«جامع الشهوات» رواية المصري ياسر ثابت: شهادة مواطن يروي عن هزائم العصر

صابر رشدي
حجم الخط
0

«ما من إنسان أكثر عظمة وشقاء من كاتب الرسائل.»
تلك هي ضربة البداية، نقابلها في الفصل الأول المعنون بـ«كاتب الرسائل»، فنعرف أننا أمام راوٍ يتخذ ضمير المتكلم، ليطلِعنا على عالمه، وعلى الحياة كما رآها، وكما عاينها. يبدأ بتسلسل زمني، بادئاً بسنوات الصِّبا، أولى مراحل الإدراك والوعي، واختزان الصور والذكريات، كاشفاً عن الفتى الذي كان. يكتب ويحكي، يحسب بدقة المسافات التي تتباعد بين الأهل والمتحابين، ويعلو بأبجديته فوق البعد والفقد والحرمان، ويتعلم كيف ينجو الحب من الهلاك.
في رواية «صانع الشهوات»، يمضي بنا الكاتب ياسر ثابت متتبعاُ رحلة حياة زاخرة بالأحداث والمشاهدات المثيرة، تاركاً لبطله مفاتيح الرواية، بينما هو ملتزم بفضيلة الاستماع والتدوين، وتوثيق المعلومات الواردة وتدقيقها بحسِّه الصحفي، وخبرته الكبيرة في هذا المجال، عبر عشرات الكتب التي أرَّخت لمصر المعاصرة: اقتصادياً، سياسياً، اجتماعياً، فنياً، ورياضياً… في هذا العمل قام بإدخال الكلمات في بوتقة السرد، لتتخذ شكلها الروائي، الذي يتغذى على الشعر، ويستعير منه جمالياته في نسج الحكاية. مستعيداً لتقليد أدبي كاد أن يندثر، قام به روائيون كبار ـ قديماً ـ كالروائي الفرنسي الشهير إميل زولا، رائد المذهب الطبيعي، صاحب سلسلة روايات روغون ماكار، الذي كان يجلس إلى أبطاله، يقضي معهم فترة زمنية، إعاشة كاملة، تصل إلى حد استئجار أُسر لمعاينة أحوالها عن قرب.
قريباً من هذا التقليد، ودونما استئجار طبعاً، راح الكاتب يتحرك من مشهد إلى آخر، سالكاً أقرب الطرق للحصول على مادة روايته، لبطل برجوازي، من الطبقة المتوسطة، مثقف قوي الملاحظة، شديد الفطنة. متجنباً إجراءات المبالغة، فالمبالغة قد لا تجد في النهاية مكاناً تلجأ إليه، ولا تثير عاطفة عميقة في نفس القارئ المحترف. إنها حكاية كاتب الرسائل التي تجري السطور تحت يديه، ويجمع الفواصل والنقاط الهاربة، متنقلاً من بيت إلى آخر، منذ كان تلميذًا نابغاً، يجيد الإنشاء والتعبير. ليكتب رسالة أحدهم إلى أخيه المُجنَّد على جبهات القتال، أو لإحداهن رسالة إلى زوجها المسافر بحثاً عن الرزق في بلد عربي، أو لأم حزينة انقطعت عنها أخبار ابنها المهاجر وتوقفت رسائله.
استطاع الراوي البطل أن يلتقط إيقاع الأماكن، ضجيجها، همسها، بَوحَها المُعلن، أسرارها المتوارية خلف الأبواب، التغيرات الجذرية التي تتسرب عبر شقوق الزمن. واستطاع أيضاَ، من خلال ذاكرة قوية، أن يعيد إنشاء زمن مضى، توشك معالمه على الاندثار تماماً، نتيجة التمزق التاريخي المتواصل، والانعطافات الدراماتيكية العنيفة. إنه يبدأ من ملاعب أرض الميلاد والصِّبا، في منطقتي الدُّقي والعجوزة، المصنفتين ضمن الأحياء الراقية بمحافظة الجيزة، حيث يقعان ضمن نطاق ما يسمى «القاهرة الكبرى».
يتحول أحياناً إلى دليل جغرافي، يلتزم الدقة على نحو مبهر، كأنه يضع خارطة موثقة لعمل تسجيلي. ينطلق من هناك، متجولاً في المكان والزمان، شاهداً على تاريخ مصر الذي عاينه، وتاريخ الأماكن المهدمة، وتلك التي تحتضر، وتوشك على الاختفاء. يجعلنا نستشعر التحولات الاجتماعية، السياسية، الاقتصادية، حيث يتم تمريرها عبر السرد، بمهارة واضحة، من دون لجوء إلى المباشرة، متوقفاً عند محطات فاصلة، مستعيداً مرارتها، ولحظاتها القاتمة، كهزيمة 1967: «كانت هزيمة يونيو 1967 موجعة لكل بيت. إنها الحرب، موسيقى التوحش. أبشع ما اخترع البشر. القبح، الدمامة والجنون الهزيمة أيضاً موجعة. في الهزيمة، تلتهمك وحوش القلق، وتصفعك ريح الإحباط المحرَّمة. تسمع الكثير من الخطابات المتأججة والوعود الزائفة والأيمان الرنانة التي يتحدث بها الجميع».
المدينة حزينة، تحاول أن تتماسك بعد أن طعنتها سيوف الارتباك. كانت الحقيقة صادمة، التفاصيل المستقاة من الإذاعات الأجنبية، والإذاعة البريطانية على وجه الخصوص «بي بي سي» القسم العربي، كانت مرعبة، تحديداً، بعد الاستعراضات والخطب الرنانة. والأماني المبشِّرة بالنصر المبين، والتي كانت تدور في الأيام السابقة، قبل الخامس من يونيو 1976.
يرصد الراوي مرارة تلك الأيام بدقة بالغة، تنتقل عدواها إلى المتلقي، تُشعِره بقسوة الهزيمة الساحقة، وهو يصف صداها على أسماع المصريين في هذه الحقبة. ثم يرصد الأحداث التالية، ما جرى من محاكمات لقادة الجيش، انتحار أو نحر المشير عامر قائد الجيش، مظاهرات الطلبة، والعمال، غليان المدينة. إنه يتقنع وجه «الجبرتي» مؤرخ مصر العظيم، وهو يلتقط أدق التفاصيل في عصره. يجعلك هناك، تعيش لحظات الماضي، وكأنك عاصرت أحداثه لحظة بلحظة. لا توجد تركيبات رمزية، أو جنوح إلى التأملات، والأفكار الفلسفية، أو نزوع إلى زرع أحداث متوهَّمة، لقد تم الحفاظ على الواقع، عبر نثر مبهر، يضيء الحكايات ويجعل القارئ يلهث وهو يتابع النص. فهو أمام شهادة على عصر، وتاريخ شخصي لبطل غير أسطوري، ولا يريد أن يكون شخصاً استثنائياً، لكنه شاهِد على أحداث مثيرة، رأى شخصيات تاريخية، وساعدته الثقافة الرفيعة، وحب الأدب، وإجادة لغات عدة، على تبني وجهات نظر صائبة في كثير من الأمور.
يحتاج الروائي إلى حبكة جيدة، ومجموعة من التعقيدات الدرامية، لكتابة عمل جيد، ولكن ياسر ثابت خالَف هذا العُرف، لجأ إلى شخصية نابهة، إنسان لديه ما يقوله بفصاحة نادرة. وطفقا يرسمانِ، معاً جدارية كبرى، يجوسان في دروب الواقع القريب، يقلِّبان في دفاتر الذاكرة، مع كامل الاحتفاظ بالمبادئ الجمالية للسرد، وفنياته اللازمة. أمام الحقائق العارية، يحتفظ الكاتب بوجوده خارج النطاق، متخذاً موقف المراقب أحياناً. يطل على الحياة، والناس، والعالم. يساعد في جمع التفاصيل، حتى تكتمل اللوحة، وتبدو الأشياء كما حدثت بالفعل، فالحفاظ على إيقاع التاريخ، وتوتراته، وانعكاسه المباشر بدا واضحاً، عبر دينامية لاهثة، لا تعرف التسجيل البارد فوق السطور، أو التدوين التقريري الجاف: «أكتب في كراستي المهترئة، لأثرثر. عندما نثرثر، فإننا ننخرط في خطيئة لذيذة متبادلة، بدلاً من المكاتب والمطاعم والحانات، هناك دوماً ورق أبيض يرحب بي ويستمع من دون كلمة عتاب واحدة».
الكتابة أكثر أماناً، يتبخر الكلام في اللحظة التي يغادر فيها أفواهنا، أما الكتابة فهي قرينة الخلود. يتذكر هنا كل الشخصيات الشهيرة التي سكنت الدقي والعجوزة، أسماء الشوارع، أرقام البنايات، فيلا الفنان فريد شوقي، فيلا المقرئ الشهير عبد الباسط عبدالصمد. العمارة التي يسكنها نجم كرة القدم محمود الخطيب. كثير من المشهورين في معظم المجالات، يتجمعون على هذه الرقعة الصغيرة من أرض مصر. تاريخ منطقتي العجوزة والدقي. أصل التسمية. السينمات الموجودة في هذا المحيط. المدارس، مستشفى العجوزة. مسجد القارئ الشيخ محمود خليل الحصري. المقهى الذي كان يجلس فيه الضيظوي لاعب كرة القدم ونجم الخمسينيات الشهير. حكايات الدكاكين والمتاجر ذائعة الصيت، السفارات، اختلاس القبلات المحرمة في الحفلات الصباحية تحت جنح الظلام في دور العرض الفارغة من المشاهدين. أندية المقدمة في كرة القدم، الواقعة بالقرب من المكان بمصادفة جغرافية سعيدة: الأهلي، الزمالك، الترسانة… جامعة القاهرة التي انتسب إليها، ملتحقاً بكلية التجارة على غير رغبته، لحلمه القديم في الالتحاق بكلية الآداب، بما يتفق مع تكوينه الثقافي وحبه للأدب:
«لأسابيع، استغرقتني قراءة رواية مارسيل بروست ‘البحث عن الزمن المفقود’. شعرت أن عبقرية بروست في أنه خلق عالماً غريباً لا يعرفه البطل، فالرجل المستلقي على الفراش يحمل داخله عالماً ضائعاً ومنسياً، فكيف إذن للراوي/البطل أن يستعيده؟ يستطيع أن يستعيده عبر التعثر عليه تعثراً عرضياً (عبر رائحة ما، أو عبر مذاق كعك الماندلين، أو صوت جرس كنيسة كومبريه، إلخ) أو ربما التمشية في شارع قديم، أو التعثر عرضاً في ألبوم صور عائلي، أو كتاب طفولة مغبر بغبار الطفولة الأولى. يفكر الراوي أنه ربما يكون كاتباً إذا اكتشف العالم الموجود داخله، وهذا جوهر القصة كلها، وأنه جوهر أي قصة في الدنيا.»
ويضيف: «لطالما شَغَلت بالي عبارة غامضة قرأتها عند صمويل بيكيت ‘بروست ذاكرته ضعيفة’، لم أفهم آنذاك ما الذي قصده بيكيت ولا كيف يقال ذلك في حق قناص الزمن الضائع. ربما هي كلمة مدح لا قدح.»
يعترف بأنه كان قارئاً نهماً، متأملاً في الحياة، دودة كتب، قرأ في كل شيء. كبار الأدباء والمفكرين العظام: التاريخ والسير، الفلسفة والآداب، الإرث الصوفي الإسلامي ومناظرات المتكلمين. لكنه يعترف في النهاية بأنه مثقف شفاهي، لم يكتب شيئاً ذا بال. يقول: «القراءة متعة نادرة، لكن هناك شيئاً ما ينقصني.»
لا شك، بأننا بصدد رواية تعتمد على الإدراك المباشر لبطلها تجاه الحياة، وتجاه الأحداث المؤثرة، على مستوى الوطن العربي أيضاً. ربما أفادته رحلة العمل في أكثر من دولة خليجية، ورؤية بشر من جنسيات عدة، واطلاعه على كثير من الخبايا السياسية، بعدما استقر في دولة الإمارات، للعمل مترجماً في جريدة كبرى، عززت لديه الرؤية، وكونت وجهات نظر صائبة تجاه كثير من الأمور. لقد نجح ياسر ثابت وهو ينقل لنا هذه الشهادة في تمثُّل درس زولا: «اِدرس الناس على أنهم عناصر بسيطة وراقِب ردود الفعل فيهم. لقد مات الرجل الميتافيزيقي وتغير عالمنا كله بمقدم الرجل الفيزيولوجي.». يحاول التمسك بالموضوعية، والكتابة الخالية من الغرض، مستعيداً دور «أدب المواطن» الذي لقي نحبه منذ عقود طويلة.
ياسر ثابت: «جامع الشهوات»
زين للنشر والتوزيع، القاهرة 2021
285   صفحة.

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية