غزة شخصيّة العام… الحرب الإسرائيلية تعزّز الفرز في أوساط النخب السياسية والثقافية

وائل الحجار
حجم الخط
0

لندن ـ «القدس العربي»: كان عام 2023 استثنائياً، فيما حمله من أحداث أثّرت في العالم، وترك رجال ونساء بصماتهم على مجرياتها، وعلى حركة الشعوب، وحاضر، بل ومستقبل البشرية والأجيال المقبلة.

وفي كل عام، تختار وسائل إعلام مجموعة من هذه الشخصيات التي برزت، فأضافت وأثرت وأغنت، أو طرحت إشكاليات مهمّة للإنسانية، أو اختصرت في ذاتها الإشكالية.
وفي عالمنا العربي، لا يمكن فصل العام 2023 عن فلسطين، وعن الحرب المستمرة التي تشنّها إسرائيل على غزة، منذ الثامن من تشرين الأول/أكتوبر الماضي، وهي حرب تركت ندوباً عميقة في الوجدان الفلسطيني والعربي، لكنّها أيضاً، أفسحت المجال لقراءة جديدة لعالمنا اليوم، عالم انقلبت في القيم رأسا على عقب، وظهر أن ما يصحّ في مكان لا مكان له في أماكن، وما هو حقّ طبيعي للإنسان، لا يحقّ لإنسان آخر.
وزاد الاستقطاب بين الشمال والجنوب، استقطاب أعاد البشرية إلى عهود خلت، ظُنّ انها ولّت إلى غير رجعة، إلى عهد عجرفة وتكبّر المستعمر، الذي يتوقّع أن يطلب الأدنى منه رضى التصالح مع قيمه العالمية، فيما هو يطيح بهذه القيم في ازدواجية معايير أثارت اشمئزاز أحرار العالم في الغرب قبل الشرق، وفي الشمال كما الجنوب.
ولانّ غزة فيصلٌ اليوم، فشخصيات العام تستوحى منها، تلتحف بعلم فلسطين الذي كاد أن يُجرّم في القارة الأوروبية، وتستظلّ بإرادة الكفاح ضد الاحتلال والفصل العنصري وجبروت المستعمر.

رجال من غزّة

على ما شابها من إشكاليات، سوف تظل محور نقاش لأجيال مقبلة، شكّلت عملية «طوفان الأقصى» محطة مفصلية في تاريخ فلسطين.
فلم يعد من أي شك في أنّها كشفت فشلاً إسرائيلياً على مستويات عدة، استخباري وأمني وعسكري، وكذا سياسي، تُسأل عنه حكومة بنيامين نتنياهو التي داست على كل فرصة لتحقيق سلام الحدّ الأدنى، ودفعت بأكثر فصائل المقاومة الفلسطينية تجذّرا إلى شنّ عملية لا سابق لها في تاريخها.
وأحد مهندسي هذه العملية، المطلوب الأول اليوم لإسرائيل، يحيى السنوار.
فالسنوار، زعيم «حماس» في غزة، الذي تتهمه إسرائيل بالمسؤولية عن مقتل مئات من جنودها ومدنيّيها في السابع من تشرين الأول/أكتوبر الماضي، يعرفه الإسرائيليون جيدا.
هذا الرجل الذي يبلغ من العمر 61 عاما، قضى 24 سنة في معتقلات إسرائيل، واحتك بسجّانيها، وبمحققي أجهزتها الأمنية الذين يتوقع العديد منهم أن تفشل إسرائيل في أن تنال منه حيّا، ويستصعبون إمكانية اغتياله بسهولة لـ«ذكائه وصلابته وإقدامه».
ولا يخفى أن السنوار، يحظى بنفوذ كبير في حركة «حماس» بل إن صحيفة «الإيكونوميست» البريطانية وصفته بـ«صاحب النّفوذ الأكبر في الأراضي الفلسطينية».
وعلى نسق السنوار، محمد ضيف.
فضلا عن أنه قائد «كتائب عز الدين القسّام» الجناح العسكري لحماس، فإنه بنظر جنرالات إسرائيليين «رمز وأسطورة» ويكفي ذكر اسمه «ليحفّز ذلك المقاتلين».
من دون شكّ فإن التكتيكات العسكرية التي أظهرتها «كتائب القسّام» المصّنفة «إرهابية» اليوم في الاتحاد الأوروبي وبريطانيا والولايات المتحدة، سوف تظلّ محور نقاش في الأوساط العسكرية لسنوات طويلة.
فتنظيم «حماس» العسكري، لم يكتف بخوض حرب عصابات مدينية، بل كوّن قدرة ردع تزاوج بين التكتيكات التقليدية وحروب العصابات الشعبية، ببعد استخباراتي أمنيّ فعّال، كان لضيف بصماته الواضحة فيه.
الرجل الذي يلفّه الغموض، فلا تظهر صوره، ولا يعرف عن حياته أو حركته الشيء الكثير، ويُعرف في الإعلام الإسرائيلي بـ«الرجل الشبح» سبق أن اعتقلته إسرائيل، وحاولت اغتياله 7 مرات، وقتلت عائلته في إحدى المحاولات. إنه من دون شكّ عدو مرهوب الجانب.
ولإن كانت السياسة المقاتلة حرفة الأول، والقيادة العسكرية والقتال الضاري حياة الثاني، فإن الدعاية والإعلام من نصيب ملثّم أصبح خلال الأشهر القليلة الماضية من أشهر الشخصيات في العالم العربي.

أبو عبيدة

هو أيضا في مقدّمة قائمة الاغتيال الإسرائيلية، وهو المسؤول، حرفيّا، عن ميزان مزاج الإسرائيليين، بتنسيقه للحرب الدعائيّة والإعلاميّة والنفسيّة، وخصوصاً في كل ما يتعلّق بمصير المحتجزين لدى الحركة على أثر عملية 7 تشرين الأول/أكتوبر.
صاحب الكوفية الحمراء، الذي تظلّ هويته الحقيقية مثار جدال، والذي يبدو الناطق باسم الجيش الإسرائيلي أفيخاي أدرعي شخصية كاريكاتورية هزلية بالمقارنة معه، تولّى النطق باسم الحركة بشكل دائم منذ 7 تشرين الأول/أكتوبر، حتى ذاع صيته في العالم العربي، وأصبح اسمه يتردد في أفراح العرب وأتراحهم.

رجال العرب وفلسطين

وإذا كانت حركة حماس، شغلت العالم بشخصياتها وعملياتها وحربها، فإنّ معاناة الشعب الفلسطيني كانت لتكون أكبر لولا الدعم السياسي والدبلوماسي والإعلامي الذي قدّمته جهات عربية وفلسطينية ودولية.
فمنذ اللحظات الأولى لعملية «طوفان الأقصى» كان لدولة قطر موقفها المبدئي تجاه الاحتلال، ببيان لا لبس فيه، صدر عن وزارة خارجيتها، حمّلت فيه «إسرائيل وحدها مسؤولية التصعيد الجاري الآن بسبب انتهاكاتها المستمرة لحقوق الشعب الفلسطيني».
وقادت قطر منذها، بتوجيهات من أميرها الشيخ تميم بن حمد آل ثاني، مساعيَ مكثفة على مختلف الصعد.
المستوى الأول، هو الدفع باتجاه تبادل للأسرى بين «حماس» وإسرائيل، تكون نتيجته الإفراج عن آلاف المحتجزين الفلسطينيين في سجون الاحتلال، ولكن الأهم الوصول إلى حلول للحرب الدائرة تجنّب المدنيين مزيدا من القتل والتهجير على يد آلة الحرب الإسرائيلية المنفلتة من كلّ عقال.
ولعبت قطر على المستوى الإنساني دورا لا يقلّ أهميّة عن مساعيها الدبلوماسية، فما أن اتفق الرّأي على أن يكون مطار العريش المصري محطة لنقل المساعدات الإنسانية إلى غزة، حتى عملت القوات المسلّحة القطرية على تسيير جسر جوي نقلت فيه مئات الأطنان من المساعدات إلى القطاع المنكوب، في الوقت الذي كان فيه مئات الجرحى يصلون إلى العاصمة القطرية الدوحة لتلقي العلاج.
ومن الدوحة، كانت قناة «الجزيرة» تواكب دقيقة بدقيقة مجريات الحرب على غزة، ناقلة بالصوت والصورة المجازر التي ترتكب، فعرف العالم عبرها مبكّراً بمجزرة المستشفى المعمداني، واقتحام مستشفى الشفاء، وغيرها من العمليات الإسرائيلية التي كانت تستهدف المدنيين.
ولأنّ شاشة «الجزيرة» تنقل ما تقول المنظمات الدولية وفي مقدمتها الأمم المتحدة إنها ارتكابات ترقى إلى جرائم حرب، فكان لا بدّ من محاولة إسكات صوتها، ليدفع صحافيوها ومراسلوها ومصوّروها والعاملون فيها في غزة ثمناً باهظا من دمائهم ودماء أطفالهم وآبائهم وامهاتهم وعائلاتهم وأقاربهم.

مراسل ينعى عائلته

فشخصت العيون إلى وائل الدحدوح، مراسل «الجزيرة» في غزّة، تذرف هذه العيون دمعا، فيما الرجل يتماسك على الهواء ولا يبكي، ويحتسب زوجته آمنة وابنه محمود وابنته الطفلة شام، وتسعة آخرين من أفراد عائلته القريبة.
فشكّل وائل، برسائله، ولكن بشخصه أيضاً، رمزا للصحافة والصحافيين الفلسطينيين الذين قتلت قوات الاحتلال نحو مئة منهم حتى الآن، وكان لـ«الجزيرة» نصيبها الكبير، لأن المطلوب كان إسكات ووأد دورها الكبير، والمهنيّ، في فضح جرائم الاحتلال.

الأطقم الطبيّة الشاهدة

وثّق الشهود انتهاكات ومجازر الجيش الإسرائيلي في غزة، وكما هم الصحافيون، كانوا ولا يزالون على خطّ النار الأول، كذلك الأطباء والمسعفون والأطقم الطبية.
بهذا كان الجرّاح الدكتور غسان أبو ستة الذي ارتحل من بريطانيا إلى فلسطين، شاهدًا على مجزرة مستشفى المعمداني في قطاع غزة، التي راح ضحيتها نحو 500 شهيد.
ووسط جثامين شهداء المجزرة وقف أبو ستة في غزة يروي شهادته عن الصاروخ الذي تلاه انفجار هائل «أحدث دمارًا في غرفة العمليات» و«عندما توجهنا إلى غرفة الطوارئ بدأنا نرى جثثا وكانت هناك أعداد هائلة من الجرحى».
وأبو ستة أستاذ فلسطيني يحمل الجنسية البريطانية، متخصص في علم الجراحة حصل على تعليمه الطبي في جامعة غلاسكو في المملكة المتحدة، وتخصص لاحقًا في جراحة القحف والجمجمة للأطفال وجراحة الحنك. كان شاهدا على انتهاكات جيش الاحتلال في أكثر من حرب واجهتها غزة، كما عمل جرّاح حرب في اليمن، والعراق، وسوريا، والجنوب اللبناني.
وحسب وزارة الصحة في غزة، فاق عدد الشهداء من أفراد الأطقم الطبية حتى الأسبوع الأخير من العام 2023 الثلاثمئة وعشرة شهداء.

إلى المنابر الدوليّة

أخذت وزيرة الصّحة في الحكومة الفلسطينية مي الكيلة، ملف الاعتداءات على الأطقم الطبية في القطاع، وتوجّهت به إلى المحافل الدولية فطالبت بتحقيق دولي، ولا سيّما تحقيق بشأن معلومات عن دفن القوات الإسرائيلية، مواطنين أحياء في ساحة مستشفى كمال عدوان.
وفي حوار أجرته معها «القدس العربي» في شهر تشرين الأول/أكتوبر الماضي، عبّرت الكيلة بألم عن كيف أن وزارة الصحة الفلسطينية أعلنت «عن انهيار المنظومة الصحية، وهو إعلان لا إنساني، لم أرغب بتاتاً أن أقوم بقراءته، هذا أمر يمسّني شخصياً، يمسّ مهنتي وإنسانيتي».
ومي الكيلة، ابنة بيرزيت، والطبيبة، والدبلوماسية والسياسية فلسطينية، لديها مسيرة علمية ونضالية ممتدّة، وكانت منحت عام 2017 وسامًا ذهبيًا من أكاديمية نورمان بالتعاون مع القوات الجوية الإيطالية لنشاطها ودفاعها عن حقوق الإنسان الفلسطيني، وفي 2022، منحها الرئيس الإيطالي سيرجيو ماتاريلا وسام نجمة إيطاليا الكبرى تقديرًا لجهودها الكبيرة في تعزيز العلاقات الإيطالية الفلسطينية.

نضال سياسي

لم يترك الفلسطينيون، مهما كانت مناصبهم، أو مهنهم، أو الحقول التي يعملون فيها، شعب غزّة وحيدا من دون صوت.
مثّلوه، نقلوا معاناته، وعكسوا صورة لما يجري حقيقة في القطاع.
هذا كان نهج الدبلوماسية الفلسطينية، ومسار دبلوماسيين فلسطينيّين عملوا بجدّ لكي يتحمل المجتمع الدولي مسؤولياته، وسعوا إلى تفنيد الرواية الإسرائيلية من على المنابر الدولية، وفي وسائل الإعلام العالمية التي أظهر قسم كبير منها انحيازه التام للرواية الإسرائيلية.
«أكرر.. 3 آلاف طفل.. أطفال أبرياء مثل الملائكة قتلوا في غزة خلال الأسابيع الثلاثة الماضية» كلمات لسفير فلسطين في الأمم المتحدة رياض منصور ألقاها في خطاب أمام جلسة طارئة للجمعية العامة، وكرّرها في كل مناسبة، وواجه فيها محاولا جلعاد إردان، مندوب إسرائيل، شيطنة كل الفلسطينيين في غزة.
منصور، الدبلوماسي الفلسطيني الشّجاع والمحنّك، لم يتمالك نفسه من البكاء في أحد خطاباته وهو يروي كيف «أن أحياء بأكملها دُمرت وعائلات أبيدت في قطاع غزة» ولم يكلّ من مناشدة الدول المعنيّة «أوقفوا القصف على غزة، وأنقذوا أرواح الأطفال والمدنيين».
ورياض منصور، يشغل منصبه في الأمم المتحدة منذ عام 2005 وهو خريج الجامعات الأمريكية، في عهده انتقلت وضعية فلسطين في المنظمة الدولية من «كيان» إلى «دولة مراقبة غير عضو» عام 2012.

في وجه صفاقة الإعلام الغربي

لا يمكن فصل حرب غزة عام 2023 عن الإعلام الذي كان له دور كبير في تسويق الروايات. فأمّا الرواية الفلسطينية، فأحد رموزها في الإعلام الغربي السفير الفلسطيني في لندن حسام زملط.
واجه زملط، وعبر وسائل الإعلام الغربيّة الكبيرة واسعة الانتشار الرواية الإسرائيلية وفنّدها، وقاوم كل المحاولات التي كان خلالها إعلاميون غربيون يسعون لوضع الفلسطيني على كرسي الاتهام والمحاكمة، فقلب المشهد.
هكذا رفض زملط، الإجابة على سؤال مذيع قناة هيئة الإذاعة البريطانية «بي بي سي» عما إذا كان يدين ما قامت به «حماس» في عملية «طوفان الأقصى» فردّ السؤال إلى السائل، واعتبره «سؤالا خاطئاً» و«ليس جوهر القضية» مستنكراً مساواة الإعلام الغربي بين الجلّاد والضحيّة، وبين الاحتلال الإسرائيلي وضحاياه الفلسطينيين.
تكرر الأمر على قناة «سي إن إن» الأمريكية عندما سألته الصحافية كريستيان أمانبور هل يدين عملية «طوفان الأقصى» فاستنكر «تعامي المجتمع الدولي والإعلام الغربي عن مجازر إسرائيل وجرائم الحرب التي ارتكبتها» ودعا إلى «تطبيق القانون الدولي ومحاسبة الاحتلال على جرائمه في حق الفلسطينيين».
ونذر زملط نفسه في حرب غزّة، لفضح ازدواجية معايير الإعلام الغربي، وافتقاره للمهنيّة في كثير من الأحيان.
وزملط، الحائز على دكتوراه في الاقتصاد السياسي الدولي من جامعة لندن عام 2007 لديه سجلّ حافل في مواجهة الرواية الإسرائيلية والغربية لما يجري في فلسطين، وقد سبق وطرد من الولايات المتحدة وألغيت إقامته في عام 2018 بعدما استنكر قرار الإدارة الأمريكية إغلاق مكتب البعثة الفلسطينية في واشنطن.
كما أنه هدف دائم للاتهامات الإسرائيلية بسبب مواقفه التي يدافع فيها عن المقاومة الفلسطينية ويرفض إدانة عملياتها.

العالم ليس «وحيد قرن»

ومع أنّ الحرب الإسرائيلية على غزة، والمجازر المهولة التي ارتكبت، وأعداد الشهداء والجرحى فاقت كلّ خيال، والدمار الذي أصاب المدن والمخيمات والبلدات والقرى الفلسطينية لا سابق له، مع أن كلّ ذلك لم يحل دون استمرار قادة دول غربية، في القارتين الأوروبية والأمريكية، من الاستمرار في دعم إسرائيل و«حقّها في الدفاع عن نفسها» ورفض وقف إطلاق النار في مناسبات عدة، إلّا أن العالم لم يعد يختصر بهذه الدول والحكومات.
فشعوب العالم هبّت في حملات تضامن كبيرة دفاعا عن الفلسطينيين ومواجهة لما قالوا إنها «حرب إبادة» يتعرض لها الفلسطينيون في قطاع غزة.
وشهدت عواصم العالم ومدنها، من واشنطن إلى لندن وباريس وبروكسل وبرلين وغيرها تظاهرات ضخمة، عبّر فيها المشاركون عن تضامنهم الكامل مع حقوق الفلسطينيين في الاستقلال وتقرير المصير ورفض الاحتلال وجرائمه.
وكذلك فعل قادة ومسؤولون في العالم، في مقدمتهم أمين عام الأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش الذي تعرّض إلى حملة إسرائيلية شعواء ردّا على مواقفه المندّدة بالجرائم الإسرائيلية في غزة.
«لن أستسلم برغم فشل مجلس الأمن» هكذا عبّر الأمين العام الذي حافظ على شرف المنظمة الدولية في حرب بشعة تخاض في غزة، عن موقفه إزاء الفشل المتكرر لمجلس الأمن في التوصل إلى وقف إطلاق نار إنساني في القطاع بسبب الفيتو الأمريكي المتكرر.
إن مجلس الأمن «مشلول بسبب الانقسامات الجيوستراتيجية» وإنّ المؤسسات العالمية «ضعيفة وعفا عليها الزمن، ولمّا تزل عالقة في فترة زمنية مضى عليها 80 عاما» كلام لغوتيريش لم يسبق لأيّ أمين عام في تاريخ المنظمة الدولية أن قال مثله منذ تأسيسها.
ولم يكتف غوتيريش بالتصريح، بل لجأ إلى استخدام المادة 99 من ميثاق الأمم المتحدة، ليفرض على مجلس الأمن أن يجتمع ويناقش وقفا للنار «من أجل تجنب وقوع كارثة إنسانية».
غوتيريش، رئيس الوزراء البرتغالي الأسبق، الذي كرّس حياته لـ«ضمان الكرامة الإنسانية للجميع» حسب ما تورد سيرته الذاتية على موقع الأمم المتحدة، لم يترك فرصة إلا وفضح فيها الانتهاكات الإسرائيلية في الحرب على غزة، من إعاقتها إيصال المساعدات، إلى التجويع، وصولا إلى قتال العاملين في الأمم المتحدة الذين فاق عددهم 136 في الأسبوع الأخير من شهر كانون الأول/ديسمبر.
وكان الرّد الإسرائيلي على أمين عام الأمم المتحدة المطالبة باستقالته واتهامه بـ«الانحراف الأخلاقي» في صورة تعكس انهيار المنظومة الأخلاقية لآلَتَي السياسة والحرب الإسرائيليتين المتّحدتين في اعتماد مفهوم الجريمة كوسيلة حرب وحيدة.
خلال هذه الحرب، لم يكن موقف غوتيريش هو الوحيد المبدئي، والمتمسك بالقانون الدولي، والرافض لجرائم الحرب تحت عنوان «حق الدفاع عن النفس».

أوروبيون أحرار

شخصيات دولية عديدة، كان لها صوت قويّ في حمأة هذا المشهد المأساوي، فرئيس الوزراء الإسباني بيدرو سانشيز قاد مساعيَ حثيثة مع عدد من زعماء الدول الأوروبية من بينهم إيرلندا وبلجيكا ومالطا من أجل حضّ زعماء الاتحاد الأوروبي على تبني موقف واضح من ضرورة وقف إطلاق نار.
ولم تتكلّل هذه الجهود في ظل رفض دول أوروبية في مقدمتها ألمانيا وفرنسا وإيطاليا وهنغاريا تبني مثل هذه الدعوة.
كما أن رئيس الوزراء الإيرلندي ليو فارادكار، كان له موقف صريح باعتبار الاتحاد الأوروبي فقد مصداقيته بسبب موقفه من غزة، متهما إسرائيل بممارسة عقاب جماعي بحق الفلسطينيين.
وبدا أن هذا التكتل من الدول الأوروبية يحظى بتأييد شعبي بين الشباب الأوروبيين، وهو أمر قد تكون له انعكاساته على مآلات الحياة السياسية في أوروبا التي تشهد تصاعدا في شعبية أحزاب اليمين المتطرف والإسلاموفوبيا والعداء للمهاجرين.
وفضلا عن هاذين الزعيمين الأوروبيين، برزت مواقف لشخصيات مهمة في المشهد السياسي الأوروبي، فرئيس الوزراء الإسكتلندي حمزة يوسف اختلف مع موقف الحكومة البريطانية بدعوته إلى وقف النار في غزة وتأمين ممرات إنسانية آمنة، فيما كان والدا زوجته محاصرَين في غزة لأسابيع قبل أن يخرجا.
وكذلك عبّرت ليلى موران، مسؤولة العلاقات الخارجية في حزب الديمقراطيين الأحرار البريطاني، عن موقف متميز عن حزب المحافظين الحاكم وحزب العمال البريطانيين المعارض، بالدعوة لوقف النار فورا.
وفي إسبانيا، لم تنفكّ وزيرة الحقوق الاجتماعية الإسبانية إيوني بيلارا من اعتبار ما تقوم به إسرائيل في قطاع غزة من أفعال «جريمة حرب وإبادة جماعية مبرمجة».
وكررت بيلارا مواقفها بعد خروجها من الحكومة.

الجنوب مع فلسطين

أمّا دولة جنوب أفريقيا، التي يقودها «المؤتمر الوطني الأفريقي» أحد أبرز حلفاء «منظمة التحرير الفلسطينية» خلال النضال ضدّ نظامَي الفصل العنصري والاحتلال في البلدين، فلم يشذّ عن مواقفه التاريخية.
وهكذا ظهر سيريل رامافوزا، الرئيس جنوب الأفريقي، وهو يرتدي الكوفيّة الفلسطينية ليقول إن «السبيل الرئيسي لمعالجة الصراع الفلسطيني الإسرائيلي هو تنفيذ حل الدولتين وإقامة دولة فلسطينية مستقلة».
ومثله نحا الرئيس البرازيلي لولا دا سيلفا الذي وصف الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة بالإبادة الجماعية.
وقال دا سيلفا إن «الأمر لا يتعلق بالمجادلة حول من كان على حق ومن كان على باطل أو من أطلق النار أولا، ومن أطلقه لاحقا» ولكن «المشكلة هذه ليست حربا، هذه إبادة جماعية».
والرئيسان جنوب الأفريقي والبرازيلي يتشاركان عضوية منظمة «بريكس» التي عقدت قمتها في آب/أغسطس 2023 في مدينة جوهانسبورغ، وسط دعوات إلى تكتل يضم دول الجنوب في مواجهة السياسات غير العادلة التي تنتهجها دول شمال الكوكب في قضايا عديدة، كالسياسة الخارجية والصراعات الإقليمية والمناخ والبيئة.
ومن دون شك، فإن حرب غزّة أضافت قضية جديدة إلى سلّة خلافات بين دول الجنوب والشمال، فضلا عن أنها حرّكت النقاش داخل الغرب نفسه بشأن صوابية مواقف الحكومات في ما يتعلق بالسياسة الخارجية لا سيما تجاه الجنوب.

منظمات ضد إسرائيل

وفضلا عن الشخصيات التي برز اسمها في حرب غزة، كان لمنظمات حقوقية دولية مواقف مميزة في فضح جرائم الحرب التي قالت إنّ الجيش الإسرائيلي مسؤول بشكل كبير عنها، وهو ما فعلته «منظمة العفو الدولية» التي أثارت مواقف رئيستها أنياس كالامار حفيظة الإسرائيليين، فشنّوا حملة شخصية عليها، وكذلك منظمة «هيومن رايتس ووتش» التي كان لها موقف من بعض كبريات الشركات الناشطة في وسائل التواصل الاجتماعي، فاتهمت بعض هذه الشركات كشركة «ميتا» بالعمل على إسكات صوت الفلسطينيين.

يهود ضد الاحتلال

ولم تكن الأصوات اليهودية خارج إطار التضامن مع الفلسطينيين، بل إنها تعرضت كسواها إلى حملة تنكيل من المدافعين المتعصّبين عن إسرائيل في الغرب.
هكذا سحبت دار النشر الفرنسية «فايارد» أحد أهم الكتب التي تتناول تاريخ الإبادة الجماعية ضد الشعب الفلسطيني وهو كتاب «التطهير العرقي لفلسطين» للمؤرخ الإسرائيلي إيلان بابي.
وسحبت مؤسسة «هاينريش بول» وحكومة بريمن الألمانية، جائزة «حنا أرندت للفكر السياسي» التي كان من المقرر منحها للكاتبة الصحافية الروسية الأمريكية من أصول يهودية ماشا غيسين، بسبب مقال نشرته في مجلة «نيويوركر» الأمريكية، انتقدت فيه مواقف الحكومة الألمانية تجاه غزة، وشبّهت الوضع في غزة بالغيتوات اليهودية في حقبة النازيين.
وكان لليهود التقدميين والليبراليين مواقف عبّروا عنها تضامنا مع الشعب الفلسطيني في مدن أوروبية، وفي العاصمة الأمريكية واشنطن حيث توجّه نشطاء منهم أكثر من مرة للاعتصام ورفع الصوت داخل مبنى الكونغرس الأمريكي.

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية