التاريخ في السينما الفلسطينية: بين النكبة والحكم العسكري

حجم الخط
0

من أين يمكن لأحدنا أن يبدأ حديثاً عن التاريخ في السينما الفلسطينية؟ لكن أولاً، ما المقصود بالتاريخ هنا؟ يمكن الافتراض أن للنكبة عند الفلسطينيين مكانة الحرب العالمية الثانية عند الأوروبيين مثلاً، محطة كارثية تفصل ما سبقها عمّا لحقها. التاريخ الفلسطيني المعاصر والممتد بآثاره وأشكاله المتجددة، يبدأ من النكبة ويستمر حتى اليوم، بتراكم نتائجه وخروجها بتمثيلات جديدة للنكبة. لكن هذا لا يعني أن فلسطين بوصفها بلداً وشعباً وحركة تحرر وطني من الصهيونية، لم تبدأ مع أوائل القرن الماضي وحلول المشروع الصهيوني في البلاد، وخير مثال عليها الثورة الفلسطينية الكبرى عام 1936 التي أطلق شرارتها الأولى الشيخ عز الدين القسام.
سينمائياً، لم تنل مرحلة ما قبل النكبة أي حضور في الإنتاجات الفلسطينية، لمحورية النكبة ذاتها في التاريخ الفلسطيني بالدرجة الأولى. لكن، بالنظر إلى مسيرة هذه السينما، سنجد فيها حضوراً كان ضئيلاً للتاريخ الفلسطيني، حتى لما بعد النكبة منه. فإن تجاوزنا الغياب السينمائي للثورات والإضرابات وعموم المقاومة الفلسطينية للهجرات الصهيونية اليهودية إلى فلسطين ما قبل عام 1948، سنجد أنّ الأحداث المتلاحقة والمحورية ما بعد هذا العام حتى، لم تنل ما تستحقه سينمائياً.
يمكن إحالة الأسباب، في أهمها، إلى سياق سياسيّ، وآخر إنتاجيّ، الأول يتعلق بسطوة الراهن السياسي الفلسطيني وطغيانه بالتالي على عموم الإنتاج الفني الفلسطيني، مقابل طراوة في بنية هذه السينما، ما يجعل من خوضها مساحات جديدة في التاريخ الفلسطيني مغامرة. أما الجانب الإنتاجي فيتعلق بارتهان عموم السينما الفلسطينية إلى ممول أوروبي سيفضّل دائماً عدم الخوض في النكبة، وعدم شرعية وجود إسرائيل، مرجّحاً تناولاً إنسانياً لقصص تثير الشفقة أو الضحك، لكن لا الغضب، تكون من واقع راهن محصور في رام الله مثلاً، أو نابلس، أو غزة، أو لأقليات عربية مسالمة في حيفا والناصرة.
لكن، رغم المعيقَين الأساسيَّين، السياسي والإنتاجي، ظهرت وفي مراحل مختلفة لهذه السينما، أفلام تركت الراهن وقصصه وشخصياته، وعادت إلى مراحل تاريخية، كانت كلّها في فلسطين وما بعد النكبة. وللمسافة الزمنية القصيرة في تاريخ الفلسطينيين المعاصر منذ ما بعد النكبة، كما صوّرتها هذه السينما، يبقى الحديث عن تاريخية الفيلم نسبياً، بفترات قصيرة، وهو ما تبدأ به أمثلتنا هنا، ففيلم «كفر قاسم» 1974 لبرهان علوية، نقل قصة مجزرة كفر قاسم التي ارتكبها الإسرائيليون 20 عاماً تقريباً قبل خروج الفيلم، لكنه، في الحالة الفلسطينية، يُعتبَر فيلماً تاريخياً خرج من راهنه واتجه إلى التاريخ ليروي قصة من هناك، من زمن الحكم العسكري، الذي ارتكب فيه جنود الاحتلال المجزرة بحق العمال والفلاحين العائدين إلى قريتهم مساء.
للحكم العسكري الحصة الكبرى في الفيلم التاريخي، فاق النكبة، والحديث لا عن إشارات سريعة، بل عن القصة المحورية للفيلم، فإضافة إلى فيلم علوية، أخرج ميشيل خليفي فيلمه «عرس الجليل» 1987، بصفته فيلماً تاريخياً يروي عن زمن الحكم العسكري 30 عاماً قبل خروج الفيلم، متناولاً عرساً يضطر الأبُ فيه إلى دعوة الحاكم العسكري، يسخر الأهالي منه خلال الفيلم ويطردونه بالهتافات في نهايته.

يليه فيلم «درب التبانات» 1997، الذي عاد كذلك إلى الزمن ذاته، 40 عاماً قبل خروج الفيلم. وفيه ميلودراما بصراع طبقي داخل العائلة والقرية، تتخللها قصة حب، ولكل فيلم من هذه الثلاثة مقاربته المختلفة تبعاً لزمن خروجه، في استعادة الحكم العسكري.
فيلم آن ماري جاسر «لما شفتك» 2012، استعاد الزمن التالي في التاريخ الفلسطيني، وفي سياق آخر، لحظة ما بعد حرب عام 1967 ولجوء الفلسطينيين إلى الأردن، وهي لحظة بروز الفدائيين والعمل الثوري، إذ يلتحق الولد وأمّه بمعسكر الفدائيين. هو الفيلم الروائي الوحيد في مسيرة هذه السينما بتناوله لتلك المرحلة واستعادة للزمن الثوري لدى الفلسطينيين. فيلم آخر تناول مرحلة سابقة إنما دون معالم واضحة لطبيعة أحداثه الجارية في سجن نسائي، هو «3000 ليلة» 2015، لمي مصري، الذي يعود كذلك 20 عاماً مع إمكانية تفسيره لما هو أبعد أو أقرب زمانياً، فالفيلم مفصول عن سياقه التاريخي، لكنه في النهاية، خرج كذلك عن سطوة الراهن.
أما النكبة بوصفها سياقاً محورياً، فكانت في فيلم «فرحة» 2021، لدارين سلام، فيه تحاول فتاة الخروج من مخزن خبأها فيه والدها لحمايتها من العصابات الصهيونية، التي اقتحمت القرية. هو الأكثر ابتعاداً في تناوله الحدث التاريخي، وهو الأحدث من بين الأفلام المذكورة. وهو الوحيد، من بعد «الزمن الباقي» لإيليا سليمان، الذي تجرّأ على الخوض في مساحة شائكة، إنتاجياً تحديداً، تطرح القصة الفلسطينية من أصلها كما حصلت وبدأت بشكلها المعاصر، زمن النكبة ومكانها.
بموازاة الأفلام المذكورة، يحضر «الزمن الباقي» 2009 لإيليا سليمان، الذي تناول النكبة والحكم العسكري في القسم الأول من الفيلم الممتد لساعة، وهو سيرة والد سليمان، قبل أن يدخل الفيلم إلى الراهن، واصلاً إلى سيرة سليمان نفسه. وإن لم تكن للنكبة سوى نصف ساعة، وللزمن التالي لها في الناصرة نصف ساعة آخر، يمكن لأحدنا التصريح بأنهما نصفَا الساعة الأرقى فنياً في تصوير كلٍّ من المرحلتين التاريخيتين، تحديداً النكبة وقد استهلّت الفيلمَ بمشاهد استلزمت كارثيةُ النكبة فيها عبثيّةَ المقاربات وسخريتها المفارقاتية.
يمكن لأحدنا طبعاً أن يناقش في مشروعية القول، إن أياً من هذه الأفلام تاريخي، الحديث هنا نسبي بقدر ما هي السينما الفلسطينية محدودة كماً ونوعاً، بل زماناً. ولا يوازي الحديث هنا حديثاً آخر عن التاريخية في الأدب الفلسطيني مثلاً.
تناقض صريح في السينما الفلسطينية يسطع بعد هذا السرد، فرغم غنى التاريخ الفلسطيني بالقصص والأحداث، ومأساوية مسيرة الفلسطينيين في السنوات الـ75 الأخيرة، تقابلها بطولات لأفراد وجماعات فلسطينية تصنع قصصاً مغرية لأي سينمائي في العالم، رغمها، تنحصر هذه السينما «بالآن هنا» ما يفسّر خللاً في جانبٍ بعينه، يمكن تلمّسه في عموم هذه السينما وليس في جميعها: السيناريو، قصةً وشخصيات.

كاتب فلسطيني سوري

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية