ما هي الأفلام الفلسطينية الأولى… ولماذا؟

حجم الخط
0

الحديث عن أوّل فيلم فلسطيني يحتمل نقاشات يكون لكل منها اعتباراتها ومعاييرها. استحالة الحسم في ذلك، وتَوازي المقاربات، تجعلان من تسمية هذا الفيلم أو ذاك أوّلَ فيلم فلسطيني، عمليةً حيوية، فكرية وسياسية بقدر ما هي ثقافية. تختلف التسميات باختلاف المقاربات.
تميل هذه الأسطر إلى اعتبار «المخدوعون» (1972) لتوفيق صالح أولَ فيلم فلسطيني، لأسباب توسّعت فيها المقالة السابقة («القدس العربي» 25/4/2024) لكن، لا ينقطع النقاش عند ذلك الفيلم، بل يمتد منه إلى غيره، وصولا إلى التسعينيات، وإن كانت جميعها بمبررات ركيكة. هي ثلاثة أفلام تبعت «المخدوعون» وتعثّرت بمن رأى فيها أفلاماً أولى.
أولها زماناً هو فيلم العراقي قاسم حوَل «عائد إلى حيفا» (1982) المأخوذ عن رواية غسان كنفاني المعروفة. لا يجد الفيلم مبرراً لتصنيفه فيلماً أوّل سوى أن جهة الإنتاج له فلسطينية، هي «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين» من خلال «مؤسسة الأرض للإنتاج السينمائي». هو إذن بموضوع وإنتاج فلسطينيين، مُخرجه عملَ في سينما الثورة، كتب في مجلاتها وصنع أفلاماً نضالية لها، ومثّلها في مهرجانات عالمية، ما يجعل الفيلم، بعناصره كافة، إنتاجاً تاماً للثورة الفلسطينية. هو بذلك مماثل لفيلم كريستيان غازي «مئة وجه ليوم واحد» مع امتياز أن فيلم حوَل روائي تماماً وإن جاء بعد الأول بعقد.
في توصيف «عائد إلى حيفا « أوّل فيلم، تجاهلٌ لوعي سينمائيي الثورة ونقّادها، و«مؤسسة السينما الفلسطينية» لما هي السينما الفلسطينية، وفيه تجاهلٌ للحضور العربي والأممي في ثورة الفلسطينيين، وفي تداخل مفاهيم الثورة والقضية والوطن. تصنيفه كونه أول فيلم فلسطيني يولي الاعتبار الأساسي، حقيقةً، لصاحب المال، كأنّ العمل الفني يحوّل في هويته حسب مموّله. والمفارقة أن صاحب المال هنا هو تنظيم ماركسي أممي شارك في عملياته وأعماله السينمائية (والفكرية والفنية والفدائية) أمميون إلى جانب الفلسطينيين والعرب.
ليس إذن «عائد إلى حيفا» أول فيلم روائي فلسطيني طويل، فالاعتبارات التي تتناوله تنطبق تماماً على «المخدوعون» ولا اعتبار أساسياً وثقافياً لصاحب المال في سياق ثوري وأممي، ولقضية لها بعدها الإنساني والعربي، وفيلم صالح السابق لفيلم حوَل بعقد، أفضل منه وأنضج.
مع أفول الثورة تدخل السينما الفلسطينية مرحلة جديدة، مكاناً وسياقاً وأسلوباً. سيَخرج أول فيلم روائي لميشيل خليفي، «عرس الجليل» (1987). هو أول فيلم روائي لفلسطيني، وهذا مختلف عن أول فيلم فلسطيني، لتَداخل الصناعة والهوية السينمائيتين الفلسطينيتين في بعديهما العربي والعالمي منذ الثورة. أما اعتباره أول أفلام السينما الفلسطينية تبعاً للمخرج، ففيه جهلٌ مريع بمرحلة سينمائية كاملة للفلسطينيين، خلال الثورة، وفيه تجنٍّ تاريخي على انتماء الفلسطينيين في مخيماتهم وشتاتهم، إلى بلدهم. فالاعتبار الأول لهذا التصنيف هو أنه فيلم من داخل البلاد ولفلسطيني من هناك، وإن كان بإنتاج مشترك بلجيكي وفرنسي. ما يميز الفيلم عن كل ما سبقه كان في أن مخرجه فلسطيني، وأنه من الداخل، الناصرة.

مشهد من فيلم «عرس الجليل»

الإنتاج الأوروبي المشترك الأساسي للفيلم، والتكوين البلجيكي لخليفي دراسةً ومهنة، قبل العودة إلى بلاده لصناعة الفيلم، جعل البعض يتخطاه ويوسّع من قفزته ليصل إلى رشيد مشهراوي، ابن مخيمات غزة والخارج منها، والباقي فيها، مباشرة إلى السينما، في فيلم «حتى إشعار آخر» (1994). في هذا الادعاء تجنٍّ أفظع من سابقه، في كونه أول فيلم من الأراضي المحتلة عام 67، أي أنه أول فيلم ضمن ما ستُعرف بأراضي السلطة الوطنية، وأول فيلم تزامن مع نشوء السلطة ومثّلها، هويةً وسياقاً. وأحداثه تدور في مخيّم في غزة، في وقت تدور أحداث فيلم خليفي في قرية في الجليل. ينتهي النقاش في أول فيلم مع «حتى إشعار آخر» فكل ما يليه يأتي متأخراً.
ليست المسألة بهذا التعقيد، ما يجعلها مثاراً للنقاش، هو تفاوت المعايير وأولوياتها، ومدى إدراك أحدنا لطبيعة السينما الفلسطينية في مرحلة تأسيسها خلال الثورة، وأحياناً فهمٌ قاصر لعمليات الإنتاج السينمائي اليوم. في جميع الأفلام الفلسطينية، وهو حال سينما العالم الثالث، أو عالم الجنوب، وحتى عموم السينما الأوروبية المستقلة، وسينما المؤلف، يكون الإنتاج لشركات، وهو إنتاج مشترك. للفيلم الفرنسي مثلاً، هوية، تبعاً لمخرجه وجهة الإنتاج الأولى وهي فرنسية ومتجاورة مع جهات إنتاج مشترك من أوروبا وكل العالم، بما لا يؤثر على فرنسيته. هو حال السينما الفلسطينية مع جرعة زائدة في الشراكة الإنتاجية لغياب الإنتاج الوطني الأساسي، وفي الاعتماد أولاً على جهات إنتاجية أوروبية وبعض العربية. هذا ما يجعل السينما الفلسطينية قائمة على تمويلات غربية تحديداً، وهو ما ينفي أي اعتبار للجهة المنتجة في تحديد هوية الفيلم الفلسطيني، فلسنا في النقاش البحثي والنقدي، أمام كتالوغ مهرجان يستلزم تعبئة خانة البلدان التي يمثّلها الفيلم. لا اعتبار أساسياً اليوم، ثقافياً ونقدياً، في الإنتاج كعنصر هوياتيّ للفيلم، والحالة الفلسطينية المعتمدة على الإنتاجات المشتركة والأوروبية منها تحديداً، تنفي أكثر من غيرها، أي أهمية لهويات المنتجين ضمن هوية الفيلم، الثقافية والاجتماعية والسياسية. الإنتاج الفلسطيني لفيلم قاسم حوَل لا يميزه، كما أن الإنتاج السوري لفيلم صالح لا يعيبه، وكذلك حال الإنتاج البلجيكي والفرنسي لفيلم خليفي. إذن، مكانة المال في تحديد الهوية للعمل السينمائي تساوي صفراً. الهوية للفيلم الفلسطيني يحددها فقط موقعُ الفيلم فلسطينيّ الموضوع، من سردية القضية الفلسطينية، لا شجرة العائلة للمُخرج ولا التحويلات البنكية للشركات.
ليس «حتى إشعار آخر» إذن أول فيلم فلسطيني، ولا هو «عرس الجليل» فالفيلم لا يتحدد بالضّرورة بوطنية صانعه كما لا يتحدد بالمرّة بوطنية مموله. لا يقل فيلم إيليا سليمان «سجل اختفاء» (1996) مثلاً، المموَّل أوروبياً وإسرائيليا، فلسطينيةً عن غيره أعلاه، وليس «عرس الجليل» فيلماً بلجيكياً أو فرنسياً. كلاهما فلسطيني لهوية صانعه المتقاطعة مع هوية شخصيات الفيلم وسرديته الوطنية. كما أن تمويل تنظيم فلسطيني لفيلم لا يجعله أَولى من غيره في هويته، وإن كان التنظيم «الجبهة الشعبية».
الحجج الجادة في الإجابة عن سؤال حول أول فيلم روائي طويل فلسطيني تنحصر أخيراً في الفيلمين الأسبق لكل المذكور هنا، «مئة وجه ليوم واحد» و»المخدوعون». الأرجحية تكون للثاني، لأن الأول متوسط الطول وتجريبي في أسلوبه، بضبابية في جانبه الروائي، من حيث تقدُّم القصة وتطوُّر الشخصيات، وعلاقة المَشاهد الروائية ببعضها، وبتلك الوثائقية. هو فيلم وثائقي بعناصر روائية أكثر منه فيلماً روائياً بعناصر وثائقية. هو ليس مكتمل النضوج في روائيته إذن، ولا محدَّد المعالم. لكنه تمهيد للدخول في السينما الروائية الفلسطينية، صلة وصل بين الفيلم النضالي المسيطر في طبيعة السينما الفلسطينية آنذاك، والفيلم الروائي الذي اقتصر في زمن الثورة على فيلمَي صالح وحوَل، وقد توسّطهما اللبناني برهان علوية بفيلمه «كفر قاسم» (1974). لكن لا مجال لخوضه هذه المنافسة لتطابقه مع «المخدوعون» من حيث اعتبارات المُخرج والمال العربيين، والموضوع الفلسطيني المنتمي للثورة، لكنه لاحق لفيلم صالح زمانياً.
في ختام كل هذا النقاش (في هذه المقالة وفي السابقة لها) يبقى الأحق في توصيفه أول فيلم فلسطيني هو «المخدوعون» لتوفيق صالح. فيلم عربي كما هو فلسطيني، وهو حال عموم الإنتاج الفني والثقافي والفكري الفلسطيني خلال الثورة، بالتحديد منه السينمائي النضالي. هو فيلم متعدد منابع الصناعة التي تصب في الثورة الفلسطينية. في الفيلم أسباب تجعله الأول، وفي غيره أعلاه أسباب تجعله، هو كذلك، الأول.

كاتب فلسطيني سوري

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية