«موت الشعر»

غزة تحترق وهم يتدارسون الشعر في اشبيلية! هذا هو تماماً معنى كُتَيّبي «موت الشعر» الذي نشر في باريس أوائل الثمانينيات من القرن الماضي، وأعيد نشره في مجلة «دراسات عربية» التي كانت تصدر عن دار «الطليعة» في بيروت من بعد. إنها مهزلة العصر. مهزلة على الطريقة البيزنطية، أن يجتمع رهْط من الشعراء والبحّاثة والنُقاد في اشبيلية للتفكير والتخطيط في فضاء الشعر، والعالم من حولهم يحترق. أطفال غزة يموتون من القصف والجوع والحرمان من الماء والغذاء، وبقية سكانها يلاقون نفس المصير، كذلك، وهم يَتَمَسْرحون أمام عدسات التصوير الذاتية، وغيرها، بكونهم يتدارسون الشعر، ويفكّون مغاليقه، ويبدعونه، أو يحاولون أن يبدعوه، من جديد.
نحن نعرف أنه مضى على هذه المزاعم «الأوتوقراطية» شبْه الدينية، والادعاءات التعسفية المتسلّطة على الإبداع، بشكل من الأشكال، أكثر من سبعين عاماً، ولم تنجز إلاّ إبعاد الشعر عن الحياة، ودفنه في صفحات مبهمة لا تثير شهية القارئ، أيّاً كانت «الأطروحات النقدوية» المتباهية حولها. لاشك أن النقاش، وعلى رأسه «الحوار الأخوي» اللانقديّ، شعرياً كان، أو غير شعري، حق من حقوق الكائن، بغض النظر عن مكانته الثقافية والسياسية، لكن (إذْ دائماً ثمة لكن في «مطحنة النقاش») للثرثرة حدود، من جهة، ومن جهة أخرى ثمة تساؤلات تقتضي التفكير فيها. وأول ما يخطر على البال هو تشرذم العواطف العربية، لا الثقافية فحسب، وإنما السياسية والأخلاقية في الدرجة الأولى. لكأننا، فعلاً، لم نعد أمة واحدة، أو لنقل لم نعد نقف في نفس المكان، ولا ننطلق من نفس النقطة، فيما يتعلّق بما يجري حولنا اليوم من كوارث وإرهاصات.
صحيح، إننا متعددون، ومختلفون فُرادى، ولنا نزعات لا حصر لها، فُرادى أيضاً، وأحياناً، كمجموعات، حتى. لكن ذلك لم يكن يلغي مشاعر الأخوّة والود والتعاطف والتعاضد بيننا، من قبل. ومتى كان هذا القبل؟ لا تهمّنى التواريخ، بقدْر ما تهمّني اللامبالاة الإنسانية الكاسحة، التي تتجلّى على سحنات مَنْ نتكلّم عنهم في أشبيلية. لكأنهم يجهلون أن الكائن منذ أن يتصدّى للظلم والعدوان والاحتلال يغدو مقاوِماً. و«المقاومة لا دين لها». ولا يهمّنا إن خرج المقاوِمون من الجوامع، أو من الشوارع. إنهم يقاومون المحتل، والمستعمر، والمستوطن، وطاردي أصحاب الأرض ومضطهِديهم. هذا المفهوم الناصع للمقاومة يبرر، اليوم، كل شيء، في انتظار اللحظة القادمة. يبرر البُعْد الثوري للعمل المقاوِم، أياِ كان فاعله.
المفروض أن المثقف، وخاصة الشاعر والناقد، وأمثالهما، هم ضمير الأمة. ليس الأمة بمعناها الاستعماري الفادح، والمقيت، وإنما بمعناها الإنساني العميق. لكن ما رأيته من ذلك الحشد الثقافي يقع خارج التاريخ، فعلاً. لم أرَ ما يربطنا بهم، ولا ما يربطهم بمجتمعاتهم وأهاليهم. لكأنهم يكتبون الشعر والنقد من أجل الأحجار، لا من أجل البشر. عجباً! أن تضع نفسك خارج البشر، وخارج التاريخ، وخاصة، التاريخ الحيّ الفاعل، الآن، مثل نار ملتهبة، هو موقف واع ومقصود، وهو لذلك غير محمود وبلا مبرر منطقي، حتى ولو تطَلَّب الفن ذلك. نحن لا نبحث عن المبررات الذهنية البليدة، فهي لا حَصْر لها، وإنما نبحث عن مقادير «الوعي الإنساني» واحتمالات تصدّيه العظمى للظلم والقهر والاحتلال. احتمالات بدت معدومة في هذا السياق، مع الأسف.

كاتب سوري

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية