«لهذا أخفينا الموتى»: محاكاة أمل دنقل في «لاتصالح»

« إنّهُ الموت تحت التعذيب، الذي يصبحُ مع الموت نفسه خلاصاً، لا يمكن نوالهُ، كما في جحيم الأديان السماوية التي لا يكاد فيها الجسد المدان يكمل احتراقه، حتى يستعيد حياته ليحترق ثانية إلى ما لانهاية». هذا المقتبس من مقال  برهان غليون أستاذ علم الاجتماع السياسي في السوربون الفرنسية، وهو مدخلٌ طيّب لي لأدخلَ غرفةَ الصدمةِ، وأمسك بعض الخيوط التي ستقربني من حالي الضعيفة، حالي الباكية وأنا أقرأُ ثَبتَاً فجائعياً عن مئاتِ الآلافِ من الضحايا، وأؤسس من جديد لعلاقةٍ صحيةٍ مع (النظام) ومع فهمي للتحوّل السوري بأسبابهِ ونتائجهِ، وإذ أقدّم نفسي واحداً غير سياسي، فلا يمكنني أن أعزلني من كوني لستُ مُعتقلاً بطريقة أو أخرى، وأني لا أشغلُ مكاناً في روايةِ الزهراوي» لهذا أخفينا الموتى» وحين أبالغُ في الأنا فلأني أفعل هذا أنموذجاً قد يتشابهُ فيه معي كثر لحد التطابق والتناسخ في درجة الألم وتلقيه، وقد أكونُ في النهاية باستجابتي لصرخةِ الراوي في شهادتهِ المافوق صرخة ومافوق وجع، فإني بذلك أحملُ عبئاً أخلاقياً عني وعنهم!
وائل الزهراوي المتخرّج في كلية الحقوق، يكتشف كذبة الحقوق والعدالة في بلدٍ، يُعلي من شأنِ الشعاراتِ والعصا، وهو نفسهُ الذي يجيدُ عدة لغاتٍ، يعرف عجزَ الحنجرة عن الصراخ، بحيث تصرخُ العين ومسامات الجسد، الذي لم يعد جسداً بمقدار ما هو بابٌ يفضي بالسياط إلى الأرواحِ المشبعةِ برغبةِ الخلاص، وعلى من يريد أن يقرأ هذا السِفر المعذّب، يتوجّب عليهِ أنْ يتحملّ مع الراوي/ المعتقل كل الموت، ويشاركهُ مساحتهُ الضيقة جداً في مكانٍ مكتّظ بالأنين والحلم والجثث، وعليهِ أيضاً أن يتشارك معه الخبز، إذ يتحاصصُ عشرونَ جائعاً أربعةَ أرغفةٍ بحجم كف!

« لا تصالح/ ولا تقتسم مع من قتلوك الطعام/ وارْوِ قلبك بالدم../ واروِ التراب المقدَّس../ واروِ أسلافَكَ الراقدين../إلى أن تردَّ عليك العظام!». مقاربةً مع هذهِ الـ»لا تصالح» لأمل دنقل، أقرأُ ما هو رواية تأخذُ بفنية الرواية، وأقرأُ ما يشبهُ سيرة قصيرة في مساحة زمنية وورقية لا تتجاوز المئة وستين صفحة، غير أنّها وشاية دامغة بتاريخٍ طويلٍ من العسفِ والهوان، الذي ترتكبهُ سلطةٌ تَدعي أنها «دولة» وفي بنيتها هي عصابةٌ من اللصوص وقطاع الطرق والساديين، وما التحوّل الذي أصابَ نفوس السوريين، ليقولوا: «لا» إلا محاولة للخلاصِ من العجزِ، والذهاب عن الحياةِ القليلة إلى حياةٍ أكثر، وكانَ من الطبيعي مقابلة هذا الحق بفوهةِ البندقية وعتمةِ المعتقل، وعندما يسردُ شاهدُ العيان الأكثر من شاهد وائل زهراوي، فإنّهُ لا يدعي الفروسيةَ والشجاعةَ، بل يصرخُ بكلّ قوتهِ من ألمٍ غادر جسدهُ، لكنهُ ماكثٌ في روحه وأرواح من شاركوهُ تلك الحفلاتِ المؤنسةِ للقتلةِ، وهم يتلذذون في تهشيم رأس طفل أو انتهاك عرض امرأة أو قتل ممنهج للحلم، ترى ما الجدوى في إنهاءِ مصيرِ رجلٍ خمسيني كانَ لديه حلم أن يشتري «بسكليت» وتفشل محاولاتهُ كثيراً ككل الآلهة التي تفشل، وينتهي بها الحالُ في الجحيم!
وائل الزهراوي في «لهذا أخفينا الموتى» يخفي الكثير، ليستطيعَ الحكي، يشتغل على جملتهِ المنتقاة بعناية، وعلى عناوينه الداخلية، كما لو هي أجزاءٌ من تلكَ المحنةَ، من ذلكَ الهوس الجهنمي للقاتل بالدمِ، والمتفنن بآلةِ العذابِ التي تكاد تتفوقُ على العقابِ الإلهي في موضوع الأديانِ. حينَ قال أمل دنقل» لا تصالح» كان يريدُ من ذلك واقعاً عربياً مجروحاً في ذاتهِ، ومنكسراً في سرديةِ عالم اليوم، وهو الحضاري كثيراً ولهُ مقومات أن يكونَ كائناً فاعلاً ومؤثراً، لا كائنا مسلوب الإرادةِ، ويسير وفق مصير لا يحدده بنفسه، إنّما يحددهُ غيرهُ، معنيّ بما يكسبهُ منهُ، لا بما يكسبهُ هو. غير أننا مع بشرٍ يخفون الموتى بأجسادهم في» لهذا أخفينا الموتى، ليحصلوا على قطعة خبز زائدة، تؤهلهم ليعيشوا لحظة أخرى، فإننا بهذا أمام مقولة يريد الروائي المعتقل قولها: «الحياةُ ممكنة» لكن في غيابِ منتهكيها، وإذا كان من تصالحٍ فليكن بعدالةٍ تقتّص منهم وفقَ الشريعةِ الأقرب لجنسِ فعلهم: «الدم بالدم» لعلّ في ذلك تهدأ أرواح الضحايا، ويخفتُ صوتُ الثأر في بقيةِ الأحياء الـ «ما زالو على قيد الموت!».

كاتب سوري

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول احمد العربي:

    رائع

إشترك في قائمتنا البريدية