فيلم «سيدتي الجميلة»: صورة ساحرة لحقائق مؤلمة

يظهر الفيلم الرائع الحقائق عن المجتمع دون أن يشعر المشاهد بألمها، بسبب مهارة صانعي الفيلم في إبراز السياق المرح.
وهذا ما تناوله الفيلم الغنائي الشهير «سيدتي الجميلة» My Fair Lady (1964) الذي مثل الأدوار الرئيسية فيه النجمان أودري هيبرن وريكس هاريسن، إخراج جورج كوكر.

أحداث الفيلم

تدور أحداث الفيلم في العقد الأول من القرن العشرين في مدينة لندن، حيث يخرج أفراد الطبقة الأرستقراطية من أحد المسارح، وإذا بهم يواجهون ليلة ممطرة، تقترب الشابة الفقيرة «أيلايزا دولتل» (أودري هيبرن) منهم لبيع ما تحمله من أزهار رخيصة الثمن، ولكنهم يتجاهلونها.
وتصطدم مصادفة بأحد الشباب الأرستقراطيين، فتسقط الأزهار على الأرض، فيقوم الشاب بالاعتذار منها ومساعدتها في التقاط الأزهار.
وفي هذه الأثناء يقترب من بائعة الأزهار أحد معارفها محذرا إياها من رجل غريب يدون كل ما تقوله، فتنتابها نوبة من الرعب، وتؤكد أنها لا تنوي شيئا سيئا، ولكن ذلك الرجل (ريكس هاريسن) يطمئنها ويخبرها أنه عالم في علوم اللغة واللفظ، وأنه البروفيسور «هنري هيغينز» وأنه كان يدون ملاحظاته عن لهجتها المنتمية إلى الجانب الشرقي من لندن، وهي منطقة الطبقات السفلى من المجتمع اللندني. ويتعرف ذلك العالم في هذه الأثناء على العقيد «هيو بكرنغ» (ويلفريد هايد وايت) الذي كان بدوره عالما في جانب آخر من اللغويات، وقد أتى لتوه من الهند، فيدعوه للإقامة في منزله.
ويراهن «هيغينز» (العالم) صديقه «بكرنغ» أنه يستطيع تعليم هذه الفتاة غير المتعلمة التحكم والتصرف كدوقة، أي امرأة من أعلى الطبقة الأرستقراطية، خلال ستة أشهر.
يفاجأ هيغينز بزيارة «أيلايزا» له في منزله في صباح اليوم التالي حيث تذكره بما قاله حول تعليمها اللغة، والتصرف بشكل راق وكأنها دوقة، لأنها تريد أن تعمل في مكان محترم، ويوافق «هيغينز» ولكنه يبين ازدراءه للفتاة، حتى إنه يقول «هل لهذا الكائن الحي مشاعر؟» ما يثير غضب واحتجاج «أيلايزا».
ويطلب العقيد «بكرنغ» من «هيغينز» عدم التحرش بها، إلا أن «هيغينز» يؤكد عدم امتلاكه أي مشاعر تجاه المرأة، لأن النساء بالنسبة له مصدر أزعاج وفوضى. تسكن «أيلايزا» في منزل «هيغينز» الفخم، ويخضعها لدروس قاسية في الإلقاء والتصرف.
كانت المفاجأة الثانية زيارة والد «أيلايزا» للبروفيسور هيغينز، حيث يطالبه بخمسة جنيهات مقابل السماح له بأخذ ابنته، ولكن «هيغينز» يرفض ذلك ويعرض عليه استعادة ابنته، ما يثير غضبه، وكذلك دهشة العقيد «بكرنغ» الذي يؤكد له أن أهداف «هيغينز» شريفة تجاه «أيلايزا» فيجيب والدها على الفور بأنه كان سيطالب بخمسين جنيها وليس بخمسة جنيهات، إذا كانت أهدافه غير شريفة، ما أثار تعجب العقيد الذي سأله إذا كانت لديه أي مبادئ، وكان الجواب بالنفي.

وبعد فترة يقرر «هيغينز» اختبار «أيلايزا» عن طريق أخذها إلى مضمار سباق الخيل، والاختلاط بأفراد الطبقة الأرستقراطية، ومنهم والدته.
وعلى الرغم من أن «أيلايزا» بدت كأميرة بقوامها الممشوق ورقة شخصيتها ولهجتها الراقية إلا انها سرعان ما أخذت تحرج «هيغينز»و»بكرينغ» بكلامها الغريب. ولكنها أثارت مشاعر شاب أرستقراطي مؤدب دون أن يلاحظا أنهما قد التقيا سابقا، إذ أنه الشاب الذي اصطدم بها في تلك الليلة الممطرة. يسحبها «هيغينز» و«بيكرنغ» من المكان قبل أن تسبب كارثة ألا انها سلبت قلب ذلك الشاب الذي أخذ يلاحقها وينتظرها طوال الليل أمام منزل «هيغينز».
بعد مرور ستة أشهر من بداية الدروس يقرر «هيغينز» أن تخوض «أيلايزا» الاختبار النهائي والحقيقي، ألا وهو حفلة القصر الملكي الذي ستحضره ملكة أجنبية. وتثير «أيلايزا» دهشة الجميع بشخصيتها الجذابة وجمالها ورقصها الأنيق حتى إن الملكة الزائرة تطلب منها الرقص مع ابنها، ولي العهد. ولكن المشكلة كانت وجود أحد كبار العلماء اللغويين الذي عُرِفَ بقدرته على التعرف على أصول الناس من خلال تصرفاتهم وكلامهم.
وقام هذا الخبير بالرقص مع «أيلايزا» وفي نهاية المطاف قال للجميع إنها من أصول ملكية هنغارية، أي أن «أيلايزا» نجحت في خداعه.
يعود «هيغينز» و«بيكرنغ» و«أيلايزا» الى المنزل ويحتفل الرجلان بالنجاح الكبير، وكسب «هيغينز» الرهان ناسين «أيلايزا» التي تشعر بأنها انتهت بالنسبة لهما، فلم تكن سوى وسيلة استعملها «هيغينز» لإثبات قدراته. وتتشاجر معه متهمة إياه بإهمال مشاعرها، وعندما يحاول التخفيف من الموقف، وتعليل كل شيء تشعر بالإهانة.
وفي الصباح التالي يكتشف الجميع اختفاء «أيلايزا» حيث أخذت أمتعتها، فيجن جنونهم، وتبدأ عملية البحث عنها. وأخيرا يعثر عليها «هيغينز» في منزل والدته التي تدعمها. وبعد خلاف بين «أيلايزا» و«هيغينز» تترك المكان قائلة إنه لن يراها مرة أخرى. ويعود «هيغينز» إلى منزله محبطا، حيث يشعر بالعذاب لاكتشافه مدى تعوده على وجودها. وفي لحظة ضعفه تأتي أيلايزا، ويحاول «هيغينز» إظهار عدم اهتمامه وهي تدرك الحقيقة.وينتهي الفيلم هنا.

تحليل الفيلم

من النادر أن يشاهد المرء فيلما ممتعا مثل فيلم «سيدتي الجميلة» فقد قام الجميع بعملهم بكفاءة عالية.
ولنبدأ بالمخرج جورج كوكر، الذي نجح في خلق جو لندن في بداية القرن العشرين، على الرغم من أن الفيلم صور في الولايات المتحدة الأمريكية. وكان تطور الأحداث سلسا جدا ما جعل المشاهد يتابع الأحداث دون أن تتملكه الحيرة حول بعض الأحداث. ويبدأ استمتاع المشاهد بالفيلم منذ اللحظة الأولى، وحتى الأخيرة بالعرض الساخر لممثليه، والأغاني الجميلة والرقصات البسيطة، على الرغم من أن أغنيتين في الفيلم كانتا أطول من اللازم، كما أحتوت إحدى الأغنيات على مقطع مشابه لأغنية من فيلم «قصة الحي الغربي» Westside Story (1961).
أما أودري هيبرن، فقد طغت على بقية طاقم التمثيل، لتصبح نجمة الفيلم دون منازع. وقامت الممثلة الكبيرة بتقديم نسخة خيالية عن فتيات الجانب الشرقي من لندن، تميزت بالرقة وخفة الدم، على الرغم من أن اللهجة التي استخدمتها لم تكن حقيقية تماما، بل نسخة ممتعة ومثيرة. ولكن الممثلة برعت في تمثيل دور الفتاة الأرستقراطية، واستطاعت بسهولة بالغة البروز في مشاهد حفلة القصر الملكي. وقد ساعدها في ذلك كونها راقصة باليه محترفة في الماضي، وقوامها الرائع. ولكنها لم تكن مغنية، لذلك، قام المخرج بالاستعانة بالمغنية مارني نيكسن التي أدت أغاني ناتالي وود في فيلم «قصة الحي الغربي». وتذكر بعض المصادر أن هذا أثار غضب أودري هيبرن التي غنت الأغاني الأصلية في الفيلم، وأن هذا حدث دون اتفاق مسبق معها. ولكن المشكلة الحقيقية التي واجهتها الممثلة كانت إنها كانت في الرابعة والثلاثين بينما كانت تمثل دور فتاة في الواحدة والعشرين، وكان فارق السن واضحا.
أما ريكس هاريسن فكان ممتازا في دور البروفيسور ونجح في إضفاء خفة ظل انسجمت مع سياق الأحداث. وتذكر بعض المصادر أنه كان معترضا على أختيار أودري هيبرن، حيث كان يفضل المغنية البريطانية جولي أندروز». ولذلك كان وقحا وقليل الأدب معها طوال فترة تصوير الفيلم، لاسيما أنه كان معروفا بكونه الأكثر عدوانية بين ممثلي السينما البريطانيين.
لم يكن الفيلم مثاليا، فنقطة ضعفه الرئيسية انعدام وجود قصة حب فيه، إذ أن العلاقة بين «أيلايزا» و«هيغينز» كانت علاقة مصلحة، وربما علاقة تقدير متبادل أكثر من أي شيء آخر، ما يجعله غير واقعي. ومن الواضح أن إضافة علاقة حب جامح بينهما كانت ستزيد من جمال الفيلم، لأن الرومانسية جزء أساسي من طبيعة الإنسان، أي المشاهد. ولم يكن هناك سبب لـ«أيلايزا» لعدم الوقوع في حب الشاب الأرستقراطي سوى أن هذا سينهي وجود «هيغينز» في القصة. والسؤال هنا لماذا قام مؤلف المسرحية بذلك؟
كان الجانب الشرقي من مدينة لندن في الفيلم صورة رائعة، على الرغم من أنه عرض جوانب من الحقيقة المؤلمة لتلك المنطقة وجدها المشاهد مضحكة، فالشخصية التي مثلتها أودري هيبرن تخشى أن تتهمها الشرطة بالتخطيط لعمل إجرامي. وليس هذا مفاجئا لأن تلك المنطقة كانت أشهر منطقة لنشاط العصابات والدعارة في العاصمة البريطانية. وعندما يقول والد الفتاة إنه كان سيطالب بخمسين جنيها لو كان «هيغينز» ينوي تحقيق أهداف غير شريفة، فإنه يبين عقلية بعض سكان تلك المنطقة. ويعلل الفيلم ذلك كونه رجلا فقيرا، وهو تعليل ساذج، لأن التاريخ أثبت أن الفقر أحد العوامل التي تؤدي إلى هذه الظاهرة، ولكنه بالتأكيد ليس الوحيد.

لم يكن مشهد البروفيسور «هيغينز» وهو يعد «أيلايزا» حيوانا عديم المشاعر محظ صدفة، فالكثير من العلماء يظنون أنهم فوق الجميع، وأن الآخرين ليسوا سوى حيوانات تجارب لخدمة مصالحهم، وبذلك فإنه ليس مختلفا جدا عن والدها، على الرغم من كونه ثريا. ويضاف إلى هذا أنه من الطبقة الأرستقراطية، أي أنه من خريجي المدارس الداخلية. وتمتاز هذه المدارس بزرع صفات القسوة والصلابة بشكل غير عادي في نفوس طلابها، وإنماء الشعور بالاعتماد على النفس، وعدم التعاطف مع الآخرين. ويدل هذا أن «هيغينز» من حيث المبادئ ليس أفضل من والد أيلايزا.
يوضح الفيلم سهولة الانتقال من حضيض المجتمع إلى قمته بالنسبة للمرأة، لاسيما الجميلة والذكية، وقابليتها على فرض شخصيتها على محيطها.
كان الفيلم مقتبسا من مسرحية غنائية شهيرة بالاسم نفسه، عرضت عام 1956 وكان نجماها جولي أندروز وريكس هاريسن، الذي كان مرتعبا من الغناء على خشبة المسرح. ولذلك توقع الكثيرون أن اختيار ممثلة الفيلم سيقع على جولي أندروز.
وهذه المسرحية لم تكن سوى النسخة الغنائية لمسرحية أقدم منها كتبها الكاتب الأيرلندي جورج برنارد شو، وعرضت عام 1913 بعنوان «بغماليون».
و«بغماليون» في الأصل أحد مؤلفات الكاتب أوفيد، الذي يعد أشهر كتاب الحضارة الرومانية.
وكان ذلك العمل الروماني عن رجل في جزيرة قبرص حقد على كل النساء، فقام بنحت تمثال لما أعده المرأة المثالية، وكانت النتيجة تمثالا ذا جمال مثالي. ولكنه وجد نفسه يقع في حب ذلك التمثال، فأخذ يحضنه ويقبله ويجلب له الهدايا. وذهب الرجل إلى معبد الآلهة «أفروديت» طالبا منها أن تهبه فتاة حقيقية تطابق تمثاله في الشكل. وعاد الرجل إلى المنزل، وكالعادة حضن التمثال وقبله، وإذا بالتمثال يتحول إلى فتاة حقيقية. ويتزوج الاثنان وينجبان فتاة. إذا كان أسم «بغماليون» قد خلده الأدب، فقد خلده كذلك علم النفس بسبب ما يسمى بـ«تأثير بغماليون».

تأثير بيغماليون

قام اثنان من علماء النفس بتجربة غريبة في إحدى المدارس الابتدائية في ولاية كاليفورنيا الأمريكية، حيث قاما بإخضاع طلاب أحد الصفوف لامتحان الذكاء. وبعد فحص النتائج ذكر العالمان للمدرسين، أن طلابا معينين أكثر ذكاء من الآخرين، وأن لهم مستقبل عظيم.
وفي نهاية السنة الدراسية نال هؤلاء الطلاب أفضل النتائج الأكاديمية كما كانت نتائجهم في امتحان ثان للذكاء في نهاية السنة، أفضل من الامتحان الأول. ولكن ما لم يعلمه المدرسون أن الأسماء التي زودها العالمان لم تكن لأفضل الطلاب، بل عشوائية تماما، فلماذا حدث هذا التحسن في مستواهم الأكاديمي؟ استنتج العالمان أن المدرسين أعطوا هؤلاء الطلاب رعاية واهتماما خاصين بشكل لا إرادي. وبالتالي أدى ذلك إلى تحسن ملموس في اهتمام هؤلاء الطلاب بالذات بدراستهم. وبناء على ذلك استنتج العالمان أن توقع المدرس الكثير من الطالب، ومنحه رعاية خاصة يحسن من مستواه.
وقد نشر العالمان تفاصيل بحثهما في كتاب نشر عام 1968، ولكن لم يدرس أحد تأثير هذه التجربة على بقية طلاب الصف، فربما أثرت سلبيا عليهم نتيجة لأهمال المدرسين لهم، بالإضافة إلى احتمال شعورهم بالغبن والحسد تجاه الطلاب الذين تمتعوا باهتمام الأساتذة، ولذلك، تبين هذه التجربة قسوة هذان العالمان، وعدم اهتمامهما بمستقبل الطلاب من أجل إتمام بحثهما، بل قد يتساءل المرء كيف تسمح إدارة تلك المدرسة الابتدائية لهذين العالمين بالقيام بذلك البحث أصلا. وبذلك أثبت هذان العالمان أنهما كانا مثل «هيغينز» في الفيلم.

كاتب عراقي

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية