعالم، كي يرى كيف يحيا الشعب الأبي بين القصف والقصف، بغير ركوع أو خنوع، بيد أنه يواصل مسيرته على طريق الصمود، ويتحدى الموت بالإبداع ويرفض الانزواء والانطواء والانكسار. إنها عبقرية السينما الوثائقية، تبدت في تسجيل الواقع الحي المُعاش بلا خوف أو رهبة من مدفع أو بندقية أو عدو موتور، حتى الأطفال سارة عمر ووسام النجار، وبطل الفيلم محمد جودة كان لهم نصيب وفير من الحضور القوي المؤثر شكلاً وموضوعاً، فهم همزات الوصل بين الحكايات والشخصيات والرؤى وفصول المأساة بتقسيماتها الزمنية والتاريخية، وهم أيضاً عناوين المُستقبل بإشراقه وتنبؤاته وتفاؤله.
من يستعرض مشوار المخرج الفلسطيني سعود مهنا السينمائي والإبداعي لا يُدهشه ما أبدعه في فيلمه الأخير يافا فهو صاحب السلسلة السينمائية الطويلة والمتميزة من الأفلام التسجيلية والوثائقية، التي أنجزها على مدى ثلاثين عاماً أو يزيد، كفيلم «هُم في الذاكرة» الذي وثق فيه لعملية قتل الأسرى المصريين في حرب 48، وألقى الضوء على بسالة الشهيدين البطلين أحمد عبد العزيز ومصطفى حافظ، وفيلم «صرخة أمل» و«معبر الموت» و«أطفال لكن» و«رغم الحصار» و«نورا» و«البداية حُلم» و«صراخ الصمت» و«الشجرة المُباركة» و«جدتي الشجرة» إلى آخر قائمة أفلامه التي حصل بموجبها على العديد من الجوائز وشهادات التقدير.
ولم يقتصر مشوار المخرج وكاتب السيناريو سعود مهنا على مجرد الإبداع المهني والفني، وإنما هو مضطلع أيضاً بقضايا السينما الفلسطينية وفعالياتها، فهو رئيس المُلتقى الفلسطيني، الذي يُمارس نشاطاً أكاديمياً كمدرسة لتعليم أصول الإخراج السينمائي وكتابة السيناريو وفن التمثيل، فضلاً عن أن مهنا هو مؤسس مهرجان العودة، والعامل على إقامة دوراته بانتظام منذ 8 سنوات، رغم التحديات والظروف الصعبة، وشُح التمويل واستمرار الحصار الأمني الصهيوني، فها هي جهود المهرجان والعاملين فيه تُبذل بإصرار للبحث عن مصادر تمويل ذاتية وقانونية، وأفلام متميزة وقوية للمُشاركة في فعاليات الدورة المقبلة لعام 2024، التي تحمل شعار انتظار العودة عودة، ويتم إهداؤها لدولة جنوب افريقيا، وترصد جائزة خاصة باسم الزعيم والمناضل نيلسون مانديلا لأفضل فيلم.
الدورة الثامنة المُقرر افتتاحها في 1 أغسطس/آب المقبل في اتحاد المرأة الفلسطينية في القاهرة، يشارك فيها عدد كبير من الأفلام الفلسطينية والعربية، من بينها فيلم «كحل بلون الدم» للمخرج الفلسطيني مُعاذ محمود أسمر، وفيلم «ظل» من سلطنة عُمان للمخرج عبد الله البطاشي، وفيلم «فراسين» للمخرجة الفلسطينية ريم خليلية، وفيلم «متى؟» للمخرج الموريتاني محمد شيخن كونكو، وفيلم «بيتنا» للمخرج العراقي فرشاد نوري و»مالديف غزة.. نهوض بعد الدمار» إخراج أحمد عدنان، والفيلم التونسي «ذات» إخراج قُصي العامري. ومن مصر يشارك المخرج أحمد قرمد بفيلم «أحد عشر يوماً بلا إنسانية» ولم يُغلق باب المُشاركة في مهرجان العودة في دورته الثامنة عند هذا الحد، فالفرصة لا تزال قائمة للراغبين في دعم السينما الفلسطينية وإنجاح المهرجان الذي يُقاوم بكل قوته ليبقى ويستمر.

كاتب مصري

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية