«غياب مكتمل الحضور»: مسرحيةٌ أم صناعة مسرح؟

عن مسرحية اسمها الحياة
لعليّ في هذه الإضاءة على عمل مسرحي لا أفعل ذلك بغرضِ التعريف به، بل أضيءُ فترة شخصية من حياتي، تعود لفترة التسعينيات، حيث شاعر عشريني الذي هو أنا، يجتمع حوله رفاقهُ الشيوعيون، وشاب جريء وأنيق يكبره بسنوات قليلة الذي هو صانع» غياب مكتمل الحضور، ينحدر من أسرة فيها أكثر من مسرحي، يتحدث عن المسرح بحبّ، بعيداً عن التنظير، لتتبع هذا صداقة وطيدة بيننا، شملت مرافقتي له في عمله «مشدوداً كوتر» رأياً وتدقيقاً. بعدَ سنوات من النزيف السوري الذي لم يتوقف بعد، جمعتنا الغربةُ، المنفى الألماني، ولم تكن أحلامنا هي أحلامُ أبناء العشرين، أو الثلاثين، بل ترقب الذين كبروا أكثر من اللازم، وصاروا ينظرون للحياة الفائتة أكثر من الذي سيأتي بما حملتهُ وستحمله من المفاجآت، التي لم تعد سارّة بقدر ما هي موجعة، ومضيعةٌ للأحلام والآمال.
معدُّ ومخرجُ «غياب مكتمل الحضور» المسرحي فراس الراشد الذي عنيته في التقديم، لم يكن ليصنعَ هذه الحالة السوداء بوقعها الصعب وتكسّر أحلامها، فيما لو لم يكن يشيرُ إلى حالهِ، إلى (الدياسبورا) التي عاشها السوريون، وهم يستهلكون المحطات والمطارات والغابات والأبحر، وينجون قليلاً، ويغرقون كثيراً في أنفسهم، قبل أن يغرقوا في المياه، هو لم يأخذ المحطةَ إلا مكاناً نموذجياً لتلكَ الوداعات، لتلك الانتظارات العقيمة. وبالتالي تعريفٌ أوليٌّ بالتشظيات، وما الحوار الذي خلقهُ الراشدُ بين اثنين إلا حوار بدا من طرف واحدٍ تجاه نفسهِ، ليؤكدَ الغيابَ الذي تبنتهُ المسرحية كعنونةٍ رئيسية وحمّال أوجه، والتشديدُ على كامل حضورهِ المنتظر، ليحيلَ ذلكَ بشكل أو آخر إلى الانتظارات المتّسمة بملحميتها من انتظار بينلوب هوميروس، مروراً بانتظار غودو لصموئيل بيكت، إلى» في انتظار البرابرة» لكويتزي، مع اختلاف الأمكنةِ والمعالجات وبيئاتِ الشخوص سواء على خشبةِ المسرح أو خشبة الحياة، ولو أمكن القول، هنا نحن أمام مرايا حيواتنا وليس أمام شخوص قليلة تظهر على خشبةٍ ما في مدينة أوروبية.
عن «غياب مكتمل الحضور» الأداء والرؤية:
ارتأى فراس الراشد كمشتغل على النص مولّفاً ومُعّداً، أن يُحمّلَه ذهنية مخاطبة النفس بما يشبهُ المونولوج، ولهذا سنسمعُ الشخصيتين وهما تبدآن بـ(هو وهي) وإذ تتقاسمانِ المقعد ذاتهُ في المحطةِ الموحشةِ، تبدوان متباعدين عن بعضهما جغرافياً، ومتقاربتان في الموضوع المتثمل في الغياب والحضور والأمل، ولربّما هذا هو ما عزّز السوداوية الطاغية، وفي الوقت نفسه كان يفتحُ باباً على الأمل طيلةَ الوقت الذي استغرقهُ العمل، كما لو هو اشتغال على المتضادات والمتناقضات بحوارات اتسمت بطولها، وقد يكون هذا الطول مناسباً لرؤية المخرج في إظهار كوامن أشخاصهِ أو كوامننا كمتلقين، وبالتالي الرهان على هذا الثابت قليل الحركة من حيث مساحةِ مكانِ العرض والمتحرك من حيث طول الحوار، على حسابِ حوارات قصيرة ورشيقة، كانت ستقطع سلسلة التلقي لدينا، بوصفنا متفرجين منفعلين ومتأثرين، ونحسب القضية المطروحة على الخشبة جزء من قضية الشتات التي نعيشها ونتحسسها يومياً كندوب روحية، لا يمكن التفلّت منها.

الشخصيتان بين الواقع والمحطةِ الممسرحة

شخصيتان توازّعتا مقعدا في محطة، كلاهما تنتظرُ قطاراً، قد يأتي وقد لا يأتي، لكنهما يجزمان: «هو سيأتي» ويكونُ الفصلُ لصفيره الذي ينذر بقدومه، ومن ثمّ بمغادرته، وبالتالي دخول آخر في نفقِ الانتظار، الممثل أنور السيد أدى دورهُ منطلقاً من شغفهِ بالمسرح، ويقول إنّه حقّق حلمه في الوقوف على الخشبة، ما جعل دورهُ مقنعاً إلى حدّ كبير، مُظهراً تفانياً للنص وما رسمه المخرجُ، أخرجَ_أي السيد من عثرةِ الهاوي ووضعه في خانةِ الخبرة، أمّا الممثلة لارا زنادي، أكدت في الحوار الذي تلا العرض، أنها لم تفكر يوماً بالوقوف في هذا المكان، إلا أنها في البدء جارت حلمَ زوجها ورغبتهُ في التمثيل، ومن ثمّ قرأت النص لترى نفسها جزءاً رئيسياً من حالة تخرجُ من التفكير مع النفس إلى التفكير بصوتٍ عالٍ، ليصل المتلقي إلى أنه أمام شخصية ذات تجربة ومقنعة، سواء بالحوار الذي أدارتهُ أو التعايش مع الدور الذي أدّتهُ، متساوقة مع الحالة النفسية والمحمّلة بالكثير من التعب الذي تقاسماه الزنادي والسيد مع شخصيات حقيقية في الواقع، بحيث كنا أمام أنموذج وليس حالة فردية.

صناعة مسرحية/ الكواليس والخفايا

«غياب مكتمل الحضور» مسرحية جاءت بعد سنوات من الاستراحة القسرية لمخرجها، لاسيما واغترابه مع نفسهِ الذي شاكلهُ مع الكثيرين، بحيث غياب اللغة، قبل غيابٍ مفترض لأحدٍ ابتلعتهُ المحطات.
فراس الراشد لم يفقد حبّه للمسرح، إنّما افتقدَ ما يصنعُ المسرحَ من نص وممثلين وخشبة للعرض، ويكفي القول إنهُ في اكتشاف لارا زنادي وأنور السيد واكتشافهما لمحبتهما لعمل ما، حدا بالكل من الحلم أو التأمل إلى الواقع، فالمسافات الطويلة بين المخرج وممثليه، أرخت بثقلها، وكذلكَ وجود مكانٍ للبروفات، وتمويل يغطي نفقات صناعة ديكور، أو مصاريف تنقل، كلها صنعت رأياً أجمعَ عليه الكثيرون: «إن العمل جيد، نسبة للظروف الذي صنع بها، والهنات التي ظهرت» ولو قدر للمخرج نفسهُ أن يتناول تجربتهُ في صناعة عمله «غياب مكتمل الحضور» لربما أمكنهُ من صناعة عمل آخر عن صناعة المسرح، ينفع أن يكون درساً ملهماً، يكفي أن الراشد حمل (الديكور)/ المقعد الخشبي الذي لم يكن بالإمكان تأمينه، من هانوفر (سكنه) إلى كولن حيث مكان العرض، بعد أن قطّعه، ليسهل حمله في سيارته، ومن ثمّ تحوله وفريقه إلى نجارين أعادوا صناعته من جديد، وبذلك صنعوا مسرحية موازية اسمها «صناعة مسرح»!
بدوره «غياب مكتمل الحضور» صنع ليلة دافئة في طقس بارد على خشبة» بيت كل العالم» وبالتعاون مع الديوان الشرقي الغربي في كولن.

شاعر وناقد سوري

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية