ما هو أول فيلم فلسطيني… وكيف؟

حجم الخط
0

قد يلفت نظرَ المتمعن والمتفحص في السينما الفلسطينية، عدم اتفاق على هوية أول فيلم فلسطيني، أو على إجابة واحدة للسؤال أعلاه. وإن حصرنا الحديث، لغايات بحثية تجعل من الإجابة محاولة غير عبثية، بالفيلم الروائي الطويل، نسأل: ما هو أول فيلم روائي طويل فلسطيني، أو للدقة: ما هي الأفلام التي تجد من يبرر تربعها في متن الإجابة عن هذا السؤال؟ تتناول هذه الأسطر أول فيلمين مرشحين لتلك الإجابة.
نعرف أن السينما الفلسطينية بدأت بنوعها نضالية وبوصفها ثورية، وتخللت هذه الصناعة بنوعها، المتفرعة عن السينما الوثائقية، أعمالٌ روائية، على طول مرحلة الثورة من أواخر الستينيات حتى أوائل الثمانينيات، وكانت بصناعة عربية بالقدر الذي كانت فيه فلسطينية. السينما الروائية الممكن وصفها بالفلسطينية، تستلزم إذن عنصر الانتماء إلى الثورة الفلسطينية.. لنتحدث في فلسطينية هذه الأفلام قبل الحديث في أوليتها.
لكل نقاش في فلسطينية هذا الفيلم أو ذاك، اعتباراته، هنالك من يولي الاعتبار للمخرج، هنالك للمنتج، هنالك للموضوع. هنالك من قرر أن تقاطع أي اثنين من هذه المعايير الثلاثة يحقق الانتماء الفلسطيني، لكن، في جميعها يتقاطع خلل أو أكثر ينفي عن هذه المقاربات جديتها، والأمثلة المتزاحمة تكفي لإثبات ذلك. لكل من ميشيل خليفي وهاني أبو أسعد، مثلاً، أفلام بلجيكية تماماً للأول، وهوليوودية تماماً للأخير، وكذلك لآخرين أقل أهمية في مسيرة السينما الفلسطينية. بعضهم صنع أفلاماً ومسلسلات ضمن السياق الإسرائيلي. لا مكان لهذه الأفلام في حديثنا عن السينما الفلسطينية. هذا من ناحية المخرج، أما الإنتاج، فمعلوم أن السينما الفلسطينية قائمة أساساً على إنتاجات أوروبية. للمال الفرنسي مثلاً، حصة في عموم الإنتاج السينمائي الفلسطيني أكثر من أي مال فلسطيني أو عربي أو أوروبي. أما بخصوص الموضوع، ففيلم عربي بسردية مضادة للفلسطينيين، مثل «الصدمة» أو «أميرة» الأول للبناني زياد دويري والأخير للمصري محمد دياب، ليست كذلك سينما فلسطينية، بل أقرب لتكون سينما صديقة لتلك الإسرائيلية.
يمكن إذن لفيلم بمخرج فلسطيني أن لا يكون فلسطينياً. ولا يكون أي فيلم بمقاربة صهيونية فلسطينياً، ولا تمويل فلسطينياً تاماً شهدته السينما (الروائية دائماً) الفلسطينية. وتقاطعات هذه المعايير (المخرج/المنتج/الموضوع) لا تضيف حسماً في هوية الفيلم بوصفه فلسطينياً، متى احتمل كل عنصر على حدة، نفيه.

هذه أمثلة سريعة ولغاية مباشرة هي نقض الاعتبارات الرياضياتية في تحديد الفيلم الفلسطيني، كأننا أمام تصنيف مكتبي يُلزم أحدنا، في النهاية، على اختيار رف لهذا الفيلم أو ذاك. النقاش النقدي والبحثي يحيد عن هذا التعجل في التصنيف، وكلما كان النقاش في الفنون وفي الهويات الثقافية، تطلب أكثر الخوضَ بروية في تركيبات لتحديد أطر تتخطى أولى محاولات التفنيد. كي ندخل في الحديث عن الأفلام المرشحة لأن تكون أول فيلم فلسطيني، سيكون من الضروري تحديد ما هو الفيلم الفلسطيني، بمعزل عن معايير بيروقراطية لا أساس نقدياً لها. وانطلاقاً من عبارة في بيان لـ«وحدة أفلام فلسطين»)1972) تلخص ذلك، في أن «السينما الفلسطينية ليست انتماءً جغرافياً، بل انتماء نضالي تجاه القضية».
لندخل في ما تدافع عنه هذه المقالة، بتعريف الفيلم كونه فلسطينياً، ما لا تواجه، من بعد بحث وتبحث، ما يمكن أن يفنده فكرياً وسياسياً وسينمائياً. الفيلم الفلسطيني هو، بمعزل عن مخرجه ومنتجه وموضوعه، فيلم للقضية الفلسطينية، ففلسطين بوصفها انتماء، كما تمثلت في الثورة وزمنها، فتكون بالتالي أفلام الثورة أفلاماً فلسطينية تمثل البلد وأهله ومنظمة تحريره وثورته، فلسطين بوصفها انتماء هي اليوم القضية الفلسطينية، بأمميتها وعالميتها. وشتات الفلسطينيين يضفي مشروعية على هذه الأممية وتلك العالمية. فيلم القضية الفلسطينية، إذن، هو فيلم فلسطيني، إلى أن تنتهي القضية وتفضي إلى تحرير ودولة مستقرة ومستقلة من النهر إلى البحر، وهذا موضوع آخر. لتكون الدولة حينها، كحالات غيرنا من الشعوب، ممثلاً، كما كانت المنظمة من قبل، شرعياً ورسمياً لعموم الإنتاج الثقافي الفلسطيني، بمعزل عن الحكومة، أو الحزب الحاكم، تكون في حينها للفلسطينيين دولة – أمة.
ذلك يحملنا إلى التوافق مع أقوال سينمائيي الثورة الفلسطينية، من فلسطينيين وعرب، في أن الفيلم المنسجم مع هذه الثورة في موضوعها الفلسطيني هو فيلم فلسطيني، لذلك يكون الفيلمان التاليان ضمن السينما الفلسطينية، أفلاماً فلسطينية «مئة وجه ليوم واحد» 1972 للبناني كريستيان غازي، أنتجه الإعلام المركزي للجبهة الشعبية الديمقراطية لتحرير فلسطين بالتعاون مع المؤسسة العامة للسينما في دمشق. و«المخدوعون» 1972 للمصري توفيق صالح، أنتجته المؤسسة العامة للسينما في دمشق. للسبب ذاته، الانسجام من عدمه، عُزلت أفلام أخرى، لبنانية ومصرية، زامنت هذه الأفلام، واستخدمت القضية، مادة ترفيه استهلاكية، وسماها سينمائيو الثورة آنذاك بـ«المجدرة ويسترن».
توجد كذلك أفلام راوحت ما بين تلك المجدرة والأفلام الجادة، منها «رجال تحت الشمس» 1970 وإن سبق زمانياً جميع الأفلام المذكورة، إلا أنه ليس فيلماً روائياً طويلاً، بل ثلاث روائيات قصيرة جُمعت معاً، لثلاثة مخرجين سوريين هم نبيل المالح بفيلمه «المخاض» وهو الجزء الأول، ومحمد شاهين بفيلمه «ميلاد» وهو الجزء الثاني، ومروان مؤذن بفيلمه «اللقاء» وهو الجزء الثالث، وهو من إنتاج المؤسسة العامة للسينما. سيليه فيلم «السكين» 1972 للسوري خالد حمادة، كذلك من إنتاج المؤسسة العامة للسينما في دمشق. وكلا الفيلمين مأخوذ بخفة عن روايتَي غسان كنفاني، «رجال في الشمس» و»ما تبقى لكم» وكلاهما يشترك بتجارية نسبية بعيداً عن سينما ثورية أو بديلة أو فنية.

لندخل أكثر في الفيلمين المرشحين ليكون كل منهما أول فيلم فلسطيني، هما فيلما غازي وصالح. يمكن تقبل القول إن أول فيلم روائي فلسطيني هو «مئة وجه ليوم واحد». الحجة أنه الأقدم وأنه من إنتاج مشترك لجهة فلسطينية، وأنه الأول في اتخاذ العنصر الروائي في الفيلم المازج بين الوثائقي والروائي، وضمن سياق الثورة. فيه مشاهد تمثيلية، فيه قصة خفيفة لها شخصياتها السطحية، كما فيه مشاهد أرشيفية وتوثيقية. أقدمية الفيلم، وانتماؤه للثورة الفلسطينية، رشحاه ليكون أول فيلم روائي فلسطيني، ولذلك مبرراته المعقولة. هو فيلم منتمٍ للثورة، لبناني بقدر ما هو فلسطيني، لتداخل الموضوعين والنضالين اللبناني والفلسطيني آنذاك. لكنه ليس روائياً بالمعنى الرسمي أو الكلاسيكي المستقر إلى يومنا في تحديد عناصر الفيلم الروائي. هو، شكلاً ومضموناً، فيلم نضالي يحوي عناصر روائية.
آراء أخرى تميل إلى أن أول الأفلام هو «المخدوعون» لامتيازه عن سابقه في كونه روائياً تماماً، وهو مبني على رواية «رجال في الشمس» لغسان كنفاني، لكن لا إنتاج فلسطينياً فيه ولا دور لتنظيمات الثورة في إنتاجه، بخلاف سابقه. هو صناعة عربية تامة، من الإنتاج للهيئة العامة للسينما في دمشق، رغم تعتيم من الهيئة على الفيلم لحق عمليات الإنتاج، إلى التمثيل وهو سوري ومصري. الفيلم ممتاز فنياً، لكونه من الأفلام الأخيرة في مسيرة توفيق صالح، صاحب تجربة متمايزة وسابقة في السينما العربية البديلة.
الموضوع الفلسطيني للفيلم إذن، وتحديداً مقاربته للموضوع، جعلاه فيلماً فلسطينياً منتميا للثورة والقضية، وبالتالي لفلسطين. هو فيلم قضية فلسطينية تام، وتبناه سينمائيو الثورة آنذاك. وهو بعناصر روائية متكاملة، ما يجعل «المخدوعون» أول فيلم روائي فلسطيني.
أفلام أخرى لحقت فيلمَي غازي وصالح، نالت كلاماً يضعها في موقع الفيلم الأول، لكن حظوظها تبقى قليلة وحججها ضئيلة. سيكون لها موقع نقاش لاحق لهذه الأسطر.

كاتب فلسطيني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية