سوسيولوجيا التفاؤل… يوميات آصف بيات في المدينة العربية

بعيد عام 2000، وفي ظل السياسات النيوليبرالية التي تبناها عدد من الدول العربية، بدا أن هناك رأيا يعتقد أن زمن الجماهير قد ولى، وأن الزمن المقبل هو زمن الاقتصاد والعقلانية والتدين البروتستانتي، ولا مكان فيه للفقراء أو محدودي المعرفة. وبناء على ذلك، أخذ قسم كبير من السوسيولوجيين والأنثروبولوجيين يركزون في تتبعهم لأحوال المدينة العربية على تأثيرات السياسات النيوليبرالية على المكان والأذواق، وإعادة تشكيل الحيز الحضري، وحتى على صعيد العلاقة بالتقليد.
في موازاة هذه المدرسة، بدا وقتها أن السوسيولوجي الإيراني آصف بيات، يخطو في اتجاه آخر لهذا التوجه العام. فقد أخذ في مقالاته وأبحاثه يتحدث عن وجود حراك غير مرئي، يقوده مئات الآلاف من أبناء الطبقات الوسطى والفقيرة داخل المدينة العربية. وقد عبر هذا التصور عن نفسه من خلال كتابه الشهير «الحياة سياسة: كيف يغير الناس العاديون الشرق الأوسط». وفي هذا الكتاب أخذ بيات يعرفنا بمصطلح (الناس العاديون) الذي غدا بديلا عن مصطلح الجماهير والطبقات الكادحة. ومع الناس العاديين، وهو مصطلح ولد بعيد السبعينيات في أروقة مدرسة الحركات الاجتماعية الجديدة، أخذنا نتعرف على حياة ملايين المهمشين الحضريين، خاصة فقراء الحضر والشباب، الذين لم يقبلوا بتهميشهم في ظل الفساد والنيوليبرالية العربية، وإنما حاولوا مقاومة هذا الواقع، ولكن بأسلوب وصفه بـ»الانتهاك الهادئ لكل ما هو معتاد». ومن خلال هذه الطرح، فإن مواضيع مثل تصفيف الشعر، وسراويل الجينز الزرقاء، والتسكع في الأماكن، والطعام ، والبحث عن المرح ، لم تعد مواضيع تعكس تأثرا بثقافة الاستهلاك والعولمة، بل باتت مؤشرا على رغبة أحيانا بتغيير الواقع، بأسلوب إصلاحي. ومع بيات، اصبحنا نرى تحالفا غير متفق عليه ، يقوده آلاف المهمشين لحماية حياتهم ووجودهم في الفضاء العام. من هنا سيبدو بائعو الشوارع، ليسوا أناسا فوضويين، يعيشون في السوق السوداء، وإنما باتوا بمثابة شبكات تتحالف في ما بينها لمحاولة الالتفاف على القوانين والسيطرة على زوايا بديلة، وبذلك فهم لا يصطدمون بالدولة مباشرة، ولا يشكلون تحالفات سياسية (كما في مثال تحالفات العمال والفلاحين).
في تلك الاثناء ، بدا كلام بيات وكأنه يؤسس لسوسيولوجيا التفاؤل في المدينة العربية والشرق الأوسط عموما، وهي سوسيولوجية تروي حكاية أخرى عن المدينة والناس المهمشين، الذين لم يقبلوا بأوضاعهم، إنما حاولوا التغيير. وبعد سنوات من هذه القراءة والتتبع لحياة الناس العاديين، إذا بهؤلاء الأشخاص يسيطرون على شوارع القاهرة وتونس وسوريا. فمع اشتعال ثورة بائع الخضار في تونس، بدا الواقع يؤكد ما وصل إليه بيات، من أن الفقراء الحضريين موجودون، وأن هناك نارا تحت الرماد. وأن التفاؤل الذي تحدث عنه في 2007 ـ 2009، قد أثبت صحته. ولعل هذا الأمر ساهم في زيادة الاهتمام وتتبع ما يكتبه الرجل عن يوميات العالم العربي.

ثورات البطيخ الأحمر

بعد اندلاع الانتفاضات العربية بسنوات قليلة، كان المشهد لا يبشر بخير، خاصة أن السلطات القديمة تمكنت من استعادة زمام الأمور في أكثر من مكان، ولذلك كان من الطبيعي في ظل هذه الأجواء، ان تجتاح المنطقة موجة من الاستياء، وهو ما عبر عن نفسه في غالبية المقالات والأبحاث. وهنا بدا بيات، وخلافا للسابق، أقل تفاؤلا بما جرى، ولذلك أخذ يبحث في كتابه «ثورة بلا ثوار» 2017 عن أسباب ما جرى، ولماذا انهارت ثورة الناس العاديين. وفي سياق إجابته، عاد بنا إلى إحدى مقولات الخميني عام 1981 ، بعد فترة من اندلاع الثورة الإسلامية في إيران 1979. إذ كانت طهران وباقي المدن الإيرانية في ذلك العام على موعد مع ما عرف بإضرابات العمال ما دفع الخميني وقتها إلى القول «إننا لم نقم بثورتنا من أجل بطيخ رخيص، لقد قمنا بها من أجل الإسلام». وقد عاد بيات للتذكير بهذه العبارة، للقول، إن موقف الإيرانيين من الثورة كان أكثر راديكالية من العرب في انتفاضاتهم بعد ثلاثة عقود، ولذلك نجحوا في ثورتهم (بغض النظر عن المآلات) خلافا للعرب، الذين تبنوا وفق ما يراه خطابا إصلاحيا في أحر يوميات الثورة، في الوقت الذي كان عليهم أن ينتهجوا رؤية ثورية راديكالية تقوم على إزاحة السلطة والمؤسسات القائمة، حتى لو أدى ذلك إلى حدوث اضطرابات أوسع. ولم يتردد بيات في وصف من خرجوا في المدن العربية بوصفهم «نصف ثوار» لأنهم عند اللحظة الحاسمة سعوا لأن تقوم مؤسسات النظام بالإصلاحات الواسعة بالنيابة عن الثورة، في حين كان الإيرانيون قبلهم قد قلبوا النظام القديم رأسا على عقب، من خلال فكرة الإسلام الأحمر الذي هيمن على مخيلتهم.

واللافت هنا أن بيات وبعد فترة سنة أو أكثر من صدور كتابه هذا، بدا غير مقتنع بالنتيجة التي وصل اليها، كما بدا أحيانا قد تسرع في الحكم على ما جرى، خاصة أنه أبدى اهتماما أوسع بحياة الفوق أو النخب وعلاقتها بالثورات، أو الانتفاضات التي جرت، بينما ما ميز أعماله السابقة، أنها كانت أكثر اهتماما بالناس العاديين. ولعل هذا الشعور بالتسرع أحيانا، وهو شعور عبر عنه في أكثر من مقابلة، هو ما دفعه إلى المضي أكثر في إعادة قراءة حياة الناس العاديين مرة أخرى في فترة دولة ما بعد الثورة.

هل هزم الناس العاديون؟

وهنا بدا بيات أقرب في جولاته الميدانية الأخيرة، إلى سوسيولوجيا التفاؤل مقارنة بحالة التشاؤم التي أصابته في سنوات 2013 ـ 2016. ففي كتابه الأخير «حياة ثورية.. يوميات الربيع العربي» صدر بالإنكليزية 2021 ، وترجمه للعربية مؤخرا فيكتور سحاب. يقرر بيات إعادة النظر في بعض استنتاجاته التي طرحها في كتابه السابق، وبدلا من المقارنة بين النموذج الإيراني ونموذج الثورات العربية، سيرى أن هناك شيئا جديدا حدث في العالم العربي، ولم نره سابقا. هذا الشيء لا يتعلق بالضرورة بفشل هذه الثورات، وإنما في كون هذه الانتفاضات قد غيرت الحياة اليومية في المدن العربية، وربما إلى الأبد هذه المرة، فالثورات صحيح أنها تراجعت، وعاد المحتجون أو قتلوا أو هربوا لأماكن أخرى، مع ذلك فهو يعتقد أن هذا الأمر لا يعني أن الثورات لم تحدث زلزالا كبيرا في مخيال الناس اليومي وحياة المنطقة.
يقف في كتابه عند موجة من التحليلات التي حاولت قراءة ما جرى من منظور أرندتي (حنا أرندت) وهو منظور يتجه نحو الفصل بين الاجتماعي والسياسي، وحصر الحياة الاجتماعية واليومية في إطار البقاء والتحرر من وطأة الحاجات المادية. فالفقراء وفق الفهم الأرندتي هم اشخاص يبحثون فقط عن مكتسبات مادية، لتغطية أوضاعهم المزرية والبقاء، ولذلك فإن الفقراء أو الناس العاديين وفق هذا الفهم لا يستمرون في الاحتجاجات، ويعودون فقط إلى أماكنهم القديمة للبحث عن لقمة العيش فقط. في المقابل يعتقد بيات أن تراجع الثورات أو فشلها، وعودة الناس لبيوتهم، لا يعني أن القصة انتهت. فالسياسة ليست مجرد احتلال للأماكن، وإنما يمكن أن تكون في بعض الأحيان منسوجة في العمل والحياة اليومية والنضال من أجل البقاء. وهنا تبدو مسحة التفاؤل مرة أخرى، فالناس العاديون، حتى إن فشلوا، فإنهم عادوا ربما مرة اخرى لانتهاج فكرة الزحف الهادىء ، لكنه زحف قلق، اذ نراهم احيانا يشنون موجة احتجاج صغيرة أو كبيرة هنا وهناك، في محاولة لتغيير الواقع. وهذا ما نراه مثلا في بلد مثل العراق، ففي الوقت الذي اعتقد فيه الكثيرون أن المعادلة الطائفية وثبات الأوضاع على حالها، قد فرضت نفسها، إذا بالاحتجاجات تجتاح بغداد في ما عرف بتظاهرات تشرين 2019. والشيء ذاته نراه في عدة أنواع من المبادرات الشعبية التي لا تسعى لسلطة الدولة، بل لبناء سلطة بديلة من الدولة، بأساليب جديدة لتنظيم الحياة الاجتماعية والاقتصادية عند قاعدة المجتمع، مثل إعادة تنظيم السير في بعض المناطق، أو السيطرة على الشوارع والمناطق العشوائية. ولذلك فإن ما يحسب للسنوات الأخيرة، هو أنها تمكنت من إعادة تشكيل ذاتيات الناس وتوقعاتهم وعلاقاتهم التراتبية، اضافة إلى الممارسات البديلة في الشار . وبالتالي نجد في يوميات بيات بعد عقد من فشل الثورات، أن الناس العاديين لم يغيبوا تماما عن التأثير، وإنما عادوا ليمارسوا السياسة من تحت، من خلال محاولة تدبير ؤونهم اليومية، وتغيير القناعات الشخصية، وإعادة تشكيل صورة أخرى تجاه قضايا عديدة تتعلق بالديني والاقتصادي والاجتماعي، ما يجعل الحياة اليومية حاضراً ومستقبلا مختبرا لا بد من تركيز البحث فيه، لدراسة المدينة العربية ومصيرها، أو ما تبقى منها.

كاتب سوري

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية