الثقافة السياسية المشبعة بالصور والفارغة من المحتوى

كوارث مناخية متتالية تودي بأرواح الآلاف من الناس، سقطوا ضحية جشع الرأسمالية التي لم تلتفت إلى الآن للمخاطر التي وصل إليها كوكب الأرض، جراء أزمة التغيرات البيئية الكبرى والتطرف المناخي. عالم اليوم بما فيه من تعاظم في علاقات التشابك التجاري والنقدي، ومن تعميق لدرجة تقسيم العمل الدولي، ومن إضعاف للسلطة الاقتصادية للدولة القُطرية، لا يزال بعيدا عن خيريّته الإنسانية المنشودة. والسائد هو ثقافة الاستهلاك التي تُطرح بديلا عن الثقافة الإنسانية، وهي نتاج أيديولوجيا السوق وسطوة المصالح التي تقف خلف العولمة الاقتصادية، وتترك آثارها السياسية والاجتماعية والثقافية.
يكتشف العالم في كل مرة سلبيات الليبرالية ومقولات الانفتاح، وليس أدل على ذلك من حقيقة أن الترابط الاقتصادي اليوم، ليس حصنا منيعا ضد التهديدات التي يتعرض لها النظام العالمي، بما في ذلك أزمة الطاقة والتضخم، وارتفاع أسعار المواد الغذائية بسرعة جنونية، ناهيك من أزمات العالم الأخرى، وأشدها خطورة الآن كوارث المناخ والتهديد النووي. ضمن هذه المسارات الليبرالية يبقى الواقع العربي بتشكلاته السياسية والاقتصادية المتعثرة والصعبة، نتاج تأثير سياسة العولمة والرأسمالية المتوحّشة، التي تجاوزت كلّ الحدود التقليدية. ومثلما أنتجت استقطابا اجتماعيا وسياسيا على الصعيد العالمي، كرست تأثيراتها هذا الاستقطاب أيضا على المستوى الإقليمي والوطني، وفق منطق التدخّل القسري في شؤون الدول من خلال الأذرع الماليّة والمؤسّسات السياسية والضغوط الدبلوماسية، التي تلخّص إرادة الهيمنة وسطوة المصالح. مهزلة أن تتفاوض تونس مثلا مع البنك الدولي لمدة سنتين على 1.9 مليار دولار في حين أنهم يضخون آلاف المليارات لأوكرانيا على مدار سنة من اندلاع الصراع مع روسيا، وما زالوا يقدمون الدعم المالي والعسكري. ذاك هو الغرب الذي تملّكته إرادة الهيمنة، يخدم مصالحه الخاصّة فقط، غير عابئ بهموم الشعوب وحقّها في الحياة الكريمة، أو تقرير المصير. طبعا، هذا لا يحجب حقيقة بعض الحكومات الزبائنيّة التي ترتهن بإرادة الأجنبي، ولا تخدم مصالح الدولة الوطنية، أو تهتمّ بمطالب مواطنيها. واقعية جعلت الشعوب بين مطرقة الخارج وتدخلاته، وسندان الداخل وسوء إدارة الحكم، وتنامي حجم السرقة والفساد الذي منع تطوير البنى التحتية لتقليص حجم كوارث طبيعية من النوع الذي يحدث الآن في المغرب وليبيا. فالكوارث كشفت حجم الفساد وغياب التنمية ونسبة الفقر، والواقع السكني الذي يعيشه الناس. بشكل يجعلنا نظل ننشد عربيا دولة تحترم الإنسان. التقارير الصادرة عن مكتب الأمم المتحدة للحد من مخاطر الكوارث، سلطت الضوء على انعكاسات التغير المناخي على نسب الفقر، وقدّر بعضها أن 37.6 مليون شخص آخر سيعيشون في ظروف فقر مدقع بحلول عام 2030 بسبب آثار تغير المناخ والكوارث. الأزمات التي نواجهها في هذه اللحظة الفريدة من التاريخ البشري هي بالطبع أزمات دولية. والكارثة البيئية والحرب النووية والأوبئة ليس لها حدود. وبطريقة أقل شفافية، ينطبق الشيء نفسه على «ثلث الشياطين التي تطارد الأرض وتدفع عقارب ساعة نهاية العالم نحو منتصف الليل»: هو بالتأكيد تدهور الديمقراطية في تقدير تشومسكي. يتضح الطابع الدولي لهذا الطاعون عندما نفحص أصوله. أمامنا خيارات عديدة تتراوح بين تركيب استبدادي للغاية في العالم، تتحول فيه الدول إلى أكثر وحشية، أو خيار الراديكالية وإعادة إعمار المجتمع، أو خيارات أخرى كالعودة إلى المصطلحات الإنسانية المعنية بالاحتياجات البشرية، وعدم تغليب الصوت الاقتصادي لمنفعة النيوليبرالية، التي سيسعدها التضخم الهائل لعنف الدولة، الذي بدأت ربما تجلياته تظهر تحت ذريعة التعامل مع أزمة فيروس كورونا، وتتواصل مع صعود الحركات الشعبوية، وتخوف المركز من فقدانه السلطة لمصلحة اليسار أو التطرف اليميني. من المسؤول عن أزمات المناخ؟ بشكل أكثر دقة، هناك 20 دولة، هي أعضاء مجموعة العشرين، تتسبب بما يصل إلى 80% من إجمالي الانبعاثات المسببة للاحتباس الحراري. و12 منها فقط تعمل بشكل نسبي على خفض الانبعاثات، لكن البقية تتنكر لجميع تعهداتها. الاحتباس الحراري نتيجة تلقائية للرأسمالية في وقت ما زالت الدول المتنافسة على الهيمنة تزيد من منسوب الاحتقان العالمي، وتُضاعف الأزمات بأنواعها، وتقلّل من فرص السلام والتعافي الاقتصادي. وما تبقى لنا في المحصلة، هو مجتمع من الأشخاص المسحوقين، الغاضبين، المستائين، وغير المنظمين، الذين يواجهون سلطة خاصة مركّزة، تعمل لاحتواء الحرب الطبقية الشرسة التي أدّت إلى الوضع المأساوي الحالي. وما هو مؤكد اليوم، أنه ما لم يشرع الناس على الفور في تنظيم أنفسهم، ويتضامنوا في ما بينهم لتحقيق عالم أفضل بكثير من العالم الذي يعيشون فيه، فإنّ البشرية ستواجه مصاعب هائلة لطالما أعاقت طريق الحق والعدالة، تماما كما الاستعداد للتعامل مع الخطرين الوجوديين للحرب النووية والتغيرات المناخية والكوارث التي سيتسبب بها الاحتباس الحراري. وهي كوارث بدأنا في تعداد ضحاياها، ولن نتعافى منها ما لم نكن حازمين في مواجهتها حين نصل إلى مرحلة خطيرة بهذا الحجم. لقد دخلنا فعلا مرحلة الكوارث المناخية وباتت واقعا ملحوظا لا يحتمل التنبؤات.

الكوارث كشفت حجم الفساد وغياب التنمية ونسبة الفقر، والواقع السكني الذي يعيشه الناس، بشكل يجعلنا نظل ننشد عربيا دولة تحترم الإنسان

تنامت الحاجة إلى تأمين مصادر الطاقة للعمليات العسكرية والإنتاج الصناعي، وتنافست القوى الكبرى في الصراع على هذه الثروات. وهي مسارات ذات تأثير، تتعاظم أبعادها الجيوستراتيجية، على خريطة التحالفات في منطقة الشرق الأوسط. في الأثناء، لم تشف دول المنطقة إلى الآن من محاولات التّجزئة والتفتيت، وهي في أمس الحاجة إلى فعل ترتيب كيفيات بناء مجتمعات قادرة على جعل الإرادة والقانون والمؤسسات مبادئ محورية في نظام الحكم. والتخلّص من ويلات الفساد والتسلط والعنف والطائفية والانقسام، تلك هي التحديات الحقيقية بالنسبة إلى المنطقة العربية. هو تحد يترافق مع الارتقاء بمفهوم الدولة فكرا وممارسة، الذي يجب أن يستند إلى رؤية متنوّرة تدفع نحو إحداث مؤسسات اجتماعية وسياسية واقتصادية تحقق التفاعل الإيجابي بين الحاكم والمحكوم في إطار الممارسة المواطنية والقانونية العادلة. ومن الضروري أن يتصالح الواقع العربي مع مسارات التنمية من أجل تجنب الوصول إلى مستقبل قاتم. وهو قادر على التغلب على أزماته السياسية والاقتصادية لو توفرت الإرادة. فالموارد والثروات موجودة، ولكن يتم إهدارها بعيدا عن مصالح الأمة وشعوبها، مع العلم أنها موارد قابلة للنضوب ولن تبقى إلى لأبد. بالتالي الرهان هو في كيفية استغلال كل هذه الإمكانيات الاقتصادية الهائلة لتحقيق التطور الإقليمي، لا البقاء في خانة التبعية والتذيل الذي لن يصنع شخصية سياسية عربية لها وزنها ضمن الأمم.
كاتب تونسي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية