في صداقة علي جواد الطاهر للكتب عِبرة

حجم الخط
0

لا تقلب الصفحة بهذه الطريقة، قال علي جواد الطاهر، حين قلبتُ صفحة الكتاب بدعكها بإبهامي. وأخذ الكتاب من بين يدي، وحرّك بخفة ورفق نهاية الصفحة إلى الأعلى بحافة إصبعه عند الظُفْر، وحين ارتفعت نهاية الصفحة من الخارج قليلا، مرّر إصبعه تحتها ليقلبها، قائلا: هذا أسلم للورقة، وستترك آثار الدعك عليها بطريقتك تلك، وقد تتمزق الورقة حين تكون أوراق الكتاب قديمة… في حينها تلقيت الدرس الأول في حقوق صحبة الكتاب وصداقة الطاهر للكتب، فبعض حقوق الصحبة الرفق بالصاحب.
كان هذا في تسعينيات القرن المنصرم، حين كنت أتردّد على بيت الطاهر، وأنا باحث في مرحلة الدكتوراه، والرجل له علّي أيادٍ بيضاء، من أفضاله أن اقترح عليّ عنوان أطروحتي. ثم صار التردّد عليه عادة، حتى صارت الزيارة أسبوعية أو تكاد تكون كذلك، في رحلة من الحلة إلى بغداد. وفي تلك الزيارات كنت تلميذا في مدرسة الطاهر في علاقته بالكتب، وتلمّست تفاصيل في تلك العلاقة، حين يكون الكتاب صديقا وله حياة كحياة الناس. ثمّ صرتُ أرصد علامات دالة تبيّن علاقة الرجل بكتبه.
في مكتبته العامرة كان الطاهر يرصف كتبه رصفا منظّما في رفوف متّسقة، تغطي جدران حجرة المكتبة، من أرضية الغرفة حتى سقفها. وفي المكتبة سلّم صغير متنقل يستطيع به أن يصل إلى الرفوف العليا بسهولة. وهو حين يستلّ الكتاب من مكانه يخرجه بعناية، ثم يمسح ما قد علق به من غبار، بريش مشدود على عصا صغيرة. وحين ينتهي من الكتاب يعيده إلى مكانة، وبالعناية ذاتها. وفي هذه الطقوس علامات علاقة خاصة مع الكتاب، تقتضيها حقوق الصديق على صديقه، من احترام وعناية ومحبة.
وأمر الصداقة لديه يمتد لأبعد من هذه المظاهر في التعامل مع الكتاب. فاقتناء الكتب وترتيبها في رفوف والعناية بها، قد يصنعه كثير من الناس الذين لديهم مكتبات خاصة، وقد تبقى مظاهر شكلية. وأجد أنّ هذه المظاهر تكتسب قيمتها ومعناها المضاعف، حين تكون ضمن رزمة من علامات أخرى. وهذا ما كان متحققا في علاقة الطاهر بالكتب. فتجده لا يكتفي بأن يقرأ الكتاب ويعيده إلى مكانه في رفوف المكتبة، بل هو عادة ما يشير إليه في حديث مع باحث، أو يكتب عنه مقالا، ويقول فيه رأيه كأي صديق مخلص لصديقه، يبدي نصحا حين يجد خللا أو نقصا، ولا يسكت ففي بعض السكوت خيانة، ولا يجد موضعا حسنا فيه دون أن يشير إليه مشجّعا ودافعا إلى تكرار مثله في المستقبل. وله مع أصدقائه الكتب طقوس، موغلة في تاريخ حياته.

وكتبه كثيرة وقد قرأها وقد يعيد قراءة بعضها حين تستدعي ذلك حاجة في موضوع علمي، له أو لغيره من الباحثين الذين يتردّدون عليه. أما الكتب الجديدة فكان على امتداد سنوات طويلة – كما يروي- يتابع ما يصدر منها ويثير اهتمامه. يقرأ الكتاب وفي الأغلب يكتب عنه، وهذا ما تؤكّده مقالات الطاهر عن الكتب، لذا تجد مقالا له يتناول فيه كتابا صدر قبل شهور أو أيام، مثلما تجد له نقدا في مقال لكتاب صدر قبل عدّة سنوات. وما يحدّد هذا سوى مناسبة معيّنة تستدعيها المعرفة، أو يدعو إليها موقف. ويبقى خطّهُ الرئيس متابعة الجديد من الكتب، من نقد أو أدب، لاسيّما السرد بكل أشكاله. وقد يقرأ كتابا بطبعة حديثة فيعود إلى مقارنة هذه الطبعة بطبعة سابقة للكتاب نفسه، ويكتب عنها. وكأنّه يرى للكتب حياة وتاريخا، ويجد نفسه معنيا بها. كيف لا وهي حياة أصدقائه؟ هو يعيش حياته مع أصدقائه مخلصا، راضيا عن هذا الكتاب، مثنيا على أسلوبه ولغته أو متعة قدّمها أو رسالة يحملها، أو منهج اختطه لنفسه. وساخطا عن ذاك حين يجد فيه ما يستدعي السخط في أمر مما ذكرت. وقد يكتفي بإشارات رفيقة حين يجد الخلل بسيطا لا يستدعي الشدّة، وقد يكون شديدا حين يرى في الشدّة نفعا. لكنه في الأحوال كلّها، مخلص ناصح، يحدّث عن الكتاب حديث المتأدّب المؤدّب.

حياة الطاهر مع الكتب حياة كاملة كحياته مع الناس. فمثلما له حياة مع أناس عاش معهم وكتب عنهم مقالات جمعها لاحقا في كتابه «أساتذتي ومقالات أخرى»؛ فله حياة مع الكتب، صديقا وقارئا. عاش مع الكتب وكتب عنها مقالات كثيرة، جمعها في كتابه «وراء الأفق الغربي» و»من حديث القصة والمسرحية» و»مسرحيات وروايات عراقية في مآل التقدير النقدي». هذه وغيرها كانت ثمرة لعيشه في عالم الكتاب وصداقاته الواسعة مع الكتب.
ذات مرّة وفي مكتبته، جرى حديث عن الواجبات الاجتماعية، لاسيّما التعازي في الفواتح، التي تمليها على الناس صداقاتهم، قال الطاهر مبتسما: أنا لا أفهم كيف أنّ أستاذا جامعيا باحثا مكانه مكتبته، وينفق وقته في تقديم التعازي، ففي هذه المناسبات وقت يضيع ومزاج يتعكر. نعم، صدق الطاهر: وقت يضيع ومزاج يتعكّر. ملاحظة مهمّة، ينكر فيها الطاهر على الباحث نسيان نفسه باحثا، ويستعيض عن صحبة الكتب، بصحبة الناس الذين يجدون في تلك المناسبات واجبا اجتماعيا يقتضي الحضور، بَعُد مكانها أم قرب، خصت أم عمّت. قلت له ذات مرة ملاطفا: إنّ فلانا يقول: جميل أن يستلقي الإنسان في فراشه ويأتي إليه العالم من خلال كتاب يقرأه، أو من خلال جهاز راديو يستمع إليه (والراديو في حينها الوسيلة الشائعة). ضحك الطاهر قائلا: أنا أعرفه، لعله صدق في أمر صحبة الراديو…
اليوم، وبعد ثلاثين سنة من تلك التلمذة، أجد أنّ صداقتنا للكتب زاحمتها بشدّة وسائل التواصل الاجتماعي، وسيول البصريات والأخبار و(البوستات) السريعة، في عالم فيسبوك وغيره… ماهر عجيب، ذاك الذي يتمكن من الموازنة بين العالميْن، فبينهما بون شاسع، هنا كتاب تصحبه وتقرأ فيه ويدعوك إلى التأمّل والمتمعّن، وقد تذرف دمعة على صفحة من صفحاته، فتكون علامة على تاريخ مشترك بين حياتين؛ حياة إنسان وحياة كتاب.. وهناك صفحة إلكترونية تتحرك فيها الصور والمنشورات السريعة لاهثة، فتجرّك الى عالم الجري والتصفّح. أو قل التسطّح، إن كنت غاضبا ومستاءً.

كاتب عراقي

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية