غزّة تاريخ الافتراق

مَنْ نحن؟ سؤال غدا، اليوم، بعد «أسطورة غزة المقاوِمة» أكثر إلْحاحاً، وذا ضرورة قصوى، إنْ لمْ يكن منطقياً، بامتياز. ليس الدمار المادي المذهل هو، وحده، الذي يدفعنا إلى طرح هذا السؤال، ولا هي المأساة الإنسانية الرهيبة التي استُشهِد فيها آلاف المقاوِمين، فحسب، وإنما هو، أساساً، فَقْد «اللُّحْمة الإنسانية» الذي تجلّى عربياً، خلال هذه الحرب الاستعمارية، بوضوح مدهش ومثير. هذا الفَقْد المأساويّ هو الذي يدفعنا، في الحقيقة، إلى التساؤل المريب: مَنْ نحن؟ لأنه يجعلنا نعيد النظر في تاريخنا المشترك الذي هو مصدر الرابطة الإنسانية في الوجود. هذه الرابطة التي كانت، من قبل، مصدر كل صلة خلاّقة بيننا. لكننا، اليوم، صرنا نحسّ أنها تَصَرَّمتْ، وأننا نكاد أن نفقدها، بشكل مؤسف، كلّياً.
لم نعد نفهم ممّا يجري من حولنا شيئاً. لم نعد نفهم لماذا يعمّ الصمت في العالم العربي، رغم ضجيج الحرب المدمّرة التي لا تهدأ منذ شهور. لم نعد نفهم لماذا تستمر الحياة في هذا العالم «المدعو عربياً» على حالها، وكأن شيئاً لا يحدث بالقرب منه، أو لكأن الحرب المدمّرة على غزة تجري في قارة أخرى! ماذا يعني ذلك غير أننا افترقنا، أو أننا نكاد أن نفترق بشكل نهائي؟ غير أننا وصلنا إلى نهاية تاريخ لا مُجْدٍ، وسيكون علينا إبداع تاريخ جديد؟
نحن لا نريد الحرب، ولا نحثّ أحداً على التورّط فيها.. نحن نعرف مدى اهتمامنا بالسلم، حتى لا نقول شيئاً آخر. نحن لسنا دعاة حرب، ولا دعاة استسلام، أيضاً. نحن نطمح إلى مدّ يد المساعدة إلى غزة، لا أكثر ولا أقل، لكن كيف؟ بالموقف السياسي الواضح والصارم والمفيد، بالطبع. وكلنا نعرفه جيداً. كلنا: الدول المطبّعة علناً، والدول اللا مطبّعة علناً، والدول الأخرى التي هي في طريقها إلى التطبيع، وأن.. تاريخنا المشترك هو الذي يدفعنا إلى أن نقول هذا. تاريخنا المشترك الذي بدأ يتصدّع أمام أعيننا، ونحن صاغرون.
هل هو الخوف المفرط الذي يستولي على قلوبنا؟ أم هي اللامبالاة اليائسة التي تهيمن على فضائنا العربي؟ أم هي الحيادية الكاذبة التي لا تعبّر إلاّ عن الرعب العميق حيال خطر استعماري كاسح، لا بد من مواجهته حتى لو كان الفوز فيه ليس مضموناً؟ على أي حال، التاريخ المشترك الذي جمعنا منذ مئات السنين راح يتفتّت مع تفتّت غزة وتدميرها، ولسنا قادرين على فعل شيء من أجل إيقاف ذلك. بلى! نحن لا نبدو قادرين على إدراك مغزى «العقاب الاستعماري اللامحدود» على فعل المقاومة، الذي يبدو محدوداً في كل المقاييس. لكن الاستعمار «ليس عقلاً». إنه نهج واستراتيجية، وشؤون. للاستعمار اللئيم مذاهب شتى، وأساليب معروفة منذ مئات السنين لفعل ما يريد. لا خلاص من استعمار كهذا إلا بالمقاومة مهما كانت عواقبها باهظة الثمن، وخطيرة، لا جدوى، إذن، من إغماض العيون، ولا من طأطأة الرؤوس، ولا من اللطف السياسي اللامجدي، تطبيعيّاً كان، أم غير تطبيعي، لأن جميع أشكال اللامقاومة، مهما تعددت حالاتها وأوصافها، لها اسم واحد هو: الخضوع. والخضوع، حتى لو كان مُجزّءاً، ومحدوداً، لا يمكن تبريره، لأنه سيتعمّم من بعد، وهو الذي سيمحي تاريخنا المشترك، شئنا، أم أبَيْنا. وهو الذي سيفرّق بيننا، أخيراً.
بفعل انحسارنا الكارثي، تحوّلَت المواجهة الوجودية بين الحرية والاستعمار في غزة إلى حرب مشهدية. صرنا نتابع أخبارها الدرامية وكأنها مسلسل افتراضي يجري على شاشة كونية لا على الأرض. التدمير الصهيوني الذي لا يرحم، والذي لا علاقة لعنفه ووحشيته بما عرفته الحروب التي مرت على الإنسانية من قبل، هو الذي يجعل الحياد غير مقبول من أي زاوية نظرنا إليه. أهوال الحرب في غزة تذهل المتفرّج العربي وتدمّره، دون أن يستطيع التدخل فيها. وهو ما يُنْبئ بخَلَل عميق، بدأ يتفشّى فينا إزاء كل ذلك الموت والدمار، وأهمّ أعراضه تلك الحيادية الصامتة واللامفهومة التي نعاني منها جميعاً.
وفي النهاية، أسطورة غزة المقاوِمة جعلَتْنا نقف على مفترق الطرق عاجزين عن اختيار السبيل الذي علينا أن نسلكه، عاجزين عن فعل ما يجب علينا فعله، عاجزين، في الحقيقة، عن استيعاب «تاريخ الافتراق» العربي الذي بدأ يرتسم، الآن، أمامنا: تاريخ الصمت والنفاق.

كاتب سوري

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية