قراءة سريعة في المظاهرات المؤيدة لفلسطين

«لماذا لا تكتب عن انطفاء شعلة القضية الفلسطينية في وجدان المواطنين العرب».. هكذا بادرني صديق قبل بضعة أسابيع؟!.
كان ذلك طبعا قبل السابع من أكتوبر/تشرين الأول الحالي، تاريخ عملية «حماس» غير المسبوقة وما أعقبها من تطورات ما زلنا نشاهد مظاهرها الدموية في غزة كل يوم. لم أجد وقتها ما أرد به سوى القول إن هذه الشعلة قد تكون ذبلت فعلا بسبب تراكم الهموم على هؤلاء في كل دولة عربية، لكنها مع ذلك لم تنطفئ فهي أشبه بجمرة خامدة تحت الرماد.
وجاءت الأحداث لتؤكد أن هذا التفاؤل لم يجانب الصواب حين انطلقت المظاهرات في عديد العواصم والمدن العربية والغربية، وهي مظاهرات تستحق وقفة تأمل سريعة.
ما لم تدركه أغلب الدول الغربية، وبعض الدول العربية، أن لفلسطين في الوجدان العربي مكانة خاصة من المستحيل تجاهلها أو تجاوزها، وأن هذه المكانة استطاعت أن تنتقل من جيل إلى آخر على امتداد كل البلاد العربية، حتى أن معظم المتظاهرين هم من الشباب دون سن الثلاثين مع أنهم ولدوا في حقبة ما بعد اتفاقية أوسلو 1993 وما أعقبها، في السنوات الأخيرة بالخصوص، من تراجع تدريجي في مكانة القضية الفلسطينية. هذا الطابع الشبابي المتحمّس لفلسطين والكاره بشدة لعدوانية إسرائيل والساخط على الغرب ونفاقه جدير فعلا بالدراسة لاستخلاص العبر.
المظاهرات التي خرجت في عواصم تقيم علاقات دبلوماسية مع إسرائيل تؤكد أن التطبيع الرسمي لا مكانة له ولا اعتبار في ذهنية الناس أو تحركاتهم، سواء عند الدول ذات العلاقة القديمة مثل مصر والأردن أو تلك الحديثة مثل المغرب. ومهما كانت الحسابات لدى قيادات كل من القاهرة وعمّان والرباط فإنه من المستبعد تماما ألا تأخذ في الاعتبار هذا التضامن الشعبي ومدى تجذّره عند مواطنيها، حتى بين لم يخرج إلى الشوارع.

معظم المتظاهرين هم من الشباب دون سن الثلاثين مع أنهم ولدوا في حقبة ما بعد اتفاقية أوسلو 1993 وما أعقبها، في السنوات الأخيرة بالخصوص، من تراجع تدريجي في مكانة القضية الفلسطينية

اللافت كذلك، أن دولا عربية تعاني أوضاعا داخلية صعبة ومعقّدة، ذات طبيعة مختلفة طبعا من بلد إلى آخر، لم يحل ذلك دون خروج مواطنيها بأعداد غفيرة تضامنا مع غزة وتنديدا بما تتعرض له. خرجت المظاهرات الحاشدة في صنعاء وتعز وأب وغيرها رغم كل الضنك الذي يعانيه المواطن اليمني في لقمة عيشه وحياته السياسية تحت حكم الحوثيين. وكذلك في ليبيا المثخنة بانقساماتها خرج الناس بأعداد ضخمة، وفي العراق كذلك الذي يسعى للملمة شتاته، وفي تونس أيضا التي تناسى فيها الجميع مأزقها السياسي والاقتصادي. كان لافتا هنا، وربما غريبا بعض الشيء، أن المواطن في هذه الدول ـ وفي أخرى بالتأكيد ـ قد يحجم عن الخروج إلى الشارع تنديدا بأوضاعه الداخلية السيئة لكنه لا يتردد في ذلك حين يتعلّق الأمر بفلسطين.
أما بالنسبة للمظاهرات في عواصم أجنبية فجديرة هي الأخرى بالتمعّن، فأن تخرج مظاهرة ضخمة في لندن هي الأكبر منذ 2003، تاريخ المظاهرة المعارضة للحرب على العراق، فذلك ليس بالحدث البسيط خاصة عندما نعرف أنه يأتي متناقضا بالكامل مع مواقف رئيس الوزراء المؤيدة لإسرائيل بلا تحفظ، كغيره من جوقة نظرائه في الدول الغربية، أو وزيرة داخليته التي سعت لترهيب كل متضامن مع غزة. ومع أن دولا أوروبية أخرى مثل فرنسا وألمانيا اللتين تفخران بالحريات لديها، وكثيرا ما صدّعت رؤوس كثيرين في العالم حول قضايا المثليين مثلا، كما فعلت مع قطر خلال كأس العالم، لم تتحمل مظاهرات مؤيدة لغزة حين رأتها فورا معاداة للسامية أو مهددة للأمن العام في أحسن الأحوال.
وفي المظاهرات التي جرت في دول غربية عديدة ومنها الولايات المتحدة وكندا وغيرها ظهر بجلاء دور الجيل الغربي الشاب المناصر للقضايا العادلة وكذلك نظيره العربي الذي نشأ وترعرع هناك، فضلا عن مشاركة شخصيات وتيارات يهودية محلية تناهض السياسات والممارسات الصهيونية وبعضها معاد بالكامل حتى لقيام دولة تدّعي تمثيلهم. كما أظهرت جميع هذه المظاهرات تقريبا مدى الغضب من الإعلام في تلك الدول الذي اصطف بالكامل مع إسرائيل بعيدا عن أي إنصاف أو احترام للمبادئ المهنية الأساسية والذات البشرية في تناقض صارخ ومستفز لكل القيم التي كان يسوّقها لبقية العالم.
أما المظاهرات التي خرجت سواء في دول آسيوية عديدة وأمريكية جنوبية فهي دليل إضافي على أن الشعوب تبقى توّاقة للعدالة ومقاومة الاستعمار ونصرة قضايا التحرر وأولها حق تقرير المصير. ومثلما خرجت المظاهرات في كل أنحاء العالم ضد دولة الفصل العنصري في جنوب إفريقيا، المدعوم للتذكير من قبل ذات الدول المؤيدة لإسرائيل اليوم، سيبقى هذا الضمير الإنساني حيا في أغلب بقاع العالم وصاخبا في الشوارع في أيام العدوان الدامية مثلما يحدث الآن في غزة.
ومثلما ذهب نظام الفصل العنصري في جنوب إفريقيا بلا رجعة، بفضل صمود السود ومقاومتهم السلمية والمسلّحة، رغم كل حملات التشويه الغربية التي كانت تصف نضالهم بالإرهاب وزعيمهم التاريخي نيلسون مانديلا بالإرهابي، ستحل يوما ما نفس اللحظة مع إسرائيل.. وهي ليست بالبعيدة.

كاتب وإعلامي تونسي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية