في معنى ودلالات مظاهرات باريس

مفتتح الكلام.. الرأسمالية الغربية في أعلى مظاهرها وتجلياتها، كما في صورة العولمة، لم تستطع ان تقهر المواطن الغربي بشكل كلي، ولا أن تمر من دون مساءلة واعتراض شعبي، ومن يتابع مئات المظاهرات والاعتراضات الشعبية على اجتماعات قادة المجمع الصناعي العالمي، منذ بداية الألفية الجديدة، وحتى مظاهرات باريس، يستنتج ما حذر منه كثير من الكتاب والمفكرين، والأصوات الناقدة صحافيا، ومن ناشطي المجتمع المدني والاتحادات النقابية خصوصا.
فقد كتب مثقفون ألمان أن العولمة فخ واعتداء على مسار الديمقراطية والعدالة الاجتماعية. وآخر بريطاني يرى في العولمة فجرا كاذبا وليست فجرا مشعا بالنور والخير لكل العالم. وظهرت كتابات متعددة ومتنوعة من دول الجنوب في إفريقيا وامريكا اللاتينية والوطن العربي، تحذر وتنبه من مخاطر الرأسمالية العالمية، وقد دخلت طورها الرابع في التطور منذ نشأتها في القرن السابع عشر وحتى اليوم.
ولأن المواطن الغربي له صوت مؤثر في انتخاب الحكام، ومقرر في صنع السياسات، إلى حد ما، فإن درجة تحسسه من سلبيات التوجهات الاقتصادية المنحازة للرأسمالية ضدا من مصالح العامة من السكان، أظهرت أصواتا ناقدة تدريجيا، وصولا الى تظاهرات شعبية كانت فاعلة وقوية في عام 1968. واليوم أبرزت تظاهرات ذوي «السترات الصفراء» فاعلية كبيرة، أجبرت الحكومة الفرنسية لتلبية مطالبهم بعد مشاورات النخبة السياسية والصناعية مخاطر استمرار التظاهرات الشعبية، ومخاطر التحامها بالحركة النقابية ومختلف الجماعات الناقدة للنظام السياسي وتوجهاته الاقتصادية.. وهنا يكون الدرس المهم أن الشعب والشعوب عامة يجب ألا تصمت تجاه سياسات اقتصادية تنهب مدخراتها وتزيدها فقرا، ولا تهتم بقضاياها وأصواتها، وأن حركة شعبية في المدن والعواصم الكبيرة كفيلة بتدمير اقتصادي وسياسي لامحدود، لا تستطع الرأسمالية والإدارة السياسية تحمل تبعاتها ونتائجها.
في هذا السياق ظهرت مدارس فكرية وفلسفية ناقدة للرأسمالية العالمية منذ تشكلها تاريخيا وصولا إلى المدرسة الاجتماعية النقدية، التي تأسست في ألمانيا في عشرينيات القرن المنصرم، وأبرز مظاهرها تعدد وتنوع أعضائها من مختلف العلوم الاجتماعية والإنسانية وغيرها، ولايزال كثير من رموزها معاصرون لهم كتابات غاية في الأهمية ومعها تبلورت حركة مجتمع مدني واسع في نشاطه ووعي شعبي أصبح يستوعب معاني ودلالات المتغيرات السياسية والاقتصادية العالمية، ومدى تأثيرها على الأفراد والشعوب عامة، وبالتخصيص تأثيرها على الطبقة العاملة والطبقة المتوسطة. من هنا يكون المدخل في فهم فاعلية التظاهرات الشعبية التي اندلعت في باريس خلال أربعة أسابيع، وأرعبت الدولة والنخبة الصناعية ومعها الدولة في عموم أوروبا.

على أوروبا بقيادة فرنسا وألمانيا تأسيس نظام متعدد الأقطاب والخروج من أثر التبعية للأمريكان

السؤال أين الأكاديميون والمثقفون؟ وأين أحزاب اليسار والنقابات العمالية في دول الجنوب، وفي منطقتنا العربية من استيعاب دروس التظاهرات الشعبية في أوروبا؟ فتأثير الرأسمالية العالمية في مجتمعاتنا أشد ضراوة واكثر مما يحدث داخل المجتمع الأوروبي، الذي تمنح الدولة مواطنيها فيه كثيرا من الاستحقاقات الاجتماعية والاقتصادية غير موجودة في مجتمعاتنا التي لا يشارك الشعب فيها في اختيار النخب الحاكمة، وإن تمت فهي صورية وشكلانية لا تشكل ضغوطا حقيقية تمنع هذه النخب وإداراتها من ممارسات خاطئة وغير نزيهة في الشأن الاقتصادي والسياسي.
في هذا السياق يمكن القول إنه رغم مرور خمسين عاما على ثورة الشباب عام 68 لم تستطع الرأسمالية سحق المواطن كليا، فلاتزال غالبية المجتمع قادرة على التفكير الحر الناقد للنظام السياسي، ورفع صوتها بلا للسياسات الاقتصادية الظالمة للمواطن، التي تجلب مليارات للشركات الرأسمالية المتوحشة، ومن هنا فإن الاقتصاد الفرنسي والأوروبي ستتم مراجعة أسسه وفلسفته تجاه مصلحة المواطن، وهو الخيار العقلاني، أو تتغلب النخب الحاكمة على تلك التظاهرات، وهنا يكون الاتجاه نحو مزيد من الشمولية وتربع اليمين السياسي على دوائر صنع القرار.
إن نقد العولمة لم يقف عند الخطابات وناشطي الفيسبوك وتويتر، بل تحرك عبر الشارع، وهنا تعلو أصوات الليبرالية الكلاسيكية التي قامت على أثرها وفي ضوئها النظم الاوروبية في القرن التاسع عشر والعشرين، ثم تحولت الى نظم مُستملكة من الرأسمالية المتوحشة التي تعمل من أجلها النخب الحاكمة، حتى لو كانت منتخبة مثل، ترامب الذي لولا شركات الأسلحة وبنوك متلاعبة بالتأمينات لما وصل إلى السلطة، ناهيك من شركات السمسرة العقارية التي ينتمي اليها وصعد من أوساطها.
إن المجتمع المدني الفرنسي الذي تم استقطابه في السنوات العشرين الاخيرة لصالح أحزاب سياسية مدجنة لصالح النظم الحاكمة، أو الشركات الرأسمالية خرج من سباته وغيبوبته، بتظاهرات الشارع، التي جددت فيه بعضا من الحيوية والنشاط المدني، وفق وعي حقيقي بمظاهر الأزمات الاقتصادية التي تطحن الطبقة الوسطى ومحدودي الداخل، ناهيك من المهاجرين وتزايد معدلات الفقر والبطالة، وهنا يبلور المجتمع المدني ومعه دعم اليسار الديمقراطي خطابا لتجديد النظام الاقتصادي، بل النظام السياسي، وهو عكس توجه اليمين السياسي الذي يريد القفز على هذه الحركات الشعبية للوصول الى السلطة كهدف أولى ورئيسي له. على أوروبا بقيادة فرنسا وألمانيا تأسيس نظام متعدد الأقطاب والخروج من أثر التبعية للأمريكان، كما الخروج من مواصفات النظام العالمي المرسوم عشية انتهاء الحرب العالمية الثانية.. فالمبررات الموضوعية والذاتية جاهزة لتكون أوروبا بقوتها الاقتصادية والعسكرية قطبا فاعلا في السياق الدولي، مقابل القطب الأمريكي، بل العمل على دعم وتشجيع تشكل قطب ثالث من الصين وروسيا ومعهما دول أخرى، وربما يتشكل قطب رابع يبلور حضوره بصورة أكثر فاعلية قريبا.
والأهم في هذا إعادة صياغة النظام السياسي وتوجهاته الاقتصادية المنحازة للمجتمع، وهنا نكون بصدد أنسنة العولمة ووضع بدائل ترنو لنظام اقتصادي وسياسي في خدمة المجتمع، ولا يكون الإنسان ومجتمعه مجرد أرقام وكائنات في رهانات اقتصادوية لامجال للإنسان بكينونته الثقافية والاجتماعية والروحية فيها.
هنا على مجتمعاتنا العربية وقطاعات الشباب والمجتمع المدني، أن تستلهما الدروس من حيوية المجتمع المدني الفرنسي وعامة الشعب في تحركه نحو التعبير عن مصالحه الاقتصادية والاجتماعية وأن لا تسمحا للحكومات بالعبث الاقتصادي وفرض ضرائب لا تخدم سوى الطبقة الرأسمالية، دونما أي محاولات جادة لمحاربة الفساد وخلق استثمارات اقتصادية حقيقية تستقطب القوى العاملة وتدر دخلا في الموازنة الرسمية. فالسياسات الاقتصادية الراهنة مدمرة لغالبية أفراد المجتمع، ناهيك من ضعف الخدمات التعليمية والصحية وتعميق الفجوة بين أقلية ثرية وأغلبية من محدودي الدخل، إضافة الى استمرار تدهور حالة الطبقة الوسطى، وغياب كبير للخدمات الأساسية لكثير من سكان الريف خارج المدن الرئيسية. ولهذا فأكثر الشعوب حاجة للخروج والتظاهر (هم العرب) وفق رؤية واجندة واضحة، ووفق وعي تضامني بأن الخروج الشعبي ليس ترفا ولا مجرد فلكلور يتم استخدامه إعلاميا لصالح الحكومات، أو صناعة نجوم فاسدة، بل من أجل قضايا مجتمعية تضع بدائل للسياسات، وإذا أمكن بدائل للنخب والقيادات أيضا، لا أن يكون التظاهر طريقا لقوى غير مدنية تجعل منه منصة للقفز نحو السلطة وإدارة ظهرها لمن أوصلها مثلما تم في تظاهرات الربيع العربي منذ سنوات سابقة.
أستاذ علم الاجتماع السياسي ـ اليمن

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية