شعريات منذورة لاختلافها

تحرص الأعراف الأكاديمية على إدراج كل من الكتابة الشعرية وقراءاتها، ضمن إطار نظري مشترك، يأخذ شكل ملاذ مرجعي يحتمي به الطرفان من مزالق التيه في مسالك تأويلية قد تزيغ بهما عن الوجهة المطلوبة. وغالبا ما يكون هذا الإطار- من وجهة النظر ذاتها – خلاصة تعاقد معرفي يعتمدانه معا في صياغة سردية تواصلهما، تلافيا لحدوث أي قطيعة محتملة، إذ سيكون من الطبيعي الاحتكام إليه/ الإطار، كلما دعت الضرورة، سعيا إلى توثيق أواصر تواصلهما، في حدود ما تسمح به خصوصية السياق الجمالي والفكري، وملحاحية هذه الضرورة هي التي تجعل منه شرطا أساسيا لتحقيق القصد التفاعلي، الذي لا يمكن في أي حال تجاوزه أو الاستهانة بسلطته الإجرائية. فالشاعر، ومهما جنح به جموحه التجريبي عن جادة التلقي المؤطر بالقوانين المشتركة والمتداولة، إلا أنه سيظل مع ذلك مجبرا بشكل أو بآخر، على تحفيز تفاعل القارئ، بغية الفوز بثقته بموجب شرعية الميثاق/الإطار. بمعنى، أن هاجس تحديثه لتجربته. لا ينفصل في حال من الأحوال، عن جدوى ملازمة طيف قارئه المحتمل له، كشكل لائق من أشكال الاحتفاء والاعتراف الضمني بما أنجزه، وينجزه من أعمال. وكلها عوامل تضاعف من حرصه على مراعاة إملاءات وإفادات الإطار النظري، التي يستأنس بها القارئ بدوره خلال تمزيقه لغلالة الغموض التي تحول دون تظهير الأبعاد الدلالية المتضمنة في تضاعيف النص.

والمقصود بالإطار النظري هنا، هو خريطة الطريق الشعرية المعتمدة من قبل الشاعر في صياغته لنصوصه، التي تستند إليها القراءة أيضا. في مقاربتها للنصوص ذاتها. علما بأن العلاقة بين مرجعية خريطة الطريق، ومنجز كل من الكتابة والقراءة. ليست ذات طبيعة تطابقيه، كما تتوهم بعض المنهجيات المدرسية، بقدر ما هي علاقة تواطؤ جمالي، يوحي باحتمال حضور المشترك أو غيابه في الجهتين معا، عبر تماسات ضوئية متبادلة بالكاد تشع كي تختفي.

فاقتناع الشاعر – مثلا – بتبني رؤية كلاسيكية تجاه العالم. يتضمن مبدئيا. اقتناعه بتبني الثوابت الكلاسيكية في القول الشعري، وهي الثوابت ذاتها التي تهتدي بها القراءة الكلاسيكية في تفاعلها مع النص. ورغم أن هذه الثوابت تظل من وجهة نظر تحليلية ومقارناتية جد غائمة وملتبسة وفضفاضة، ولربما مثقلة بتناقضاتها. على أساس تباين مستويات الوعي بها، وتفاوت درجات تمثلها بالنسبة للشاعر كما بالنسبة للمتلقي. إلا أنها وكما سبقت الإشارة إلى ذلك، جد ضرورية بالنسبة للرؤية الأكاديمية من أجل استكمال شروط التعاقد، الكفيلة بتحقيق ذلك التواصل المنتظر، بين أرض الكتابة وأرض القراءة.

وإذا ما كان هذا القول، يصدق على أغلب التيارات الشعرية المتداولة حاليا في مدونة الكتابة، فإنه لن يمنعنا من التساؤل عن خصوصية المرجعية النظرية، التي يمكن قراءة التجارب المنفلتة من سلطة أي تأطير مدرسي جاهز، والمتميزة بحضورها القوي في مشهدنا الشعري العربي الحديث، على قلتها طبعا؟

إنه السؤال الإشكالي، الذي لا يبدو معنيا باستشراف أي جواب شاف ومقنع يمكن أن يجود له الدرس الأكاديمي، غير أنه ومع ذلك لا يلغي إمكانية ظهور أجوبة لا تخلو من أهميتها. عن أسئلة مضمرة، لم تتوافر بعد – ربما – الشروط الملائمة لطرحها، فالقارئ المتمرس بجديد الكتابة الشعرية، سواء على مستوى العالم العربي أو الكوني. لم يعد مهتما باستحضار تلك المقولات المسكوكة التي دأبت على تأطير هذه الكتابات في خانة معلومة من خانات التنظير الشعري، ولربما تزامن تكريس هذا الإهمال. بتواطؤ مع الشاعر ذاته، الذي أصبح هو أيضا، منشغلا بهاجس استكناه أسرار اللحظة التي يستمد منها شعريته، أكثر من انشغاله بالبحث عن الخانة التنظيرية المؤهلة لتأطير هذه الشعرية. كما لو أن حالة مزمنة من الخمول، قد تسربت خلسة إلى عقر التصنيفات النظرية، بفعل ما طالها من ترهل، فيما أمست الكتابة سعيدة باكتشاف خفتها واستعادة حريتها، وقد تحللت تماما من إكراهات التعاليم.

ومن وجهة نظرنا، فإن المنعطفات الحاسمة التي جددت وتجدد الكتابة فيها ذاتها على امتداد تاريخها الطويل، هي وليدة الارتباكات الكبرى. التي يحدث أن تداهم اللحظة الثقافية، حيث تتطاير شظايا البوصلة في الأرجاء، دون أن تترك أي أثر يدل عليها، وأتاحت بذلك للتجربة الشعرية إمكانية التخلص من رقابة السلطات المعرفية الكابحة لجموحها، كي تستعيد حريتها بالكامل، وكي تعيش تجربة نزقها العالي، الذي يأخذ تدريجيا شكل تأسيس شعري جديد، مختلف ومغاير، ما يجعلنا نقر بأن التأطير النظري بقدر ما يكون إيجابيا ضمن حيثياته الموضوعية/ الأكاديمية، بقدر ما يمكن أن يتحول إلى أنشوطة معدنية، تحكم خناقها على الكتابة الشعرية، كي تحرمها من متعة أي انفلات محتمل، فالإطار النظري يعتبر ذاته وصيا دائما على شعرية القول. وبالتالي، يصبح التخلص من أنشوطته شرطا أساسيا، للفوز بطفرة التجاوز المنتظرة.

ضمن هذه القناعة المتواطئة هي أيضا مع حق النص الشعري في تكسير حاجز الرقابة النقدية، سيكون بوسع الملاحظ تبين بعض الملامح الأساسية التي يتمظهر بها هذا النص الشعري، وتحديدا في قلب الارتباك الثقافي الذي يسود المشهد العربي حاليا، مع التذكير بأن الأمر يتعلق باستبعاد أي توصيف مبيت، يسعى إلى قطع الطريق على التجربة، طمعا في الزج بها داخل ظلمة خانة ما.

عموما، ينبغي التنويه بأن النماذج التي تعنينا في هذا السياق، تقع خارج التصنيفات السلالية والقبلية المشهود لها بتحديث النص الشعري، سواء كانت ذات جذور غربية أو عربية، والتي أمست – على «جلال!» قدرها – بالنسبة للنماذج التي تعنينا، ملكا لذاكرة ماضوية.. لم تعد لشعريتها تلك الجاذبية والإثارة، التي كانت تتميز بها على امتداد النصف الثاني من القرن الماضي، وهي سنوات الأسئلة الحارقة، التي دأب شعراء الحداثة على الاصطلاء بلهيبها. من «قرسلفية» شرسة كانت ولا تزال متغلغلة في مسامات الثقافة العربية، فالمساحة التي كانت تطمئن إلى جدتها هذه التجارب، سواء تحت مظلة الأزمنة التأسيسية، أو غيرها أمست جد ضيقة، ولم تعد فضاءاتها تفتح شهية القراءة، أو الكتابة، بفعل زوال مبررات وجودها فكريا ونظريا، تحت وطأة الارتباكات المجتمعية التي يتداخل فيها السياسي بالاقتصادي بالثقافي، ما أدى إلى اختلال حاد في أمزجة تلقي حقائق الأشياء وجمالياتها، وبسلطة هذه الاختلالات وبعنفها أيضا، يتم التخلي الإرادي واللاإرادي، عن كل ما كان يعتبر إلى حين.. مكسبا وامتيازا وقيمة مضافة، حتى إن على المستوى المجتمعي الثقافي، أو الإبداعي. إنه التخلي الحتمي الذي يحشر النصوص المتجاوزة والمصابة بأورام السلف – رغم حداثة عهدها بالولادة – في كيس ما أمسى بالقوة وبالفعل، مادة في ذمة التقادم الزمني، باعتبار أن كل ما يتم التخلي عنه بحكم زلزال الاختلالات المجتمعية والثقافية يصبح مندرجا ضمن حكم «ما كان» بكل ما يتخلل الكلمة من التباسات نظرية وإبداعية.

فـ»ما كان» وفي السياق الذي نحن بصدده، رغم إحالته الضمنية على أرض الموروث، إلا أنه ومع ذلك يجهر بإجهاضه الحتمي، لكونه يعدم ويفتقر إلى مقومات «ما يبقى» ومقومات «ما يؤسسسه الشعراء» ذلك أن «ما يبقى» يقع خارج طائلة نصوص مغرقة في تشابهها إلى أقصى حدود الابتذال، كما سبقت الإشارة إليه في سياق غير هذا.

شاعر وكاتب من المغرب

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية