من غرناطة إلى غزة

فكرة الاستعمار ليست أخلاقية.. ومعالجتها بطريقة أخلاقية لا معنى لها. الاستعمار يقوم على مفهوم السَلْب: سلب الأرض، وسلب الحياة، وسَلْب التاريخ. فماذا تنفع المفاهيم الأخلاقية في هذه الحال؟ وماذا تنفع البيانات والإدانات؟ نحن لسنا مع العنف، ولا ندعو له، لكننا نحاول أن نقارب الموضوع بشكل خالٍ من الانفعالات، ومجرّد عن العواطف، وبالخصوص، تلك العواطف الزائفة، المبنية على المقولات الفارغة. وباختصار، الاحتلال يعني المقاومة. وغزة لم تفعل شيئاً غير مقاومة احتلال بلا قيود طال أمده.
«الغرب» الذي نعرفه، اليوم، والذي يتشدّق بالديمقراطية عندما تتناسب مع مشروع هيمنته الكاسحة على العالم، هو الذي أسس الاستعمار الحديث: القتل الهمجيّ، والاستيلاء على الثروات والأرض وما تنتجه، والاستيطان القسري، وتبديل الهويّات القومية، وفرض لغته وطرائق تفكيره على الآخرين. وقد بدأ ذلك منذ عام 1492 للميلاد، العام الذي اكتسحت فيه قوات «كولومبس» الغازية قارة الهنود: «الإنكا، والمايا، والآزتيكْ» رغم حضارتهم العظمى السائدة، آنذاك، التي سلَبها حتى اسمها فأصبحت «أمريكا»، بعد أن قام هو، وأتباعه من بعده، وعلى رأسهم القائد الدموي «كورتيس» بإبادة شعوبها، واحتلالها بالكامل. وهو العالم نفسه الذي سقطت فيه «غرناطة»، آخر حواضر الأندلس، بعد أن كانت محاصرة منذ سنوات، وهُجِّر سكانها إلى أصقاع أخرى، كما يحاولون أن يفعلوا اليوم، بلا رحمة، مع غزة.
منذ ذلك التاريخ والغرب ينهب ثروات الكون، ويبيد الشعوب، ويمزق العالم، ولا يتورّع عن تغيير التاريخ، وتزويره. فهو الذي حوّل شبه القارة الهندية إلى دويلات متناحرة دينياً وسياسياً، وهو الذي قسّم الصين، وهو الذي جَزّأ افريقيا، وهو الذي فَتّت العالم العربي، وأوصَلَه إلى الحال الذي هو عليه الآن. وهو الذي زرع في أرضنا العربية «مستوطنة» إسرائيل المبنية على الأساطير الدينية، ووَهْم نَقاء العرق، والمشكّلة على نموذج «إسبارطي» عدائي تحرّكه الرغبة الحادة في التوسّع والسيطرة، وأكثر من ذلك، هو الذي اصطنع دُولنا وفَصّلها على قَدّ شهيته لنهب ثرواتنا والسيطرة على أقدارنا، عَبْر استعمارنا بشكل مباشر، أولاً، ومن بعد، بشكل غير مباشر، لا يزال.

وأتصوّر أننا لن نستطيع التخلّص منه، أبداً، ما دامت عندنا ثروات وموارد حيوية هو بحاجة إليها. واليوم، رأينا، وسمعنا، وشاهدنا، رد فعل هذا الغرب الفوري والحميم في مساندة إسرائيل، وتشجيعها على تدمير ما تبقّي من فلسطين في غزة. لذا لا جدوى من استمالته بتواقيع عرائض المناشدة والاستعطاف، من أجل الوقوف مع غزة. لا يُحرّر غزة إلا أهلها، رغم العوائق والصعوبات، وأهم العوائق التي تواجه هذا التحرير هو تغلغل الغرب الخبيث في أعماق الشعوب العربية، وبالخصوص في سلطاتها على اختلاف أنواعها، وهو تغلغل جهنميّ، لن يقاومه إلا وعي عربي جديد يقوم على فكر حر، وسياسة مستقلة، وابتعاد عن التقليد الأعمى. وبالخصوص، الكفّ عن تبذير الطاقة العربية بشكل عبثي، وبلا أدنى حساب. والطاقة، كما تعلمون، أيّاً كان شأنها، معنوية أو مادية، فكرية أو سياسية، محدودة. ولا يمكن استعادتها ولا تعويضها منذ أنْ تُهْدَر. وفي هذا الشأن، يبدو لي بلا معنى توقيع العرائض من قبل بعض المثقفين العرب، وتوجيهها إلى مثقفي الغرب، أحفاد «كولومبس» مُبيد هنود أمريكا، ومدمّر حضارتهم الرائعة، لاستثارة عواطفهم، لكأن مثقفينا يجهلون وقائع التاريخ الكوني التراجيدية، ولا يعرفون مصائر أُمم العالَم الذي بدأ الغرب نَهْبَه منذ أواخر القرن الخامس عشر، والمستمر إلى اليوم. ولا تدل هذه العرائض والاستغاثات البدائية إلاّ على اكتمال استلابنا بالغرب ثقافياً وسياسياً.

كتب سوري

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية