من الترجيع إلى التقطيع: في الجذور الأنثروبولوجية لإيقاع الشعر العربي

الحاجة إلى الغناء

كان للصحراء وجه الأسطورة الكُلّية في تاريخ الشعر عند العرب، إذ شكّلت على الدوام مختبر الإيقاعات والصور والاستعارات، الذي يمدّ نسغ القصيدة العربية بالحياة والتجدد. ما من شاعرٍ عربيّ لم يجمعه بها، إن سرّاً أو جهاراً، حَبْلٌ سُرّي يصله بغواية الإبداع الذي لم يفتأ يفتحه على إمكان الشعر وقدرة على التأمل والكشف عن عالمٍ في حاجة دائمة إلى الكشف. من بيداء امرئ القيس القفر، أو «بهماء موحشة» لدى الأعشى، والتيهاء التي حيّرت قطا ذي الرمة، أو باعتبارها سكناً كما لدى الحطيئة، ثُمّ التي وقفت دون الأحبة في خيال المتنبي، وهلُمّ شعراً.
فحين اتّقدتْ جوانح العربي ومُخيّلته في أول الدهر بلهيب الشعر، ولاذ بعبارته من هجير الصحراء وفراغها الكبير، فتح عينيه على شُعلة الكون بأسراره في ليل الوجود، وهو «يشعر بما لا يشعر به غيره» مرتفعاً بأشواقه وأخيلته إلى مقام البوح والتغنّي والمقاومة؛ فكان أوّل ما اخترع الشعراء الغناء الذى أمسى ميزان فنّهم العظيم. يقول ابن رشيق: «كان الكلام كله منثوراً، فاحتاجت العرب إلى الغناء بمكارم أخلاقها وطيب أعراقها، وذكر أيامها الصالحة وأوطانها النازحة وفرسانها الأمجاد وسمحائها الأجواد، لتهتز أنفسها إلى الكرم وتدلّ أبناءها على حسن الشيم، فتوهموا أعاريض جعلوها موازين الكلام فلما تم لهم وزنه، سموه شعراً لأنهم شعروا به، أي فطنوا».

ومنذ ذلك الوقت، بقوا يُغنّون أشعارهم ويعبرون عن نظمه وإلقائه بالإنشاد، ولعلّ أشهرهم المهلهل وعلقمة الفحل، والأعشى صنّاجة العرب، وكان من الشعراء من يُنْشد الشعر قاعداً، ومنهم من ينشده واقفاً، كما أن من طقوس إنشاد الشعر والتغني به اللباسَ والعناية به، بل تتفاوت أقدارهم لحسن الإنشاد من عدمه. وكان كعب بن زهير – مثلاً- إذا أنشد شعراً قال لنفسه «أحسنت وجاوزت والله الإحسان، فيقال له: أتحلف على شعرك؟ فيقول: نعم، لأني أبصرُ به منكم». وفي أشعارهم تُذكر أسماء الغناء والقيان وآلات الموسيقى المتنوعة من صنج ومزهر ودفّ وعود، وسواها؛ وهو ما يدلّ على ارتباط شعرهم بوظيفة الغناء، وكانت أشكال الشعر الأولى تجري في القديم على ثلاثة وجوه: النصب والسناد والهزج، وكانت تقصد بالأوّل غناء الركبان والفتيان، وبالثاني الثقيل الترجيع الكثير، فيما قصدت بالهزج الخفيف كلّه الذي يثير القلوب ويهيج الحليم، مثلما يرقص عليه ويمشي بالدفّ والمزمار فيطرب. وفي النَّصْبَ وسواه، كانت العرب تغنّي وتمدّ أصواتها بالنشيد، وتزن الشعر بالغناء. وقد روي عن ثعلب أن العرب كانت تُعلّم أولادها قول الشعر بوضع غير معقول، يُوضع على بعض أوزان الشعر، كأنّه على وزن (قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل) حتى أصبح هذا الشكل مستقلاً عن غيره، وهم يعرفونه من اللحن والنغم ويُميّزونه عن غيره من التغني به؛ فإذا أرادوا تمييز بيتين عن بعضهما تغنّوْا بكليهما، فإن توافقا فهما من وزن واحد، وإلا فهما مختلفان من غير أن يعرفوا الأوزان ويُسمّونها. فالغناء عندهم مضمار معرفة الشعر وموسيقاه، ومن خلال «هاتين العلّتين (أي تأليف الشعر ومناسبة أوزانه للألحان) انبعثت الشعرية منهم حسب غريزة كل واحد منهم وقريحته في خاصته، وحسب خلقه وعادته» كما يقول ابن سينا.

تأليفات الإيقاع

الثابت أن أوزان الشعر التي نتجت عن تطوّر الغناء وقوالبه الموسيقية، تعود إلى عهود قديمة، و»لا مراء في أنهما قد اتّصل اقترانهما زماناً لا نعلم مداه، كما يقول محمد نجيب البهبيتي، ثمّ انتهيا إلى الانفصال، فسار كلُّ فـنٍّ سيرته». ومن جهة أخرى، يثبت أنه كان لدى عرب الجاهليّة حاصل معرفةٍ بإيقاع الشعر وانتظامه. ومن هنا، نتيجةً لجذوره الغنائيّة، انغلق الشعر العربي على قيم وموازنات موسيقية ساعدت على تلحينه والترنُّم به وإخراجه منظَّماً ومقطَّعاً تقطيعاً صوتيّاً دقيقاً، بما في ذلك التقفية والسجع والترصيع والتكرار، وهو ما بعث الموسيقى في جذر الكلمة وفي علاقتها الجرسية والنظمية بغيرها من الألفاظ التي كانت تقتحم الأسماع، وتملأ فم منشديها، فتُميل إليها القلوب. ويعدّ الحداء أقدم أشكال الغناء في عصر ما قبل الإسلام، وقيل هو «أوّل السماع والترجيع في العرب» بتعبير المسعودي: غناءٌ شعبيٌّ شاع بين العرب يترنّمون به في عملهم وسوقهم ويحدون به، وبقي حتى جاء الإسلام. ومن الحداء ما حدث به سلمة بن الأكوع، وهو أحد الصحابة، حيث قال: «خرجنا مع رسول الله (ص) إلى خيبر، فسرنا ليلاً، فقال رجل من القوم لعامر بن الأكوع: ألا تسمعنا من هنياتك؟ وكان عامر رجلاً شاعراً، فنزل يحدو بالقوم ويقول: لاَ هُمَّ لَوْلاَ أَنْتَ مَا اهْتَدَيْنَــا/ أَلاَ تَصَدَّقْنَا وَلاَ صَلَّيْنَـــا/ فَأَلْقِيَنْ سَـــكِينَةً عَلَيْنَـــا/ وَثَبِّتِ الأَقْــدَامَ إِذْ لاقَيْنَا».

فأوزان الشعر المُغنّى في بداية نشأتها، شأن الحداء، أخذت أوزاناً قصيرةً وبسيطة تقوم على تكرار تفعيلةٍ واحدة، أو أجزاء منها، قبل أن تضطربُ بين القدر الأوسط والطويل داخل ما يتفرع عنها ويتحدر منها جزءاً وتشطيراً وتأليفاً. ويذكر ابن فارس عن «أنّ المشركين لمّا سمعوا القرآن قالوا: أو قال منهم ـ إنّه شعر، فقال (الوليد بن المغيرة) مُنْكراً عليهم: لقد عرضتُ ما يقرؤه محمد على أقراء الشعر، هزجه ورجزه وكذا وكذا، فلم أره يُشبه شيئاً من ذلك، أفيقول الوليد هذا وهو لا يعرف بحور الشعر؟». ورد في الخبر أقسام الشعر وأوزانه، مثل الهزج والرجز والرمل، والقصيد مِمّا كان مسموعاً عندهم، وهذا قبل أن يضع الخليل بن أحمد الفراهيدي عروضه. وكان لكل وزن منها مقام موسيقي، أو نسب إيقاعي خاص؛ فالهزج يتميّز بالخفة والإطراب عند مَـدّ الصوت في الترنُّم، والرمل يتميز باضطراب البناء والنقصان عن الأصل، والسهولة والإسراع والخفّة في الإنشاد هي من جملة ما يتميّز به الرجز عن القصيد الذي اشتُقّتْ منه القصيدة، حين زادت أبياتها وأُحكمت صنعتها. وكانت هذه الأشكال تقوم في معظمها على الشطر الواحد عبر تكرار تفعيلة واحدة، أو أجزاء منها، وتشي ببساطتها من جهة، وتناسبها مع حداء القافلة وأسلوب سير الناقة والبعير من جهة ثانية، وفي هذا كله استثمرت إيقاع السجع الذي هو الشكل الأول للشفاهية الشعرية منذ الجاهلية، ثم نحت به إلى مرحلة التطور الإيقاعي. لهذا، فالشعر قسّمتْه العرب وفق معيارين: وظيفي يرتبط بالترنُّم والإنشاد، وآخر إيقاعي كان يتطوّر بدوره حتى بلغ ذروته مع القصيدة.

ثُمّ كانت القصيدة…

يظهر أن أصول المعاني التي جاء منها اسم القصيد، تتأرجح بين التوسط والاعتدال والاستواء لغةً، والقصد والتجويد وتمام الشطر والإطالة اصطلاحاً. وعلى أساس هذه المعاني، يمثل القصيد ذروة ما بلغه الشعر العربي من الجودة والتهذيب وإحكام البناء والنيّة فيه. ويتلاءم ذلك مع ما ذكره نقّاد الأدب حين تحدثوا عن «مُقصِّد» القصيد، وعن القصد باعتبار «اشتقاق القصيد من «قصدت الشيء» كأنّ الشاعر قصد إلى عملها على تلك الهيئة»؛ فشاع مصطلح القصيدة للدلالة على «قلة الكلفة وإلقاء البال بالشعر» فصار التقصيد أن يُزاوج الشاعر بين الشطور، مثلما صنع المهلهل فكان «أوّل من قصّد القصيد» أي أوّل من زاوج بين الشطور فجعل من كلّ بيْتٍ في القصيدة شطرين عوضاً عن شطر واحد، تمييزاً له عن الرجز مشطوره ومنهوكه. وقد اختلف العلماء في عدد أبيات الشعر حتى يُسمّى قصيدةً، فهذا ابن جني «قال: والذي في العادة أن يسمى ما كان على ثلاثة أبيات أو عشر أو خمس عشرة قطعة، فأما ما زاد على ذلك فإنما تسمّيه العرب قصيدة» ووجد الفراء أن «العرب تسمّي البيت الواحد يتيماً… فإذا بلغ البيتين والثلاثة فهي نتفة، وإلى العشرة تسمى قطعة، وإذا بلغ العشرين استحق أن يسمى قصيداً» وقال ابن رشيق: «وقيل: إذا بلغت الأبيات سبعة فهي قصيدة، ولهذا كان الإيطاء بعد سبعة غير معيب عند أحد من الناس… ومن الناس من لا يعد القصيدة إلا ما بلغ العشرة وجاوز ولو ببيت واحد». وكان الشعراء يُطيلون قصائدهم ويقصرونها حسب مقتضى الحال وأعراف التلقي، مثلما سُئل في ذلك أبو عمرو بن العلاء: «هل كانت العرب تُطيل؟ فقال: نعم ليسمع منها. قيل: فهل كانت توجز؟ قال: نعم ليحفظ، وتُستحبّ الإطالة عند الأعذار، والإنذار، والترهيب، والترغيب، والإصلاح بين القبائل، كما فعل زهير، والحارث بن حلزة، ومن شاكلهما، وإلا فالقطع أطير في بعض المواضع، والطول للمواقف المشهورة». فالفرق بين القصيدة القصيرة والقصيدة الطويلة هو فرْقٌ في النوع لا في الكمّ؛ وبالتالي، فقد يحتاج الشاعر إلى القطع بقدر حاجته إلى الطول، لكن واقع النّظْم الشعري كان يُشير، باستمرار، إلى ميل الإطالة والتثقيف والتنقيح في عهد القصيدة باعتبارها الشكل الأرقى في سياق تطوُّر الشعر العربي، بعد عهودٍ من الاضطراب والتجزئة مع الأشكال السابقة، وكان من شعراء الجاهلية من سمّوا بـ»عبيد الشعر» مثل زهير والحطيئة وأشباههما، لأنّهم اختطّوا نهجاً شعريّاً يُقوّي الوعي بـ»هيكل القصيدة» ويتّجه إلى فكرة أنّ الشعر صَنْعةٌ وفنٌّ. وبدا جليّاً عند أهل العلم بالشعر من القدامى تفضيلهم للقصيدة التي جعلوها أحسن الشعر، واعتبروا طول النّفَس شرطاً للفحولة، ورتّبوا الشعراء تبعاً لطول قصائدهم فكان «المطيل من الشعراء أهيب من الموجز وإن أجاد» ولطالما قُـدّم الأعشى لكثرة طواله الجياد. ولذلك بدت بعض أنماط الشعر مِمّا قصر واضطرب في مرتبة أدنى من شكل القصيدة التي بدأت تُوضع بـ»نيّةٍ مقصودةٍ».

عقدة أسلوبية

لم يختر الشعراء مسألة الإطالة مسبقاً، بل دُفعوا إليها دَفْعاً لأسباب فنّية، ولعل أهمَّها سببان:
أوّلاً، بسبب مُتطلّبات تنظيم يفضي إلى إطالة القصيدة، ويحرص على قرضها وعرض مختلف أجزائها وفقراتها بشكل متوازن وسلس حتى نهايتها.
ثانياً، بسبب المتطلبات الداخلية التي أخذت لغة القصيدة تستجيب لها، وعبرها يتّجه الخطاب نحو التماسك والتحبيك؛ أي شدّ فقراته بعضها ببعض على نحو ما يجعل من القصيدة كُلاً لا يتجزَّأ، كما انتبه جمال الدين بن الشيخ في «الشعرية العربية».
يُشكِّل تطويل القصيدة واقعةً جماليّة مطَّردة، إلى أن عُدّت الشكل الأصولي للشعر العربي، إذ له مواصفاته الخاصة، ومنها ما يتعلق بالمعنى، ومنها ما يتعلق بالمبنى، ومن خلالها أخذ الإيقاع يأخذ صفة «العُقْدة» للدلالة على أسلوب الشاعر في نظمه وتأليف قصيدته. وقد مهّد لذلك الوعي بقيمة القصيدة وخطورتها ما أظهرته العرب من كَلَفٍ بالقصائد الطوال، إذ عمدت إلى سبع قصائد تَخيّرتها من الشعر القديم، فكتبتها بماء الذهب وعلّقتْها على أستار الكعبة، وذلك تعظيماً لشأنها وسموّاً بوظيفتها، كأننا انتقلنا من التغني بالشعر إلى إدماجه في سيرورة الفعل الثقافي والجمالي داخل رؤيته للأشياء والعالم.
هكذا، وصلتنا القصيدة العربية القديمة، بعد عهود من تطوّر الشكل الشعري وإعمال الجهد الفني وترقية الذوق، قصيدة مهيكلة تنغلق على «عقدة أسلوبيّة» خاصة مثيرة للدهشة والنظر، ونحن لما نتلقّاها اليوم «نشعر، يقول يوسف اليوسف، بأنها جسم له ثقلٌ ولونٌ ورائحةٌ ويشغل حيّزاً في المكان»؛ وهذا دليل جارٍ عبر التاريخ يقطع بأنّ الإيقاع كان يجسد رؤية للعالم، غنائية ووجودية تكره الفراغ وتسعى دائماً للارتقاء بالذات وما تشعر به، عن طريق السحر السامي للكلمة الشعرية.

كاتب مغربي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية