«غياب حر» مجموعة الشاعر المصري عاطف عبد العزيز: محاولات إنقاذ الإنساني من تعقيدات الحياة

صابر رشدي
حجم الخط
0

يعد الشاعر المصري عاطف عبد العزيز واحداً من الشعراء الذين حملوا على عاتقهم عبء ترسيخ قصيدة النثر والدفع بها إلى الأمام، واحتلال المتن الشعري، بعدما ظلت في الهامش، مقصية عن عمد لعقود طويلة. فعلها هو ومجموعة من الشعراء الحداثيين، رفاق الرحلة، الذين عملوا على تطوير هذه القصيدة، وتصدوا بشراسة لمحاولات استبعادها، مثل فتحي عبد الله، ومحمود قرني، وإبراهيم داود وآخرين.
فقد قدم إلى مدونة الشعر العربي عدداً من الدواوين، على مدار سنوات، كل عمل يعد تجربة مختلفة عمَّا سبقه، يمتح من معين مختلف، ورؤى مغايرة. بدأ بديوان «ذاكرة الظل» 1993 ثم «حيطان بيضاء» 1995 لتتوالى بعدها المجموعات الشعرية: «كائنات تتهيأ للنوم» و«مخيال الأمكنة» و«سياسة النسيان» و«الفجوة في شكلها الأخير» و«سيرة الحب»… اثنا عشر ديواناً وعدد من المشاركات، والمتابعات، والكتابات النقدية المواكبة لحركة الإبداع؛ كناشط مؤثر في الحراك الثقافي داخل مصر.
في هذا العمل الأخير الذي يفاجئنا بعنوان صادم هو «غياب حر»، كان لا بد لنا من محاولة فك مغاليق هذا التناقض الملغز في العنوان: الغياب والحرية. فهو يلقي في وجوهنا بهذا الالتباس منذ اللحظة الأولى. مفهوم الغياب هو التلاشي، الانسحاب، قرار بممارسة اللاشيء، التخفي وراء اللاشيء، والركون إلى العدم. الحرية، ممارسة أقصى حالات الظهور إلى العلن، دينامية، حركة دائبة، سعي وراء المستحيل أحياناً، وراء الأمل، محاولة اعتصار الوجود في تأكيد الذات حيال القضايا الراهنة.
في قصيدة «Master scene»التي تستعير منذ البداية مصطلحاً سينمائياً يشير إلى مشهد رئيسي، مثير، مصنوع خصوصاً لجذب الجمهور، يلتقط عاطف عبد العزيز، واحداَ من بين أكثر المشاهد إثارة ومأساوية في الحقبة المباركية، ذلك الحدث الذي وقع في أوائل الألفية الجديدة 21 حزيران/يونيو 2001، حيث استيقظ المصريون والعرب على خبر مفجع، قادم من العاصمة البريطانية، وهو سقوط الفنانة الشهيرة سعاد حسني من شرفة الشقة التي كانت تقيم فيها في لندن. بعدها سرت أقاويل وإشاعات تؤكد أنها لم تسقط من الشرفة، بل أُسقطت، ولم تقذِف بنفسها منتحرةً، تحت سطوة أعراض الاكتئاب كما قيل، بل تم القذف بها، للتخلص منها، ودفن خزينة الأسرار معها، تلك التي فتحتها لأحدهم وهي تُملي عليه سيرتها الذاتية، واعترافاتها الخطيرة، التي تحمل كثيراً من التفاصيل المزلزلة. حدث توافرت له كل عوامل الغموض والإثارة. لغز، لم تتكشف حتى هذه اللحظة حقيقته. من هنا يبدأ الشاعر مخاطباً شاعراً مثله، وهو العظيم صلاح جاهين، الأقرب إلى سعاد، صديقها الصدوق، حاميها، وراعي مسيرتها، مظلة الأفكار التي كانت تحيط بها، وتحتويها تحت جناحيها، وبالتالي، كونه رمزاً لحقبة التوهج الثوري، وأحد أسلحتها.
يقول مخاطباً الشاعر الكبير:
«بوصفي واحداً من جيل وطئته الأوهام،/ والأيام الدول./ ثم بوصفي ممن عدوا في الشوارع/ خلف كُرةٍ من إسفنج الكراسي/ قبل اختراع الأسفلت،/ أشاطرك الغرام بفتاة الاستعراض./ أعرف أنك تعرف أنني أعرف،/ كيف سوف أنتهزُ – فيما بعدُ – فرصة غيابك،/ لأنفرد بالبكاء عليها،/ عندما ستحلق بسماء لندن/ دون جناحين».
إنه خير تعريف يبدأ به الشاعر، ذاكراَ فترة صباه، وصبانا، نحن أبناء الجيل الذي داهمته الانكسارات والهزائم مبكراً، المتيمين بسعاد حسني. فتاة أحلامنا، التي كنا نتابعها بشغف المراهقين، قبل أن ننتبه فيما بعد، مع نمو الوعي، وندرك أنها ممثلة من طراز نادر، عبقرية فنية بلا نظير.. يستدعي جاهين من الغياب، فهو قد رحل قبلها مكتئباً، وحزيناً، بعد انهيار أحلامه الوطنية، وتحطم كل الآمال الكبرى. يخبره بأنه سيبكي وحده على الفراق الحزين لامرأة أسطورية تحلق في سماء لندن، هابطة إلى الأرض بلا جناحين. لتسقط جثة هامدة، خرساء إلى الأبد، تبتلع معها أسرارها، وسرديتها المجهولة.
يواصل، مخاطباً جاهين: «هذا لا يعني حتمية العداء بيننا،/ لأن الرباعيات ـ ببساطة ـ أنقذتنا../ أنقذتنا في الوقت المناسب،/ حين جاءت – دون قصد – رُقْيةً لا تخيب/ ضد ضيق التنفس/ والإستجماتيزم».
مديح مبطن بالأسى، تلويحة محبة متأخرة لرجل شغل الحياة المصرية، وانشغل بها، شاعراً ورساماً وسيناريست، وكاتب أغاني أرَّخ للحقبة الناصرية، ومثَّلها بكلماته ورسوماته خير تمثيل، مساهماً في تشكيل وجدان أجيال عدة: «شُفْتْ!/ شُفْتْ يا صلاح!/ أنت محظوظ دون ريب،/ بات بوسعك من مكانك الجديد،/ أن تراجع -على مهل- كتاب (اللّوَع)/ في نسخته المزيدة المنقحة».
اللوع، كلمة عامية مصرية، خالصة، واسعة الدلالات، تعني كثيرًا في القاموس الشعبي: المكر، الكذب، المراوغة، التضليل.. ذكرها جاهين في إحدى رباعياته:
عِلْم اللَّوع أضخم كتاب في الأرض
بس اللي يغلط فيه يجيبه الأرض.
إذن، سيفهمه جاهين، ويلتقط إشارته، وسنعرف معهما أن هناك شيئاً مُضمراً في الحكاية، غامضاً ومريباً، علينا تخمينه، وترك الحدس يقودنا إليه. وهنا يبدأ الشاعر الاقتراب الحثيث من الحقيقة، متخفياً وراء المجاز، ربما ساعده اللجوء إليه في الاقتراب من هدفه: «أن تقيس المسافة بين مجرى النيل قبل جفافه،/ وبين جسد فتاتنا المشتركة،/ الذي اتخذته الأجهزة السياسية/ – في الزمن الجميل -/ ميدان حرب».
بغضب، شذبت اللغة الشاعرة انفعالاته، وحافظت على رهافة القصيدة، اقترب عاطف عبد العزيز من الحقيقة، عثر على الصندوق الأسود، وأطل على بعض الأسرار: جسد سعاد، وغيرها، من اللواتي صرن دمى تحركها الأجهزة الأمنية، ضمن لعبة قذرة، في ميادين الحرب، تاريخ مشين، مؤذٍ، قضى على سمعة كثيرين، وعلى مستقبلهن، ممن أُكرهن على القيام بدور «فتيات السيطرة». يسترسل الشاعر، مشتبكاً مع السياسي، وتداعياته، ناهضاً بعمل فني، يبدو بنفسه واقعاً آخر، مستقلاً، مدفوعاً بالخبرة، والسعي الجمالي، والحيل الفنية، للتنقيب عن معنى لما جرى، متجاوزاً الحدث الأصلي، ليصنع في النهاية مشهداً لا يقل إثارة عن المشهد الحقيقي، يختتم قصيدته مخاطباً جاهين، بأنين موجع، يحدثه عن حاضر قاتم، اجتمعت فيه كل المنغصات، وألوان الكآبة، والخسارات الفادحة:
«مدين لك باعتذار يا صديقي/ إذ لم يكن من العدل أبداً،/ أن أستأثر وحدي دونك بذلك المشهد الختامي./ إنه ال (الماستر سين)/ الذي اختارته سُعاد بنفسها./ حيث ارتطم الجسد الطري بالأديم البارد،/ حتى انفصلتْ قدام العَدَساتِ/ الروح الخفيفة،/ تلتها بهجة الستينيات/ بصباحِها الرَّبَاح،/ ثم صوت العندليب،/ ثم كاريزما الزعيم».
يضم الشاعر إلى المشهد عدداً من الأشياء الرائعة، التي زالت واندثرت، مُركِّزاً في الانطفاء القومي، على الهزائم والانكسارات، حتى نشعر معه بإظلام تدريجي قبل أن يضع كلمة النهاية: «كل ذلك يا صديقي وأنت بعيد،/ بينما مصر متململة في وقفتها،/ محروسة/ بسوء البخت».
ثمة قصائد أخرى، يحاول فيها عاطف عبد العزيز الاشتباك مع الهم العام، والواقع القاتم، مستعيداً دور الشاعر المعني بما يدور حوله، ويؤثر في الواقع، مدققاً في هذه التحولات، وانعكاساتها على الذات، وعلى الآخرين، حتى وهو يسطر قصائد رقيقة عن الحب، واختلاس القبلات، يبدو مهجوساً بنوستالجيا، وحنين مضنٍ إلى أيام صباه، إلى الدروب التي احتوت دبيب خطاه لسنوات طويلة، رائحة البيوت والأماكن ما زالت تلامس أنفه، وتوقظ الذكريات البعيدة. ها هو ينعي الإسكندرية، تلك المدينة الرائعة، ومصِيف المصريين المفضل قبل اندلاع المنافسة بين الشواطئ المخملية، والتنافس بين السادة الجدد: في أي القرى السياحية الجديدة سيقضون إجازاتهم؟ يسجل عاطف التحولات التي تطرأ على المدينة، وصار يلاحظها مع كل زيارة لها. يكتب عن إسكندريتنا:
«لسنوات، لم تتوقَّفِ الجرّافاتُ عن الهدير في أذن البحر، ترفع جدراناً وتضع أخرى. هذا الهوس بلا ريب، علامة لا يفهمها إلا السِيمْيائيُّون الخُلَّص، شيء قريبٌ من لغة الجسد التي تشبه سِتاراً حريرياً، يححِزُ خلفَهُ خرائِبَ الرُّوح. طبيعي إذن أن تتهدم أيام هنا يا صاحبي، وينتصب غيرها. طبيعي أيضاً أن تضيق السماوات التي مسحها كفافيس بناظريه من خلف عدستين سميكتين ذات يوم، وهو عائد في الظهيرة من بورصة القطن، كي تستلقي أنت تحتها فيما بعد، محلول الإزار، واثقاً بالحياة».
إنها إسكندرية كفافيس، أونغاريتي، لورانس داريل، إدوار الخراط، وإبراهيم عبد المجيد. خليط مدهش من الأجانب الأوربيين، ومن الشوام، والأتراك، ومن المصريين. كوزموبوليتان ساحر، ومبهج، ضاع إلى الأبد، وحل محله مقاولو هدم التاريخ، وتشويه المعالم الحضارية، وبناء الأبراج الأسمنتية التي تفتقر إلى اللمسة الجمالية، أو تحترم عمارة المدينة العظيمة.
يلجأ الشاعر إلى الكتلة السردية، الاكتناز والتكثيف، اجتراح هذا الشكل الفني. ربما ساعده البوح، والعلاقة بين الذات والموضوع، على توصيل تلك المشاعر الممرورة، حيال الفقد، واختفاء شواهد الذكريات. لقد رصد مظاهر الفوضى، والعشوائية المقيتة، وضع يده على أفول زمن، وانبثاق زمن آخر من رحم الخراب. ها هو يختتم قصيدته بعد المرور على كثير من المعالم التي كان يألفها ولم تعد موجودة:
«للموج إذن أن يتذكر بقلب فارغ، كيف كان ذات يوم أمين سر العاشقين المهووسين بفكرة الخلاص، كيف كان أنيساً للخادمة التي فرت – في الفيلم العربي – من خيبة الأمل، إلى المزيد من خيبة الأمل. ثم كيف صار في الأخير شاهداً على نذالة الرجال في الطبقة الوسطى، الطبقة التي راقها – فيما سوف يأتي من أيام – أن تدفن التذكارات بضمير ميت، خلف تلال من كتل الأسمنت المجنح، تلك التي تشبه في غبشة الغروب، أسراب نورس نافق».
هناك إمكانيات شعرية واضحة في نصوص الديوان، محاولات لا تتوقف لاقتناص الإنساني في شكله الصافي، والنأي به عن الدمار، رغبة ملحة في استعادة الأشياء الجميلة، إنقاذها من التطورات الدرامية وتعقيدات الآني، دون التفات إلى الوظائف الأخلاقية أو الاجتماعية للشعر، الإخلاص هو للمعنى، لنقاء الشعر. استحضار الفن ومسرحة الحياة. ينسج عاطف عبد العزيز على هذا المنوال في قصيدة «رائحة الحليب» المهداة إلى الشاعرة المصرية غادة نبيل:
«من ورائنا تبدو المدينة خربة وغارقة في فوضى الضوء. على أن هذا في -الحقيقة- ليس كل شيء، فخيالنا بخير، خيالنا يانعاً لم يزل، وكما أن الطريق التي نخطو فوقها واصلة إلى الغابة.
مثلك، لست على ثقة كاملة بالحياة، ربما لأنها تبدو لي رخيصة، دبقة، عديمة الرائحة».
يستمر في وصف الأشياء المكدرة، لكنه يتوقف لحظة، ليطمئن صديقته: «صحيح، المدينة وراءنا خربة، كائناتها شعاعات، ذبذبات، طقطقة، فحيح، لكن هذا في الحقيقة ليس كل شيء، فأولاً، نحن هنا، لدينا ما يكفي من حنطة وماء وزعتر».
في هذا الديوان، ثمة نضج واضح، وتخلّص فريد من ثقل اللغة، والزوائد المعوقة لمرونة القصيدة، واستخدام ذكي للعبة توليد المعاني في أكثر من نص، فقد استطاع الشاعر التقاط الأحداث المؤثرة، والبناء عليها، من خلال ذات لديها حساسية فائقة، وعين ترصد بدقة كل ما يدور حولها، وتأثيره على الأرواح الغارقة في الواقع المعيش.

عاطف عبد العزيز: «غياب حر»
الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة 2023
109 صفحة.

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية