«ملحمة رأس الكلب» رواية المصري محمد أبو زيد عندما يُدمج الواقعي في السحري لصناعة رواية فاتنة

صابر رشدي
حجم الخط
0

هذه رواية لها أهمية مزدوِجة، أولاً لأنها تعبّر عن جيل جديد من الروائيين. وتمثله خير تمثيل في اقتراح موضوعات تنطلق من الراهن، لتخترق به عوالم لم تُستهَلك بعد، نائية بالسرد عن ثيمات يُعد اجتراحها بمثابة فعل كتابة على الكتابة، وبناء هش على موروث تم اعتصاره تماماً. ثانياً، لأنها تحاول الدخول تحت جلد شريحة معينة من البشر: طلبة الجامعات، فتيات وفتيان، تحت سن العشرين، مرحلة عمرية تمثل قمة الارتباك، والتشوش الفكري والعاطفي، يسعى أفرادها إلى تكوين شخصية مستقلة، من خلال الخبرات الصغيرة، المكتسبة من العوالم الضيقة المحيطة بهم، بينما عالمهم المعرفي الحقيقي يعتمد على انغماسهم التام في عالم افتراضي، لامتناهٍ، يستغرق أوقاتهم، ويشغل حيزاً كبيراً من اهتماماتهم.
أبطال الرواية فتاتان «دو» و«لبنى»، وشخصية ثالثة شاب يسمى «رأس الكلب».  سيتوزع السرد بينهم بالقسطاس، ليضم بعض الشخصيات الأخرى، التي من خلالها نستطيع أن نُطِل على واقع هؤلاء الأبطال، ونُلِم ببعض تفاصيل حيواتهم.
دو، التي تحمل اسم الحرف الأول من السلم الموسيقي، تعيش هي وشقيقها الذي يكبرها بتسع سنوات مع أمهما المنفصلة عن والدهما بمنطقة «حدائق القبة» غرب خط المترو، لكنها تفضل الانتساب إلى منطقة «روكسي» الواقعة شرق خط المترو بالمحطة نفسها، حيث أرقى أماكن البرجوازية المصرية، وبدايات انطلاق الطبقة المصرية المترفة في العصر الحديث للسكنى على تخوم القاهرة القديمة. في هذه الضاحية التي أسسها البلجيكي البارون إمبان تحت اسم «مصر الجديدة»، في أوائل القرن الماضي، أبنية ومنشآت مستمدة من الجمال الخالص.
دو، عاطفية أكثر مما ينبغي، يمر أي قرار في حياتها على حجرات قلبها أولاً، وقد يأتي بنتائج عكسية.
لبنى، تعيش وحيدة مع جدتها وقطة أليفة اسمها أليس، بمنطقة «نصر الدين» بأول شارع الأهرام، أو «شارع الهرم» كما ينطقها المصريون.
رأس الكلب، طالب حقوق قادم من الصعيد، يسكن غرفة أعلى بيت قديم بحي «بولاق أبو العلا»، يكفله جده لأبيه، بعد وفاة الوالد بسبب نكتة كان يقرأها في كتاب «ألف نكتة ونكتة» حيث ظل يضحك، ويضحك حتى اغرورقت عيناه بالدموع، واختلط الضحك بالبكاء والعويل، ليسقط ميتاً على هذا النحو الأليم.
لماذا قمت بالتركيز على الأماكن؟
لأن الكاتب جعل من هذه الرواية دليلاً جغرافياً للأماكن التي دارت الأحداث فوقها، وعبر دروبها، وممراتها، ذاكراً الأسماء بدقة: الأحياء والشوارع والمقاهي والكافيهات، وبنايات وسط البلد الشهيرة، معيداً بناء الزمان والمكان، وتفاصيل الحياة اليومية. وهو يكتشف العالم مع أبطاله، متحركاً بمهارة بين فضاءين متضادين: الواقعية المفرطة، والخيال الجامح، متأرجحاً بينهما، ينهل من هنا تارة، ومن هناك تارة أخرى. يعرف أين يبدأ المشهد الواقعي، ومتى ينتهي، وتحل مكانه الفانتازيا والغرائبية والموروث الشعبي الأسطوري، وسحر الفضاء الأزرق والتكنولوجيا، وعوالم ديزني والكرنفالات المبهجة المستمدة من السينما الحديثة، متمثلاً قناعات كل من أرسطو وهوراس بأن المثير والرائع هما صفتان ضروريتان للأدب.
دو ولبنى، تربط بينهما صداقة عميقة، بدأت على نحو غريب، تحكي دو لرأس الكلب كيف رأت لبنى لأول مرة عندما كانت تعبر الممر الضيق أمام سينما ريفولي:
«كانت ترتدي بنطلوناً رياضياً وسويت شيرت بغطاء رأس يخفي ملامح وجهها، وتنتعل حذاء رياضياً وتضع سماعات موسيقى على أذنها. وقفت تراقبها وهي تُخرِج علبة جبن مثلثات «بريزيدون» من حقيبتها، ثم تُخرِج قطع الجبن من العلبة في عناية، ثم تفض غطاءها وتضعها أمام قطط الشوارع التي تجمعت حولها. وحين انتهت وقفت تراقب القطط وهي تأكل وتبعد عنها المتطفلين حتى شبعت، عندها اقتربت دو منها وقالت وهي تمد إليها يدها:
– أنا دو… أريد أن نصبح صديقتين».
لقاء دالٌّ، يلقي ضوءاً كاشفاً على طبيعة الفتاتين، يجعل المتلقي يراهما بعين الخيال، ربما شاهدهما في المترو، أو الباص، أو بالقرب منه على أحد الكافيهات. وليس لإطعام القطط معنى في هذا المشهد إلا بعدما يعرف القارئ – فيما بعد – أن لبنى كانت تبحث عن قطتها أليس التي اختفت فجأة بعد وفاة جدتها.
أما رأس الكلب، فقد اكتشفا وجوده معاً، في مصادفة روائية غير مستغربة، وتتوافق مع النحو العجائبي الذي سيبسط ظلاله على الرواية منذ تلك اللحظة، مبتعداً عن الواقع المادي، تحت تأثير تيار الواقعية السحرية وأدب أمريكا اللاتينية حقبة «الطفرة»، حيث الاعتماد على الموروث الشعبي، والأساطير المحلية، والشخصيات التي تملك قوة سحرية.
لكننا هنا، سنعاين سرداً لا يثير الأسئلة السياسية، لكنه يشترك مع هذا التيار في إثارة الفضول والدهشة، والقضاء على الشعور بالملل، من خلال بناء هندسي صارم يحكم بنية الرواية، ويحيط بعوالمها، ويأتي كمحاولة لتعويض هذا التشظِّي الذي يلاحظه المتلقي على الشخصيات.
كانت لبنى ودو في زيارة أحد المحال لشراء سنجاب. هناك كانت المفاجأة، البائع الذي «كان يرتدي بنطلون جينز أزرق، وقميصاً أبيض بياقة زرقاء، وحزاماً أسود، وساعة ذكية بالأرقام، وكان له رأس كلب: فم كلب، وأنف كلب، وأذنا كلب، وعينا كلب». لتبدأ قصة حب فريدة من تلك اللحظة بين دو، ورأس الكلب. ونبدأ اللهاث وراء هؤلاء الشخوص، وتتبع حكاياتهم، فكل شيء سيمضي سريعاً، متروكاً لتأثير زمن الرواية. وسيبدأ أبو زيد في إضاءة الزوايا المعتمة داخل أبطاله، على نحو كفيل بإعطاء صورة للقارئ، تساعد على توفير سلطة الإقناع لهذه الأحداث التي يعج بها العمل، دافعاً بها إلى الأمام، في لعبة فنية محسوباً نتائجها بدقة.
فمثل هذه النوعية من الكتابات محفوفة بالمخاطر دائماً، وتحتاج إلى التوازن، حتى لا يخرج العمل مهلهلاً، ويصدم مزاج القارئ المدقق، أو المتنمر. لقد عبر الكاتب عن ثقافة هذا الجيل وعن طقوسه اليومية. وعن تعامله مع الحياة، وتعاطيه مع كثير من الأمور المحيطة به، كواحد من أفراد هذه الشريحة، يحفظ، شَفراتها، وأهواءها، وتقلباتها، ما يسعدها، وما يعكر عليها حياتها.
لذا نجح في توظيف تقنية الراوي كُليِّ المعرفة، أو الراوي العليم، الذي يحيط بكل جوانب قصته، ويعلم تماماً الدوافع والأفكار التي تحرك شخصياته، وتحرك مشاعرهم. في فصل مثير تحت عنوان: «بني آدم برأس كلب»، نلقى نظرة على مأساة شخصية: كيف تحول شاب جامعي إلى شاب برأس كلب، إنه يذكرك بحكايات ألف ليلة وليلة، نقلات سردية، متتابعة، لقطة وراء أخرى، تنسى معها عدم معقولية هذا التحول، وعدم حدوثه ـ واقعياً – على الإطلاق.
نتماهى مع ما يحدث، مأخوذين بتوترات الموقف، لحظاته المقلقة، مشفقين على الفتى لصدقية السرد، ومحاولة أبو زيد إضفاء روح من الجدية على ما يجري، رغم إغراقه في الخيال، واستلهام حكايا الأقدمين. لقد كنا نطالع تفاصيل لعنة، أثناء جريان السطور تحت أعيننا، لعنة تجري للمرة الأولى في كتاب، موصوفة بكاملها.
تتقاطع مصائر الشخوص الثلاثة، وتتشابك على مدار الرواية، فثمة تصعيد رأسي للأحداث، وتحليل سردي يتمدد أفقياً، ويستكمل البناء الروائي، سياحة في أجواء الواقع، وسفراً وراء الخيال، بعيداً عن عنف الحاضر، ومكر التاريخ بالمنطقة في عصرنا الراهن، عبر مشاهد منفلتة من أي نغمة تقريرية، تتخذ شكل الكرنفال، إتاحة الفرصة لعوالم الإنس والجن والحيوانات للتجاور في عمل مشترك.
كل شيء قابل للوصف، مهما كان حُلمياً، أو فانتازياً. والدخول إلى «مدينة التائهين» رفقة رأس الكلب وهو يحاور غرائب المخلوقات، حيث اليوتوبيا «لا تعني مجتمعاً ملائكياً كل من فيه طيبون. اليوتوبيا أن تعرف حقيقة مَنْ أمامك، طيباً أم شريراً، صادقاً أم كاذباً، أن تعرف حقيقة ما يؤدي إليه الطريق وتختار بإرادتك أن تسلكه أو لا. اليوتوبيا تعني أن الحق بيِّن والشر بيِّن، أما المشتبهات التي بينهما فهي الحياة الدنيا التي جئنا منها».
إنها لحظات هروب من الواقع المعيش، من تفاصيل الحياة اليومية، من النمطي والمألوف، ومن العالم الحقيقي برمته. حيث تعود القطة أليس إلى لبنى، بعد الاختفاء، متقمصة روح الجدة المتوفاة لتكون الحارس الأمين لها، حين تحاول دو الاستعانة بالسحر لإنقاذ رأس الكلب وإعادته إلى عالم البشر.
يتحفنا أبو زيد بعمل جيد يستحق القراءة، يزخر بالتأويلات المتعددة، ويحمل بصمات رواية ما بعد الحداثة، حتى لو شابت المثاقفة بعض المواقف أحياناً، فإنها جاءت لتخدم السرد في مشاهد معينة.
محمد أبو زيد: «ملحمة رأس الكلب»
دار الشروق، القاهرة 2023
195 صفحة.

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية