«سلالة العجاج»: سيرة البدو والمدن

«ذيب الليالي يا مشوِّح/ غابت عليك الشمس/ روِّح». بهذه المرثية الطاعنة في براري الروح والأمكنة تستدعي عاشقةٌ ذئبَها الأثير في سديم الغياب؛ لتجلِّلَ حزنها المغروز مثل وتد في ظهر الصحراء، وهو الاستدعاء المكلوم لصاحبِ «آلام ذئب الجنوب» الذي يقدّم نفسهُ كراعٍ لسيرة البدو في جنوب ما.
ثيمة الذئب التي يستهل بها محمد المطرود سرديَّة البدويِّ الذي انفرد عن سياقات القبيلة، وراح يؤثِّث فضاءاته المحاذية في هامش مرصود من الحرية، ومقام مُريب لجدلية المألوف والمُبتَكر، التي كان فيها السارد من بواكير ثمار الغواية الآسرة في (جنة) مملوكةٍ ومسيَّجة بالنار والحديد والدم، وما دخولهُ بهذه الجرأة إلا تعبير منطقي عن ابتلاء روحه بتلك الحمولة من الآلام والآثام، وكذلك معانقة روح الاختلاف في الكتابة.
لقد بقيت لحظة اكتشاف اللذة الأولى في حياته محرِّضاً له على اختراق الشهوة المقدّسة، ابتداءً من شرارة الاحتكاك بالذات، ومروراً بـ(عَيدون) التفاحة الأولى في شجرة الحب الطريد، وليس انتهاءً بفتيات النهر السابحات، حيث ثياب الساتان تلتصق بأجسادهن البضَّة، بينما يستسلم هو للسباحة في خياله على جناح الخطيئة المشتهاة.
ومنذ عتبة نصه الموسوم بـ»سلالة العَجاج/ وسم البدو وأنا، النهايات والساعة الإضافية» يقف القارئ على رؤوس أصابعه وهو يتحسس قلقه، ويحرث في مسارات مَهيبة تشكِّل فيها هذه الافتتاحية بؤرةَ المجاز الأوّلية التي تفضي إلى تشظِّياتها المتوقَّعة، وغير المتوقعة، في بيئةٍ تنطوي على أهلها برتابةٍ قُدِّرَ لها أن تكون مزمنة، لولا أنَّ صقوراً بين ظهرانيها تحاول خرق آفاقها واكتشاف مجاهيلها كلما سنحت الفرصة.

رواية أم سيرة؟

يفترضُ الساردُ/ الراوي وبشكل مسبق أنّ قارئه ربما يتساءل عن جنس هذا العمل الأدبي، إلا أنها رواية (مختلفة) يا محمد، مقترحٌ (جريء) خاصة أنّ هذا التصنيف يصدر عن قارئٍ متوجّسٍ من قلبه ومثقلٍ باحتمالاته، لكنني لن أدَّخر أحاسيسي، وأنا أُخضِع هذا النص لمجسّاتٍ (انطباعية خاصة) وأتقصَّى تضاريسَه المسحورة بمآلاتها، والمفتونة بلغتها، وهي تنسرب نحو مدلولاتها المكنونة في حُقَقِ العاج، ولهذا أجدني أخرجُ عن مسار الانطباع نحو العاطفة والشغف.
«سُلالة العَجاج» سردية روائية تمزج بين الواقعي والشعريِّ عبر مكاشفاتٍ تنحاز لبيئتها المكانية من حيث ارتكازاتها البنائية، لكنها تفتح مسارب مائية شفَّافة عبر أرضٍ بِكر وسفوحٍ بَوار، وتقدم للمتلقي إحالات جريئة إلى المسكوت عنه، والمرهون لواقعه الاجتماعي والسياسي، هذا الواقع الذي ظلَّ لعقودٍ طويلة ومريرة يخنق فيها الإنسانُ أحلامه، ويدفن دماملَه الروحية، حتى لحظة الانفجار الأخير، ولربما ما نقرأه هنا هو دأب صاحب السيرة على تقديم نصوص مفتوحة ومفتونة بدمج السرد بالشعر، أو العكس، ولعلّه ينجح كثيراً في الاثنين رغمَ لغةٍ مكثفة وغير مسرفة، تصل درجةَ الصنعة.

سلالة العجاج» حكاية الأرض الذهبية بكنوزها المنهوبة، السمراء بأبنائها الذين لم ينالوا منها سوى حصتهم من عجاجها، يتشارك فيها الكاتب دور البطولة مع الشخصية الرئيسة (هدَّار) هذه الشخصية التي اقترن اسمها بـ(ترف) تلك المرأة التي يكتظ فيها الدلال والجمال البدوي في أبهى تجلياته

من هم سلالة العجاج؟

«سلالة العجاج» حكاية الأرض الذهبية بكنوزها المنهوبة، السمراء بأبنائها الذين لم ينالوا منها سوى حصتهم من عجاجها، يتشارك فيها الكاتب دور البطولة مع الشخصية الرئيسة (هدَّار) هذه الشخصية التي اقترن اسمها بـ(ترف) تلك المرأة التي يكتظ فيها الدلال والجمال البدوي في أبهى تجلياته، وضمن (جادّات) تراجيدية تنتهي بالدم الحرام، لتُختتم بذلك حكاية العشق الممنوع في أرض العجاج، التي طالما قدَّمت أبناءها قرابين للحب والحرية، لتلامس روحَ هدّار مرثيةٌ أخرى بحجم هذا الفارس الشهم.
«عِمَت عين الحديد الما تَعطَّل من لمس جسمك»
بلغُة متجذِّرة بواقعها، عاليةٍ بشاعريتها ينجح المطرود في استفزاز الراكد من أرواحنا، ويحرِّض المكامن الدافئة للشجن المعتّق فينا، عبر تكثيف (نوستالجي) يمهِّد لذئاب الحنين مراتعَها الأثيرة، في بيئة يشكّل الذئب فيها أيقونة المديح الأولى، حيث يميل المطرود إلى كاريزما الذئب العزيز، ويرى فيه كائناً نبيلاً لا يُؤهَّل لفرط شجاعته، في الوقت الذي يأنف من الكلب المتملِّق الذي يمضي حياته في تبعيةٍ أبدية لمن يطعمه، ولعلّ هذه المفارقة التي أشار إليها الكاتب، كانت الحجر الذي أُلقي في المياه الراكدة، والمحراث الذي حرَّك الجمر من تحت الرماد في بقعة جغرافية ظلت لعقود أسيرةً لخوفها الطويل.
وبمناسبة الحديث عن الخوف؛ فإن المطرود طالما اجتهد في تَلمُّس مواضع الخوف في نفسه، وحاول التغلّب عليها من أجل ابتعاث ذئبه المنشود من سباته المفروض؛ ليصل إلى قناعة أكيدة، أنَّ الخوف ضرورة إنسانية صحيّة، وأنه يجب أن نتعلم متى نخاف ومتى نستبسل في الحياة، وحسب مارك توين فإن «الشجاعة هي إتقان الخوف وليس غياب الخوف».
يشتغل المؤلف في سرديته الروائية على تكنيك المساوقة، أو المزاوجة بين المرويِّ الشفاهيِّ، والسيرذاتي الذي يتماهى في كثير من مفاصله مع شخوص الحكاية بما تمثله من إفرازات طبيعية لبيئةٍ تحتفي بهويتها الاجتماعية الممتدة مكانياً من أذيال جبل سنجار إلى سفوح طوروس، إذ تشكِّل الحكايةُ المادَّة الأوليِّة التي يبني عليها الكاتب الصورة الحقيقية لواقعٍ يسير باطِّراد نحو مآلاته المأساوية في الحرب الأخيرة.
ينسلُّ المطرود من «عنقود المرارات» ليجد نفسه بعد رحلة محفوفة بالمخاطر على ضفاف (الراين) وتتمثَّل له صورة الخابور الفقير بمياهه، والبلاد التي غادرها بوديانها الجافة وأفاعيها وسَعاليها وحكايات جنِّيَّاتها، وهو الباحث دائماً عن الساعة الإضافية، الساعة الخامسة والعشرين خارج الوقت الأصلي من الحياة، ومن يدري، لعلها تكون ساعة السعادة، أو ربما ساعة الخلاص.. وكأنِّي به يستلهم بمخياله حوارية الحب القتيل بين (هَدَّار وتَرِف).
«تأخرتَ يا حاملَ سيف الماء/- كنتُ أُشيِّدُ عشَّ المعنى/لأرى تَطايُرَ عصافيركِ حول قصري
تأخرتَ يا لعادتْك تتأخَّر». ثم لا يبقى معه من البلاد التي يبطش اللون الكاكي بعينيها الجميلتين سوى الوشم الذي تركته والدته (عَبطة) على يده اليمنى.
بهذه الرواية أو لنقل السيرة المقاربة، أو لنقل النصّ الطويل للشجن، الصادر عن المؤسسة العربية في بيروت، يمنحنا أحد الناطقين باسم «سلالة العجاج» ساعةً تشبه «الساعة الخامسة والعشرين» لنبكي بصمت، ونتأمل كيف يمكنُ لسيرتين متباعدتين زمنياً أن يتوازيا، وأن تجعلنا نتيقن أننا داخل السيرتين لا خارجهما.

شاعر سوري

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية