المقاومة كفلسفة للوجود

نحن في زمن المقاومة.

فعل المقاومة الفلسطينية الرائع خَلّص الزمن العربي الراهن من مزاياه الزائفة. نَفَضَ الغبار الدعائيّ الذي أعمانا عن كل ما ضلَّلنا من قبل. كشف الغطاء عن جوهر الأشياء والكائنات، وأزاح عنها أستارها الكاذبة التي كانت تعتد بها. فَضَحنا وعَرّانا. لا ضرورة، بعد اليوم، لأقوال مبرِّرة، أيديولوجية كانت أم غير أيديولوجية. لأن الكلمات أصبحت غير مجدية. غدت باهتة، محشوّة بالخواء. لا فائدة من الصمت، أيضاً، لأنه صار يدلّ على الخنوع واللافعل، والقبول بما لا يمكن قبوله. بفعل هذه المقاومة العظيمة، صار لا بد من مواجهة السُبات العربي المعمم الذي تفرضه السلطات على مواطنيها واضعة إياهم في فضاء من الأباطيل: فضاء الصمت والخضوع والحيادية والخذلان والرياء الأخلاقي والنفاق، ما يعني الموت السياسي الناجز عربياً، فهذا الفضاء المفَرَّغ من جوهر الوجود الذي هو المقاومة، ليس إلاّ فضاء بلا أثَر، لا يسهم في تغيير المصير، ولا ينقذه من الهلاك.
المقاومة إرادة وجود، إنها إرادة إبداع الحياة بشروط جديدة، إنها وجه الحياة المضيء أيا كانت عواقبها. وخير مثال لها اليوم هو المقاومة الفلسطينية العارمة، كما قلنا قبل قليل. والحياد، أو التخاذل، أو اللامقاومة، أيا كانت المبررات التي تتوخّاها، أو تتستّر خلفها، السلطات العربية المهادنة، هي وجه الوجود الأسود الذي لا يؤدي إلاّ إلى وجود أكثر منه سوءاً. إنها، على العكس من المقاومة، إرادة انقِراض وامِّحاء وفناء معلن، أو يكاد أن يكون معلناً، حتى لو احتمت بناطحات سحاب بلا قُرون. التاريخ لا يعرف الكذب، ولا يقوم على التضليل. إنه أمثلة الحياة التي لا يمكن إنكارها. تذكّروا الامبراطوريات العظمى التي تعرفونها، كلكم: الإغريقية والرومانية والمغولية والفارسية والعثمانية، على سبيل المثال، لم ينْتهِ أي منها بالحياد، ولا بالسياسة، ولا بالتطبيع، ولا بالخضوع، وإنما بالمقاومة الحاسمة التي كانت تدافع عن حق الكائنات بالوجود، بوجود حر بلا استعمار أو استغلال أو تضرير أو تذليل .
ليس علينا، بالضرورة، أن نحارب لنكون مقاوِمين، فالمقاومة ليست حرباً فقط، إنها مواقف وسلوك، أيضاً. ولها درجات وأعتاب لا محدودة. المهم ألاّ نتخاذل، وألاّ نهادن القمع، وألاّ نبرر الاستعمار وهو أبشع ما يمكن أن نفعله. فالاستعمار لا يُبرّر، ولا يُقبَل بأي شكل كان، وإنما يُقاوَم إلى أن ينقلع مثل شوكة مؤذية في القلب، وإذا كانت للمقاومة حدود وأشكال شتى ونهايات، فالاستعمار الاستيطاني الصهيوني لا حدود له، ولا حيثيات، ولا مبررات أخلاقية أو دينية. وهو منذ أن يستقر في مكان يغدو الخلاص منه مستحيلاً، إن لم يتوسع بسرعة كالسرطان. تذكروا مصير الهنود الحُمْر في القارة الأمريكية وحضارتهم الآسرة التي دمّرها حفنة من غزاة أوروبا المتعصبين دينياً والجهلة المتوحشين، آنذاك، بعد أن أبادوا الهنود إلاّ قليلاً منهم.
المشكلة، إذن، هي ضرورة خلق مقاومة واعية ومستبسلة ودائمة، حتى نصل إلى مرحلة «التحرر الكامل». و«التحرر الكامل» ليس تحرير الأرض المستعمرة فحسب، وإنما تحرير الكائن العربي من شروط حياته السياسية المجحفة، أيضاً. والكائن العربي لن يتحرر بالصمت والخنوع، ولا بالسياسة والتطبيع المتهافت، وإنما بالمقاومة. المقاومة التي تعني، قبل كل شيء، مواجهة الشر التاريخي الخطير المتمثل في الاستعمار الاستيطاني الغاشم، بشكل خاص، وفي النهاية، كما نتوقّع، ستدرك الشعوب العربية المقموعة، بقوة التاريخ المادي الذي لا يُمالئ، سوء المصير الذي تغرق فيه منذ عشرات السنين. وستَعي، أكيداً، أنه لم يبقَ أمامها من حل سوى أن تتخذ من المقاومة فلسفة للوجود، فلسفة لمصيرها الذي يستحق أن يكون جديراً بالنور، لا بالظلام، فحسب.

كاتب سوري

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية