عيدٌ… بأيَّ قصيدٍ عُدتَ يا عيدُ

حجم الخط
0

حلّ قبل أيام عيد الفطر متزامنا مع ما يجري في غزة من إبادة ستبقى وصمة عار في جبين البشرية، وبقعة سوداء لا تغسلها دعاوى حقوق الإنسان والقوانين ومحاكم العدل. وكانت الأعياد ولا تزال مرتبطة بالتهنئة وتمنّي الأفضل، فأصبحت التّهاني في العقود الأخيرة أقرب إلى التعازي تكثر فيها الشكوى الخاصة والعامة. وأوضح ما يتجلّى هذا التغيّر في الشعر، فلو تتبعنا الشعر العربي من خلال نماذج يصلح تعميمها، لظهر لنا هذا التحول جليّا. إذ كانت مناسبة العيد فرصة للشعراء لتهنئة ولاة الأمر، حبّا فيهم أو طمعا في عطاياهم، ولا مشكلة في المبالغة حينذاك أليس أعذب الشعر أكذبه؟ فهذا ابن الرومي يرى وجه ممدوحه عيدا ثانيا فيقول:
لِلنَّاسِ عِيدٌ وَلِي عِيدَان فِي الْعِيدِ /// إِذَا رَأَيْتُكَ يَا بْن السَّادَةِ الصِّيدِ
إِذَا همُ عَيَّدُوا عِيدَيْنِ فِي سَنَةٍ /// كَانَتْ بِوَجْهِكَ لِي أيَّامُ تعييدِي
فتُعجب الفكرة أبا إسحاق الصابي فلا يكتفي بأن تكون رؤية الممدوح عيدا ثانيا، بل تصبح العيد الوحيد:
رأى العيدُ وجهَك عيدا له /// وإن كان زاد عليه جمالا
وكبّرَ حين رآكَ الهلالُ /// كفعلِكَ حين رأيتَ الهِلالا
وكان الشاعر إجمالا يتّخذ التهنئة بالعيد مناسبة ليضمّن قصيدته ما شاء مدحا أو طلبا أو وصفا، فابن معتوق يجعل من التهنئة بالعيد غرضا يهاجم به مناوئي ممدوحه حين يقول:
ليهنكَ بعدَ صومكَ عيدُ فطرٍ /// يريكَ بقلبِ حاسدكَ انفطارا
وكذلك كان يفعل المتنبي مع سيف الدولة، ويستظهر الكثيرون قصيدته التي منها البيت المشهور:
إذا أنت أكرمت الكريم ملكته /// وإن أنت أكرمت اللئيم تمرّدا
فهي لم تكن سوى تهنئة تقليدية بالعيد استهلها ب،«هنيئا لك العيد الذي أنت عيده» ولم تكن قصيدته الوحيدة في العيد، بل لها أخوات. كما لم تكن التهاني الشعرية بالعيد كلها موجهة إلى الحاكم بل نجد عدة قصائد للشريف الرضي يهنئ فيها والده نكتفي منها بقوله:
هنيئا لك العيدُ الجديدُ فإنّه /// بيُمنِك وضّاحُ الجبينِ جميلُ
ولا زالتِ الأعيادُ هطلى رخيّةً /// يحيّيكَ منها زائرٌ ونَزيلُ
وظل العيد عند الشعراء مجالا للتهنئة حتى بداية عصر النهضة، فأحمد شوقي مثلا في الفترة التي كان مرتبطا فيها بقصر الخديوي، لم يخرج عن هذا النسق بحيث لم يكن شعره سوى تقليد للشعراء العباسيين، أسلوبا ومضمونا، ويمكننا أن ننسب قصيدته في تهنئة الخديوي بالعيد إلى أي شاعر مملوكي دون أن نستشعر الغرابة، وفيها يقول:
مَولايَ عيدُ الفطرِ صُبحُ سُعودِه /// في مصرَ أسْفَرَ عن سنا بُشراكا
أيامكَ الغرُّ السعيدةُ كلها /// عيدٌ فعيدُ العالمين بَقاكا
لكنّ قصيدة واحدة خرجت عن المألوف وأحدثت انقلابا في قصائد العيد إن صحت التسمية، فالمتنبي نفسه، الذي كان يتبع آثار من سبقوه في تهنئة ممدوحيه بالعيد، نظم قصيدة أصبحت من أشهر قصائده من جهة، وعارضها عدد كبير من الشعراء لو جمع ما كتبوا لشكّلت ديوانا كبيرا من جهة ثانية، كما أصبح مطلعها مثَلا يدور على الألسنة في الأعياد، فمن لم يردد يوما:
عيدٌ بأيّة حالٍ عدتَ يا عيدُ /// بما مضى أم لأمرٍ فيك تجديدُ
وقد أولع الشعراء المعاصرون بمعارضتها، يشتكون من العيد كلٌّ على طريقته فهذا الشاعر محمود مفلح يقول:
(عيد بأيةِ حال عدتَ يا عيد) /// وكلُّ دربٍ إلى الأحبابِ مسدودُ
اذهب إلى غيرنا فالناسُ في رغد /// وليس عندَهُمُ قتلٌ وتشريدُ
وقبل أيام نشر الشاعر الفلسطيني جواد يونس أبو هليل معارضته لها على وسائل التواصل الاجتماعي جاء فيها:
(عيدٌ بأسوأ حالٍ عدتَ يا عيدُ) /// فليس فيكَ سوى للحزنِ تجديدُ
أحبابُنا كلُّهم ما بينَ من رحلوا /// عنّا ومن حجزَتنا عنهمُ البيدُ
وإذا كان المتنبي عبّر بإحساسه بالعيد عن همّ فردي وهو يهرب ليلتها من تضييق كافور الإخشيدي عليه، فقد نقل الشعراء المعاصرون هذه الصيغة الخاصة بالمتنبي إلى الهمّ الجمعي وأصبحت قصائدهم وعاء للموقف السلبي من العيد يضع فيه كل شاعر حمولته العاطفية فيقول إبراهيم عواودة:
العيدُ جاء لكن ما به عيدُ /// وما به لسقيمِ الحالِ تَجديدُ
هرجٌ ومرجٌ وأحلامٌ محطّمةٌ /// دوّامةٌ فتنةٌ ذبحٌ وتشريدُ
بل لم يجد الشاعر العراقي نوري الوائلي في قصيدته «العيد في زمن الكورونا» سوى دالية المتنبي يتّكئ عليها ليصف العيد الذي يقوم على لقاء الأهل والاجتماع في فترة الوباء، فسلبته كورونا أهم ميزة له، فيلخّص الوائلي ذلك شعرا:
العيدُ آتٍ وعند الناسِ جَائحة /// فيها الوباءُ بحبلِ الموتِ مَعْقودُ
العيدُ يأتي فلا خلٌّ يُعانقهمْ /// ولا ذراعٌ منَ الأحْبابِ ممْدودُ
وتكاد تكون معارضة عائض القرني لقصيدة المتنبي القصيدةَ الوحيدة التي حملت نبرة مستبشرة تفاؤلية فرِحة بالعيد تماشيا مع روح كتابه الشهير «لا تحزن» فقد نقلها من التشاؤم والشكوى والتذمر إلى التفاؤل والفرح داعيا إلى الاستبشار بالعيد فقال:
عيدٌ على خيرِ حالٍ عدتَ يا عيدُ /// فنحنُ في مسمعِ الدّنيا أناشيدُ
الطّيرُ غنّى ومالَ الغصنُ مُنتشِياً /// والنّهرُ صفّقَ والوادي زغاريدُ
فودِّعِ الهمَّ فالدّنيا مُوَلِّيَةٌ /// وبشِّرِ النّفسَ فالبُشرى مواعيدُ
لكن هذه النظرة الوردية إلى العيد كانت استثناء في الشعر العربي الحديث، إذ يندر أن نجد قصيدة معاصرة تستبطن معاني الفرح والغبطة بالعيد، بل هناك من يرى أن السرور بالعيد يصلح فقط لمن كان خالي الذهن، وإلا فالأصل الحزن والكآبة، كما ذهب إلى ذلك الشاعر محسن رشيد في أبياته:
يُسرُّ بهذا العيدِ من كان خالِيا /// وأنّى سرورٌ والجراحُ كما هيا
أيا عيدُ لم أفرحْ بلقياكَ مرّةً /// كأنّك تأتي كي تزيدَ بلائيا
ويمكننا أن نعدّ قمة المأساة الفردية التي يستذكرها الإنسان في العيد ما حدث للمعتمد بن عباد بعد زوال ملكه في إشبيلية وسَجنه في «أغمات» في المغرب لتصبح بناته الأميرات وزوجته خادمات، فيُجري مقارنة بين أعياده وهو أمير وبينها وهو أسير فيقول متوجعا:
فيما مَضى كُنتَ بِالأَعيادِ مَسرورا /// فَساءَكَ العيدُ في أَغماتَ مَأسورا
تَرى بَناتكَ في الأَطمارِ جائِعَةً /// يَغزِلنَ لِلناسِ ما يَملِكنَ قَطميرا
مَن باتَ بَعدَكَ في مُلكٍ يُسرُّ بِهِ /// فَإِنَّما باتَ بِالأَحلامِ مَغرورا
وهذا الشعور بالمفارقة بين معاني العيد التي تحمل الفرح ونفسية الشعراء، التي يسكنها الحزن تصبح قضية وجودية يبحثون فيها عمّا لا يجدونه، كما كتب الحساني حسن عبد الله: «الليلة عيد/وعيوني في الأفق الممدود/تتمشى في خطو مكدود/باحثة ترونو في سأم/ ترنو وتعود/شيء مفقود/لا أتبينه لا أبعاد له مفقود» وهو ما تكرر بأسلوب آخر أيضا عند الشاعر عبد الرزاق الربيعي «ها هو العيد يمضي سريعا لمثواه بين الفصول/ونحن نعود لأيامنا مهطعين/ نجرجر آلامنا/ويعود لبيت النهار الكسيح دخان الخمول». غير أن نكبة فلسطين هذا الجرح الدامي منذ أزيد من ثلاثة أرباع القرن جعل الشعراء يستذكرونها في كل محطة فرح، فلا يزال كثير من الأطفال يحفظون أبياتا من قصيدة فدوى طوقان «لاجئة في العيد» التي كانت مقررة في كثير من المدارس:
أختاه هذا العيدُ عيدُ المترفينَ الهانئينْ
عيدُ الألى بقصورهِمْ وبروجهِم متنعمينْ
أختاه لا تبكي فهذا العيدُ عيدُ الميّتينْ
وبعد سنوات طويلة من قصيدة فدوى تكتب شاعرة فلسطينية أخرى عن العيد بعيون راهنة فنجد أن الوضع ساء أكثر ومأساة الأطفال في عيدهم أكبر، تقول نجاة بشارة:
تنتابُنا في العيدِ فكرةُ فرحةٍ /// فتموتُ ما بين الخيالِ كوهمِ
صوتُ القنابلِ والدّخانِ حياتُنا /// هي غارةٌ بِرَدى الرصاصِ اليومي
وأرجو أن لا نقرأ بعد عقود أخرى من لا يجد ما يكتبه في العيد سوى عدّ خساراتنا وتسجيل خيباتنا في يوم المفروض فيه أن تلوّنه البهجة، ولا شيء يعلو فيه غير ضحكة الأطفال وصخبهم. فلا نبقى نردد بعد أكثر من ألف سنة على وفاة المتنبي «عيد بأية حال عدت يا عيد».

شاعرة وإعلامية من البحرين

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية