غزّة… أسطورة العصر الحديث

الوعي النوعي الجديد الذي اكتسبه المقاومون الفلسطينيون عبر تجاربهم الشخصية الخاصة في مقاومة الاحتلال الصهيوني أعواماً طويلة، يتجاوز كل تقدير. لكأنهم كانوا يحاربون في السِّلْم كما يفعلون الآن في معمعة الحرب. ذلك يعني أن الحرب لا تحدث لحظة انبثاقها، وإنما هي سيرورة مستمرّة منذ اللحظة التي نبدأ نفكّر فيها. وهو ما يجعلنا نعتقد أن ما يحدث في غزّة من أساطير ليس وليد هذه اللحظات القاسية، وإنما هو تطوّر متواصل في مواجهة القهر والسَّلْب والاحتلال. لذا فإن الأسطورة الفلسطينية التي نعايشها، اليوم، تتجاوز مخيّلتنا نحن العرب القابعين في سكونية بلا حدود، عرب الخذلان والتطبيع. ليس غريباً، إذن، أن أبطال غزة صاروا يبدون لنا من طينة أخرى، طينة تشبّعت بالاعتداد والصمود وتقديس الحرية وضرورة الوصول إليها مهما كلَّفَهم الأمر.
الحرية لا ثمن لها، ولا يستحقها إلاّ من أرادها بكل طاقته، هذا ما يوحي به سلوك مقاومي غزة العنيد، حيث صار لفعلهم معنى آخر، لا نعرف له، من قبل، مثيلاً. هؤلاء الأبطال الذين يتصدّون، منذ أكثر من مئة يوم، للهجوم الاستعماري الغاشم، الذي لم يبقَ على سطح الأرض غيره، يدفعوننا إلى طرح أسئلة جديدة، لا نملك أجوبة ملائمة لها، الآن، نحن الذين تعودنا على التلاؤم والخضوع.
لنتوقّفْ، قليلاً، إذن، قبل أن نغرق في وَحْل الإنشاء السهل، الذي بدأ يطفح في سُهوب المقالات العربية المتكاثرة، وَلْنَرَ عظمة هذا «الفن الجديد» في المقاومة. شيء خطير يتَخلّق، الآن، أمامنا: انبثاق فجر باهر يشرق على العالم العربي الصَدئ، ومن غزة بالتحديد. فَجْرُ فعلٍ مقاوِم يعرف ما يريد، ويتمتّع بسلوك إنساني غاية في التماسك والبراعة. يقارع أعتى قوة استعمارية لا تزال تؤمن بإمكانية الاستحْواذ على الأرض بعد إبادة أهلها. لكأننا في أواخر القرن الخامس عشر الميلادي، ما زلنا.. وكأن العرب، اليوم، هم «هنود الشرق» الجاهزون للابتلاع. لكن، لا ذا صحيح، ولا ذاك. هذا ما يؤكده لنا: «إبداع المقاومة الفلسطينية» الذي يفضح هشاشة هذا الذيْل الاستعماريّ «الأعمى» في مواجهة أفراد مؤمنين بحقهم في الوجود والحرية، ويدافعون عن أرضهم. بل يفضح، أيضاً، هشاشة جيوش السلطات العربية التي حاولت، قَدْر إمكانها، أن تفعل ما لم يكن بإمكانها، تاريخياً، أن تفعله، لأسباب بات يعرفها الجميع.
لاحظوا: «صمت المقاومة» مقابل «ثرثرة الاحتلال». المقاومة تفكِّر وتخطّط وتفعل بصمت، لأن الفعل الصائب لا يحتاج إلى الكلمات. والاحتلال يثرثر ويدمّر. كلامه الاستعماري المتبجّح لا يكفي لإقناعه بجدوى ما يفعله، فيضيف إليه ثرثرة التدمير. هو يعتقد، لحماقته، أن التدمير حلّ، مع أنه ليس كذلك. أمّا المقاومة فتدرك أن أكبر الشرور هو أضألها شأناً. وأن التدمير هو شكل آخر من التعمير. وهي تؤمن، أيضاً، أن ما تفعله، الآن، أكثر عمقاً وشمولاً من نزعة الحرب الاستعمارية التي يمارسها الصهاينة مفتونين «بالتهديم». المقاومة هي إرادة الوصول إلى جوهر الوجود: الحرية والسلام. لكن الاستعمار أعمى، لا يرى ما تراه المقاومة. وقد كان، دائماً، أعمى. وهو سيظلّ يصر على عَماه، إلى أن يتجاوزه التاريخ، كما نعرف ذلك. لقد أثبت التاريخ أن وراء كل فعل مقاوم حدث جديد. حدث سيتحقق في ما بعد إن لم يتحقق الآن، وأن المقاومة تعني أن النهاية لم تكتب بعد، وأن كل ما هو غير ممكن يغدو بتأثيرها ممكناً.
المقاومة، اليوم، هي تذكير بالزمن العربي الرديء الذي مرّ من دون جدوى، ومحاولة خلق زمن عربي جديد يُنْهي الوعي العتيق الذي كان يسود في فضائه القديم: فضاء« الكائنات الخردة» ووَعْيها البسيط المطابق له.

كاتب سوري

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية