في فلسفة الكلاب الخرساء

ما نَفْع الكلاب عندما لا تنبح؟ ما معنى وجودها؟ لماذا يتعيّن علينا أن نؤويها، أو أن نحميها؟ اسئلة كثيرة تنطلق في رؤوسنا منذ أن نفكّر في ماهية الكلب الذي من المفترَض فيه أن يكون حامياً، وبالخصوص عندما يكون كلباً حارساً، وقد أوهمنا بأنه حاذق وأمين. لكن عندما تحين الساعة، ساعة الدفاع عن المكان الذي يأْويه ويطعمه ويسقيه، يصبح أخرس وعَييّاً. يَلوذ بأول ملجأ يجده، طاوياً ذيله بين قوائمه، وداحساً رأسه في صدره، وكأنه ليس من أهل المكان، ولا هو من حُماته. إزاء هذا المشهد المثير للعجب، والمتّسم بالأنانية والجُبن والخبث، كان أبي البدوي العائش في الصحراء يتعجّب: «أرأيتموه البارحة، كيف كان يهرّ على جِرائه، وينبح الكلب الصغير الأعرج الذي يرافقه وهو ينهشه بعنف وشراسة، وكأنه عنترة بن شداد»؟ وبعد أن يسبّح قليلاً بمسبحته الصفراء ذات الحَبّات المِلْس الشفّافة التي تُصدِر صوتاً موسيقياً خافتاً، يضيف: «عجباً! هو شديد وشجاع على أهله، وبالخصوص، على الأضعف منه، وهو جبان رعديد أمام المعتدين. لكأنه واحد منا بني البشر»؟
كنتُ صغيراً، وكنت أتساءل عندما أسمع أبي يتكلمّ عن الكلاب بمثل هذه النباهة والتأثُّر: «لكن لماذا لا نحمي نحن أنفسنا، بدلاً من أن نطلب من الكلاب أن تحمينا»؟ لم أكن، آنذاك، أدرك مغزى الكلمات، ولم يكن رأسي الصغير يعبأ بما يتجاوز فهمي كثيراً. كل ما كان يشغلني، يومذاك، هو عَتَب أبي القاسي على الكلاب التي تتحوّل إلى «جَرابيع» صامتة وتعيسة بدلاً من أن تقوم بدورها الحامي، وتَفي بما كنا نأمله منها، ولو، في أضعف الإيمان، كما يقولون: بالنُباح. وفي الوقت نفسه، كنت أجد في «فلسفة الكلاب» هذه، بعضاً من المكاشفة والابتكار. كنت أعتقد، صغيراً، أن الكلاب متطفّلة على الوجود، وأن حياتها لا تستقيم من دون عوننا لها واستضافتها بيننا. لكن أبي أقنعني بالعكس (والعكس دائماً هو الصحيح، كما سأدرك من بعد) أقنعني أن الكلاب كائنات مثلنا. هي الأخرى، لديها مباديء، وأخلاق. عندها وفاء أكثر مما لدى البشر، أحياناً، وأحياناً، هي عَقور. بعضها ذو نخوة عالية، ولا يتخلّف عن إغاثة المظلوم، وبعضها الآخر، كما هي الحال عند الناس، يمكن أن يكون جباناً، وبلا نخوة، وحتى جديراً بالتخاذل والخيانة إذا كانت له مصلحة تدفعه إلى فعل ذلك. وهذا النوع من الكلاب الخوّانة، لا يهمّه إلا ما يملأ به بطنه عندما يجوع. وهو جَشِع، ولئيم، و… ويصير أبي ينظر التراب مُتحَسِّباً، وهو يقول : «الكلاب والناس سواسية عند الملمّات. بعضهم ذو نخْوَة، وبعضهم بلا مزية».
«فلسفة الكلاب» هذه، ستظل تلاحقني، أمداً طويلاً. وسأجد الكثير من مناطق الشُّبْه بيننا وبينها. كلبي القويّ «فَدْعوس» مثلاً، كان يقود قطيع الكلاب في «النَزْل». كان كلباً عملاقاً، لكنه عادل ونبيه. لا يؤذي الكلاب الصغيرة، ويطرد الكلاب العَقورة عند اللزوم. يحمي مكانه بشجاعة. ويَهُبّ نابحاً بقوة، ونابِشاً الأرض بعنف، عندما يتحرّش به أحد، أو يدنو من المكان الذي يحميه، أو، حتى، عندما يتعرّض أحد الكلاب للعنف. كان يحس نفسه مسؤولاً عن «جماعته» وكأنه فُوِّض بذلك، عَبْر انتخاب شرعيّ. لم يكن يماطل، أويسوّف، أويبرر. لا يبحث عن أعذار واهية، ولا حتى غير واهية. لم يكن يهمّه ما يقال عنه، ولا ما لا يُقال. كل ما كان يفعله كان من أجل الوجود.

كاتب سوري

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية