علي جعفر العلاق: خلاصة التجربة الشعرية

حجم الخط
0

يحدث أن تُعبر الحدود الأجناسية وتنتهك، لكن بعضاً من العبور والانتهاك يُعزز من طبيعة الجنس الأدبي ويثريه، ولعل الكتابة السيَرية الأدبية واحدة من الأجناس الكتابية، التي تعرضت لخلخلةٍ ونوعٍ من العبور الأجناسي، منحها ضرباً من التخمر والتفتق عن صيغ تعبيرية مختلفة وجديدة، مقبلةٍ من مناخات تعبيرية مختلفة في نوعها الأجناسي، إذ إن هناك عبورا شعريا واضحا ولافتا نحو الكتابة السيرية، حتى صرنا نرى سِيَراً أدبية مشغولة تعبيرياً بروح الشعرية العالية، ويتجلى هذا في طبيعة الروح التعبيرية المجازية والمتخيلة، وهذا ما يشير إلى الطبيعة المتحولة القلقة للكتابة السيرية، لاسيما السيرة الذاتية المشتبكة في المتن مع السِيَر الغيرية أحياناً. وهنا لا مناص من تداخل وتجاور السيرة الذاتية مع الغيرية؛ ذلك أن الكتابة السيرية تستدعي حضوراً لشخصيات، تتفاعل وتشكل بؤراً صغيرة، تنتشر على طول مساحات السيرة الأدبية، وهذا ما تحفل به سيرة الشاعر علي جعفر العلاق المعنونة بـ(إلى أين أيتها القصيدة)، حيث نجد فيها حضورا احتفائيا كبيرا بشخصيات ثقافية وإبداعية، شكلتْ متناً موازياً لنواة البؤرة الرئيسة في سيرته الأدبية، فضلاً عن حضور لشخصيات مثل (سعدي يوسف، جبرا إبراهيم جبرا، عبد الوهاب البياتي، أدونيس، عبد الستار ناصر وصلاح فضل، وغيرهم)، هذه الأسماء تشتغل داخل السيرة وتنتظم كتابياً بشكلٍ يكشف عن طبيعة شخصية الشاعر، الواقعة خارج المتن الكتابي وداخله، ولعل من يعرف الشاعر عن قرب، يعلم جيداً أنه شخصية تتمتع باقتصاد لغوي، وكياسة تعبيرية عالية الدقة، وقد عبّر عن ذلك بقوله في سيرته: «نشأت على كراهة لكل ما يفتقر إلى الكياسة»، وهذا التوصيف الشخصي ينطبق على العلاق في شخصيته الواقعية، لكونه غيرَ حاد في آرائه ولا يميل إلى التقاطعات العنيفة، فضلا عن قدرته على التفاعل والتعاطي ثقافيا مع شخصيات قد يتقاطع معها أيديولوجيا، أو على مستوى التذوق الفني وفَهْم الأدب ودوره في الحياة.

تكشف سيرةُ العلاق عن حفل صداقات غريبة ومترامية الأطراف عربياً وغربياً، هذا الحفلُ كشف أيضاً عن ملامح لتقاطعات حادة وصاخبة مع الستينيين، الجيل المنتمي إليه العلاقُ شعريا، ولعله من أكثر الأجيال الأدبية المميزة بجدالات اليمين واليسار، فضلا عن حدة التجاذبات والتقاطعات الفكرية والجمالية، وعن هذا يقول العلاق: دخلت بمجموعتي الأولى تلك، إلى مشهد شعري صاخب، دخول اليتيم الذاهل، إلى سوق يضج بالباعة الفرحين بما لديهم، قبائل أيديولوجية تتصايح على بعضها».

وهنا تتكشف ـ عبر هذه الجزئية الصغيرة المُشكلة للحياةِ الشعرية والثقافية للعلاق ـ طبيعةُ التعقيد والصراع الأيديولوجي السائد آنذاك، ومن المعروف أن الرافعات الأيديولوجية للجيل الستيني قدمتْ كثيراً من الأسماء التي اتسم منجزُ بعضٍ منها بالبساطة، ولكنْ، لكونها رافعةً أيديولوجية، فقد خلقتْ لهذه الأسماء مساحاتٍ كبيرةً في الساحة الأدبية، أوسعَ من أهمية تجربتها الفنية، وفي هذه الزاوية البالغة الخطورة والتعقيد، نجد الصوت النقدي الإنساني حاضراً في متن الكتابة السيرية، كاشفاً عن موقف نقدي أولي من جيل العلاق، حيث يُورد في سيرته: «كثيرا ما كررت القول إنني كنت من جيل الستينيات، ولم أكن منه في اللحظة نفسها، كنت أنمو بعيداً عنه ولكنني في المناخ ذاته، أحاول كتابة قصيدتي بطريقتي الخاصة، خالصاً مما شاب سلوك بعض الستينيين أو نصوصهم من ادعاءات يحاولون بها تغطية ما تشتمل عليه نصوصهم من قصور في اللغة أو الموهبة». وفي هذه الطية التعبيرية ذات الروح النقدية المعقدة، يتجلى تشخيص بعض من أمراض (الجيل الستيني)، الصاخب بالمرجعيات الأيديولوجية، وعلى الرغم من التوصيفات النقدية عالية الكياسة، فإننا نجد الشاعر يحتفي في سيرته بهذه العلاقات المتقاطعة؛ ذلك أنها محكومة لديه بالبعد الإنساني، العابر لمفهوم الجماعة الأيديولوجية، ورافعاتها المتنوعة والمتقاطعة.

تكشف سيرةُ العلاق عن حفل صداقات غريبة ومترامية الأطراف عربياً وغربياً، هذا الحفلُ كشف أيضاً عن ملامح لتقاطعات حادة وصاخبة مع الستينيين، الجيل المنتمي إليه العلاقُ شعريا، ولعله من أكثر الأجيال الأدبية المميزة بجدالات اليمين واليسار، فضلا عن حدة التجاذبات والتقاطعات الفكرية والجمالية.

ووفقاً لما تقدم، فإن الكتابة السيرية عامة، تقوم على ميثاق تعاقدي بين (الكتاب/ القارئ) محوره الوثوقية العالية، والسنن الاتصالية التي تحكم تلقي الكتابة السيرية، التي تحولت إلى نوع من تاريخ (فني/ثقافي)، ينتظم في متن الكتابة السيرية، إذ تُتحرى كتابتها (الحقيقيةُ، والموضوعية، والدقة، والخطية) كمكون أصيل، ترتهن إليه الكتابة السيرية، عبر ميثاقها التعاقدي مع القارئ، ولعل من بين هذه المواثيق التعاقدية على المستوى الجمالي في الكتابة السيرية، هو ميثاق البناء الخطي الزمني، المتسلسل والمتتابع، وهذا ما تفترضه بديهيات السيرة الأدبية بعامة، ولكن ثمة كتابات سيرية ذهبت بفعل العبور النوعي للأجناس الأدبية إلى خلخلة هذا البعد الخطي التتابعي، وذهبت إلى خياطة زمن وفق مقاساتها، فثمة زمن (وحشي)، وثمة زمن (يغير هيئته)، وثمة زمن (متشابك ومتفرع) لا يمكن احتواؤه، ويمكن لنا تسميته بزمن (الطبيعة البرية)، فسيرة علي جعفر العلاق في كتابه، ليست خطية متسلسلة ومتتابعة، من هنا هي تشكل وتفترض وتستعير زمنها البري الخاص، الذي يتضارع ويلتحم متماهياً مع مفهوم (الطبيعة) بوصفها مفهوماً غير خطي؛ ذلك أنها نمو متواصل أفقياً وعمودياً في كل اتجاه، صعوداً ونزولاً، فالطبيعة البرية غير المنتظمة للطبيعة، شكلت الزمن الخاص بسيرة (الشاعر/الكتاب)، وثمة أزمنة تستعاد قبل بعضها، وثمة أزمنة تتأخر، وما بين الاستشراف الزمني والاسترجاع تنمو السيرة الشخصية لــ»إلى أين أيتها القصيدة»، وكأنها بهذا تتوحد مع روح الكتابة الشعرية غير الممكن إخضاعها لمفهوم الخطية والتصاعد، فالزمن البري ينمو في كل اتجاه، ولا يمكن ضبط إيقاعه ولا تشكلاته الجمالية. إن الزمن في سيرة الشاعر، يتخذ من الطبيعة معياراً وشكلاً جماليا/ ثقافيا، فأينما تحضر الطبيعة يحضر الزمن؛ بوصفه دليلاً غير خطي على تحولاته وجريانه نحو الأعالي المهيبة للتجربة والكتابة والعيش، ويمكن لقارئ سيرة الشاعر في «إلى أين أيتها القصيدة»، أن يجد ببساطة أنها تبدأ من (الطبيعة/ القرية) وتنتهي بها، إذ تشكل هذه البيئة الأولى للشاعر قوساً لتجربته الشعرية والحياتية، وكأنها تستظل بالأشجار والأدغال والتعريشات والجذور، متخذة منها ميداناً تستمد منه الكتابةُ السيرية تجربتها الشخصية وروحها الكتابية، كاسرةً بهذا الطبيعة الخطية للزمن، وحدوده الصارمة وبنيته ذات الطبيعة التحديدية.

ولأن الكتابة السيرية الأدبية، هي عملية استدعاء لتفاصيل مقيمة وثاوية في الذاكرة، فإن السيرة الكتابية للشاعر تعمد إلى انتخاب مشاهد، ولوحات، وتفاصيل، وحوارات من الذاكرة، ساعية إلى تحويلها لكتابة أدبية سيرية متوترة تعبيرياً، تكون وتشكلُ رؤية كتابية تتزود بمواقفها ومداليلها من هذا الانتخاب المقبل من فضاء التجربة، وكأن الشاعر في سيرته يعمل وفق آليات الذاكرة/ الشعرية، انتخب بعضا من المشاهد التي احتفظت بها الذاكرة، أو تم تدوينُها سابقاً في مشاغل كتابة اليوميات/ والمذكرات/ والمشاهدات، التي كونت لاحقاً جزءا من سيرة إبداعية، تتعلق وترتهن لفضاء التجربة الشعرية الشخصية للشاعر، ولربما كان هذا الانتخاب القصدي متطابقاً مع العبارة الذهبية لهولدرين: (ما يبقى يؤسسه الشعراء)، ولا غرابة في أن يكون المتبقي من التجربة وانتخاباتها الذاكراتية، هو التجربةُ ذاتها، وملابساتُها الشعرية والثقافية، فالشاعر يؤسس لما تبقى، وفق ما تتيحه هذه الذاكرة، المنتخبة للتفاصيل المكونة، والمشكلة لمناخ الكتابة السيرية، وما تنتخبه الذاكرة من التجربة هو ما يكون وفق مقاسات تذوقها، تجربة وعيشاً وكتابة وتعبيراً.

على مستوى آخر تحيل عتبة العنوان الاستفهامية (إلى أين أيتها القصيدة؟)، إلى ضرب من الاستفزاز الجمالي والإغوائي، فكأنه يزيح ذاته الشخصية بعيداً؛ ليقدم عنونةً تشكل تعبيراً يرمز لذات الشاعر، فالعنوان المختار للسيرة صيغةٌ إبدالية إحلالية، تحل في موقع الذات الكاتبة للشاعر على مستوى الإحالة المرجعية، ولكن على المستوى الدلائلي للمتن الكتابي في السيرة، ثمة تواشج واتحاد وتواصل بين الذات الشاعرة والقصيدة، بوصفها صيغة إبدالية قابلة للحلول محل اسم الذات الشاعرة، ولا غرابة في أن تكون العنونة السيرية في كتاب العلاق، مختومة باستفهام، يتفق ويتطامن مع مهام القصيدة، فالشعر بعامة لا وجهة لسفره وترحاله، بوصفه نموا إشكالياً متواصلاً ومستمرا نحو المجهول، ولعل هذا التطابق العمقي، يمكن الإمساك به، لاسيما حين نجد أن متن السيرة حافل بحواراتٍ معمقة حول الشعرِ، وآلياتِ الكتابةِ وطبيعةِ القصيدة التي يؤمن بها الشاعر ويكتب فيها، إذن: ثمة تواشج سري وعميق بين ذات الكاتب، والصيغة الإبدالية للعنونة (القصيدة)، ولو أننا أبدلنا صيغة العنونة، (إلى أين يا علي جعفر العلاق؟) لكان المتن السيري متفقاً على المستوى الدلائلي مع هذه العنونة الإبدالية، فثمة تطابق وتكامل ما بين ذات الشاعر وذات القصيدة، التي يصح أن تحل محل الاسم الشخصي في العنونة الخارجية. وإذا كان لا بد من جواب في النهاية لسؤال العلاق، (إلى أين أيتها القصيدة) فحتما لا جواب يلوح هناك على المستوى الثقافي بعامة، والشعري الشخصي بشكل خاص، فالقصيدة لدى الشاعر هي سؤال متواصل، وفيوضات لا يمكن الحد من معناها، وتوجهاتها الجمالية والثقافية، ولعل هذا الكتاب السيري، هو محاولة لإنجاز التجربة الثقافية، بوصفها حياة تُستعاد من حصالة التجربة الشعرية، المنفتحة على مناخات كتابية متحولة، لا تؤمن بغير القلق والوسوسة تربةً لكتابة قصيدة الحياة والتجربة.

كاتب عراقي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية