الحضارة المعاصرة: قانون دولي أم شريعة غاب؟

مصطلحات مثل «الحرب على الإرهاب» المعلنة إثر أحداث سبتمبر 2001 التي سرعان ما تحوّلت إلى مرادف للحرب ضدّ الإسلام، أنتجت التطرف وردود الفعل العنيفة. وخطاب الغرب المخاتل الذي يعلن عن حوار الثقافات، ومن ثمّ يغلّب نزعة الاستفراد بالشأن الدولي، ثقافيا وسياسيا واقتصاديا، أربك العلاقات الدولية ووقف حاجزا أمام إمكانات التفاهم بين الشعوب،. وما بشّروا به المنطقة منذ غزوهم العراق، خاصة الوصفة الأمريكية الغربية للديمقراطية، ماذا أنتجت؟ لقد خرّبت أوطانا ودمّرت نسيجها الاجتماعي، ولم تبق منها ما يدلّ على وجود دولة. أما الهيئات الأممية فتقف عاجزة عن تطبيق ما يسمى القانون الدولي، أو إدخال المساعدات الإنسانية لغزة التي تتعرض لإبادة وتطهير عرقي ونكبة هدفها قتل سكانها وتهجيرهم.

فلسطين اليوم هي امتحان للحضارة الإنسانية، وحقيقة التعاقدات الدولية ومدى تهافتها، وقلة نجاعة هياكل ما بعد الحرب العالمية التي لا جدوى منها

منذ عقود وهم يبيعون نسخا قبيحة من الديمقراطية على أنّها عقيدة دينية، ولا يسمحون بأن تكون العدالة للجميع، أو أن يرتقي هذا المصطلح في بعده الإنساني فوق أي حدود سياسية أو جغرافية، أو أيديولوجية ضيقة، ومازال يروق للأمريكيين إعطاء أسس أخلاقية لسياساتهم، سواء بالنسبة لإسرائيل، أو ما يتعلّق بملفات أخرى، وإلى الآن يدّعون أنّ الديمقراطية والسلام هي الغاية والرسالة التي يحملونها. كذب ونفاق وازدواجية لا مثيل لها، غيّبوا القانون الدولي، وعبثوا به لمصلحة دعاة العنف وانعدام الضمير الإنساني من «الدول المارقة» التي لا تلتزم بأيّة قرارات أمميّة، ولا تحترم النصوص والمعاهدات الدولية، حتى أصبح من المُخجل للهيئات الأمميّة أن تُحدّثنا اليوم عن حقوق الإنسان وعن الشرعية الدولية، فهي عاجزة عن محاسبة المجاهرين بالكذب لتبرير الغزو والاحتلال والتنكيل بالشعوب وارتكاب أبشع المجازر، مثلما يحدث على أرض فلسطين التاريخية من قبل الغزاة الصهاينة وقطعان المستوطنين. جميع مناحي السياسة على الصعيدين المحلي والدولي تدور ضمن إطار اقتصادي رأسمالي بشع، وهذا المسار بدأ منذ استفراد المعسكر الغربي الليبرالي بالتحكم بالعالم منذ ثلاثة عقود على الأقل. ومنذ ذلك الحين تتم الأمور بالغلبة وافتكاك الثروات وإسقاط الأنظمة، وتفعيل العقوبات الاقتصادية واستغلال المنظمات الأممية. وهي سياسات مازالت متواصلة إلى الآن. ليست هذه المسارات الليبرالية سوى ديكتاتورية اقتصادية ومالية شجّعتها حكومات الدول الصناعية الكبرى، وأقرّتها تحت ما يسمّى «تحرير الأسواق المالية». ومن يصنع السياسات العامة، ويشكل الرأي العام في الولايات المتحدة الأمريكية، لم يتأمل بعمق حتى الآن كيف تنظر الشعوب إلى الحالة الأمريكية بالريبة. ولماذا ترفض هذه الشعوب دعاواها الكونية باستنكار وازدراء، منذ أن اعتقدت بأنها قاطرة العولمة، وتخيلت أنها بشكل ما بمنأى عن الاضطرابات الناجمة عن الرأسمالية العالمية، وأيديولوجيتها المتغطرسة التي راهنت، من خلالها، على أن تقضي بالموت على كل حضارة اقتصادية أخرى. ولكنها فشلت فشلا ذريعا، مثلما هو حالها في جميع مغامراتها العسكرية، من فيتنام إلى أفغانستان إلى العراق. في المحصلة، لم تنصفها بضاعتها الإعلامية المسوّقة بشكل ناعم، رغم محاولاتها أن تُقولب الاتجاهات والأنماط السّلوكية والقيم الاجتماعية بما تطرحه. إذ كانت وسائل الإعلام ولا تزال تمارس دورها فيما سمّاه توفلر «حقن الجماهير» بالخيالات والصور الموجّهة التي تخدم الهدف السياسي الكوني لعملية العولمة التي تتبنّاها. مئات الآلاف من المتظاهرين يخرجون في الشوارع الأمريكية رافضين الحرب الهمجية على غزة، التي تتم بدعم أمريكي سياسي وعسكري. وهذا دليل على اختراق الحقيقة لأسوار التغطية والدعاية الكاذبة، وتغير نظرة الجماهير للحق الإنساني الفلسطيني نتيجة تراكم الظلم والاضطهاد، وعجز صهاينة الغرب والشرق عن حجب وتبرير إجرامهم وإرهابهم الهمجي ضد المدنيين الأبرياء.
النظام السياسي الأمريكي في فترة الحرب الباردة وبعد اختفاء الاتّحاد السوفييتي عن المسرح العالمي والمنافسة الدولية، يحفل بمدوّنات شاهدة على حوادث الإرهاب والعدوان وإطاحة الأنظمة والحروب الاقتصادية، وغيرها من الجرائم التي دمرت شعوبا وكيانات. ونمط السياسة الأمريكية استمرّ دون تغيير، والعالم ما بعد كورونا لم يتغيّر كثيرا سوى أنّ خطورة هذه الظاهرة على النمو الاقتصادي تبدو فادحة. واتضحت آثارها الاجتماعية والسياسية على النظام الليبرالي، لما خلقه من تفاوت بين قلّة تمتلك الثروة والنفوذ، وكثرة لا تمتلك شيئا على الإطلاق. وهي واقعية ستزداد تفاقما، وسيحاول الاقتصاد الرأسمالي هيكلة نفسه من جديد رغم تعرية أسوأ الجوانب فيه، وافتضاح المعسكر الذي يتبنّى مبادئه، والذي غلبت عليه الشهوة الجامحة للسيطرة والافتنان المرضي بامتلاك الأسلحة عالية التقنية، وعدم احترام الثقافات المغايرة والأنانية المفرطة والمنطق الأعوج للمصالح الجيوسياسية، التي تُظهر استخفافا بالغا بأرواح البشر. وليس استخدام أمريكا لحق النقض «الفيتو» في مجلس الأمن ضد قرار إيقاف الحرب على غزة، سوى دليل على دموية الصهيونية الإسرائيلية الأمريكية، التي بلغت حدا لا يطاق. ومازالوا يمضون في هذا العداء كلما تنامت حركات اليمين المتطرف لديهم، أو كانت هناك انتخابات تستدعي استغلال هذه الشعارات لأهداف سياسية، حتى من قبل ما يسمى بالأحزاب الوسطية في الغرب «المتحضر». ما هذه الحضارة التي وصلت إلى ما وصلت إليه؟ مشروعية التساؤل قائمة عمّا إذا كان لا يزال بمقدور الحضارة أن تنقذ نفسها بنفسها، بعد أن أدار لها الإنسان ظهره، ولم يعد معنيّا بالانشغال بمشكلاتها. الحضارة الحالية هي اللحظة الحاسمة بين الانتصار الحتمي لرأسمالية ما بعد الحداثة، وأيديولوجيا العولمة على ذاكرة الفرد المواطن، الذي ضاع وسط تداعيات النظام الدولي الجديد، واستسلم للهزيمة وتداعياتها. والفرد الخاوي من مضمونه الإنساني هو نسخة طبق الأصل من الحضارة الخاوية من إنسانيتها، وكل هذه التداعيات مأتاها النظام السياسي المالي بقيادة الرأسمالية المتوحّشة، التي تواصل اضطهاد الفرد، ثمّ تحمّله أعباء خسائرها المالية، وتلقي عليه مسؤولية الأخطاء السياسية والاقتصادية التي تتهدّد المجتمع في الدّاخل والخارج. والأمر يزداد تراكما وسلبية زمن ما بعد الجائحة العالمية، وما آل إليه وضع العالم من حروب وبؤر توتر وصراعات. من المؤسف أن لا تنتج الحضارة المعاصرة سوى ما نراه حاليّا، وهو استقطاب الثروة والتدهور في أحوال شعوب بأكملها، وتنامي النزعة العسكرية والاحتلال واضطهاد أمم بأسرها وتدهور أحوال العمال والفئات الوسطى والسكان الأصليين، وتفكيك الخصائص الثقافية للجماعات المختلفة، وتدمير البيئة وتسليع الحاجات الإنسانية وتنميط الثقافة، وتهديد بقاء البشر وتنامي العنصرية، وكراهية الآخر الأجنبي.
فلسطين اليوم هي امتحان للحضارة الإنسانية، وحقيقة التعاقدات الدولية ومدى تهافتها وقلة نجاعة هياكل ما بعد الحرب العالمية التي لا جدوى منها، حيث يسمح هذا الوضع العالمي لكيانات استعمارية أن تعربد وتفعل ما تشاء وترتكب الجرائم، وتستخدم جميع أنواع الأسلحة، حتى المحرمة دوليا دون محاسبة أو مساءلة قانونية. هل بقي شيء اسمه القانون الدولي؟ هل وجد أساسا؟ أم أن شريعة الغاب هي السائدة ومازلنا نعيش وفق نواميسها؟
تبقى النقطة المضيئة في كل ذلك هي إرادة الشعوب في الانعتاق، والبحث عن مساحة الحرية التي يعبّر عنها أحرار العالم في أكثر من ميدان، شرقا وغربا. وهي بالتأكيد إرادة تكسر القيود وآيلة حتما إلى التوسّع. وربّما الشعوب تعرف قبلنا ما نرغب في أن نعرفه، والاستقلال والكرامة مطالب لا بد منها لكل المضطهدين، وفي مقدمتهم الفلسطينيون، الذين يقاومون بمفردهم ضد فاشية الاحتلال الصهيوني المدعوم من دول غربية. ويكفي قول الرئيس الأمريكي بايدن المتفاخر بصهيونيته: لو لم تكن هناك إسرائيل لكان علينا أن نخترع واحدة.
كاتب تونسي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية