من وحي المقاومة: العقل البضائعي عربيّاً

أريد أن أفكّر بصوت عالٍ، فالوجود لا يعبّر عنه الصمت وإنما الكلام. لا يصنعه السكون وإنما الحركة. الحركة، هي الأخرى، كلام في قارة الصمت اللامتناهية. أريد أن أقول ما لا يقوله الآخرون، أو ما أحسّه كذلك، ما لا يقولونه عَلَناً، على الأقل، ما لا سَنَدَ مادياً له، لكن ما يؤكِّده التاريخ. والتاريخ ليس شاهِدَ زور، أبداً. أقول: نحن الجُناة بحق بلْداننا قبل أن يفترسها الآخرون، وعلى رأسهم الصهاينة، اليوم. نحن مَنْ بَدّدنا أوطاننا! لماذا نذهب بعيداً وداؤنا منّا وفينا؟ لماذا لا ننقد أنفسنا قبل أن ننقد الآخرين؟ لكن، كيف حدث ذلك؟ ولماذا يستمر في الحدوث منذ أكثر من قرن، تقريباً، إذا ما تحدّثْنا، فقط، عن تاريخنا المعاصر؟ الجواب يكمن، في رأيي، في «العقل البضائعي» الذي نتمتّع به كلّنا، وأول الناس أنا. هذا «العقل» المشين الذي ظهرت لي بوضوح خصائصه من خلال ما يجري، الآن، في غزّة، فوجدتني أردد بحرقة: « بلى! العقل العربي، عقل بضائعيّ، بامتياز»! لكن، ما هو هذا العقل؟
«العقل البضائعي» عقل ذرائعيّ، ضحل، وبسيط، يشبه، إلى حد بعيد، عقل الضباع الخانعة التي لا تجهد نفسها لكي تصيد، وتكتفي بما تلقاه في فضائها من بقايا، وتنهش بعضها إنْ لمْ تجدْ ما تنهشه. واستراتيجية الوجود في هذا النوع من العُقول ليست بعيدة المدى، ولا حاسمة، وإنما هي غارقة في التردد والتخبُّط، إنها «استراتيجية اللافعل» المدهشة بلا جدواها. صاحب هذا العقل كائن محدود الفكر، يحرّكه مفهوم المصلحة الشخصية، حتى إنه يعتبر خسارة جاره ربحاً له. لا يرى ما يحيط به من أعاصير، وليس له أعداء حقيقيون، لكن له «بُغَضاء» يكرههم ويكرهونه، من أجل منافع مبتذلة. ومن خصائصه، كذلك، التماهي مع السلطة بشتى أنواعها. إنه ربيب السلطة المثالي لأنه بلا منهج متماسك، وليس له موقف خاص يخلخل الإجماع. علامته الصمت الذي لا اعتراض فيه، ولا قُبول، فهو مُتهافت بعمق، يقف مع مَنْ يَمْلك، أو مَنْ يَقْدر، أو من يُحْسن إليه. لكنه ليس ضدّاً لأحد.
هذا هو نوع العقل الذي يسود، الآن، في العالم العربي الذي هو من أغنى عَوالم الكون، ومن أكثرها أهمية، والذي يحتوي على أكبر نسبة من الطاقة: نفطاً، وغازاً، وتاريخاً، وثقافة. وفيه أفضل المناخات، وأبدع المشاهد، وأهمّ الآثار، وأجمل النساء. فيه، أيضاً، كل الإمكانيات التي يحلم بها كائن في الوقت الراهن على مستوى العالم أجمع. ومع ذلك، لا يستطيع هذا «العالم الكبير والغني» أن يقدم أبسط المساعدات الضرورية لغزة المقاومة! كيف يحدث هذا؟ كيف يمكن قبوله؟ وما تفسيره؟ أعرف أنكم، مثلي، تفكرون بما أقول، لكن بصمت. لا أحد منا يسمع الآخر. نحن نأكل أصواتنا، ونعمي عيوننا، متأمّلين مصيراً أفضل، سيصيبنا ذات يوم. وهذا، تماماً، ما أسميه «العقل البضائعي» العربي. عقل «التاجر» الذي يحلم دائماً بالربح حتى عندما يخسر. لكن الكائن الواعي يعرف أن «الربح القاتل» الذي يكون على حساب كينونته، هو أكبر خسارة له، لأنه، بعد ذلك، قد يختفي، تماماً، من الوجود. وهو، ربما، ما سيكون مآلنا أخيراً، إذا لم نتخلّص من عقلنا البضائعي المتحكّم فينا.
الوجود إبداع وليس بضاعة يمكن أن نشتريها، هذا ما يجب أن نتمثّله بعمق. العالم العربي يملك ما لا نهاية له من النقود، لكنه لا يملك مصير نفسه. المصير لا يُشترى، وإنما يُنْجَز. ونحن منذ قرن تقريباً، حتى لا نتحدث ، مرة أخرى، إلاّ عن تاريخنا المعاصر، نكدّس الأموال التي «ستخنقنا» ولا أثر لنا في مرائي العالم. لا خبز، ولا ماء، ولا حرية، وإنما تفتّت بعد تفتّت، وانهيار فوق انهيار. وغزة، وحدها تقاوم. غزة تصنع التاريخ، فالتاريخ مقاومة، ونحن «حائدون». أَذلك ضُعْف منا؟ لا! وهل غزة أقوى منا جميعاً؟ لا! إنه التآمر الذاتي على الذات، إذن، والخيانة الروحية التي لا يمكن تبريرها بأي شكل، إزاء كارثة تاريخية مثل كارثة غزة المقاوِمة. وأمام تدميرها المريع من قبل استعمار صهيوني استيطاني غاشم لا يراعي أي معيار إنساني، ولا يهتم بقوانين الحروب، لا يمكن، أبداً، أن نفهم صمت النفط، وتبخّر الغاز، وعجز السلطات العربية المهين، خارج منظومة «العقل البضائعي» المتفشّية عربياً. هذه المنظومة البائسة التي يمكن لها أن تبرّر حتى العمى والتخاذل العربي المعمم والسقوط في العدم. والآن، لم يبقَ لي إلاّ أن أقول: لا تتوَهّموا، إنْ لم تفعلوا ما يجب فعله، اليوم، ستحصدوا الخيبة، غداً.

كاتب سوري

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية