«سمعت كل شيء» رواية العراقية سارة الصراف: الوعي بالحرب في التدرّج المعرفي وبنية التوزّع

عادل ضرغام
حجم الخط
0

في روايتها «سمعت كل شيء» للكاتبة العراقية سارة الصرّاف، هناك تجربة ذاتية، لكنها منفتحة على المجموع، في مروره ومعايشته لتجربة الحرب المريرة، خاصة إذا كانت تلك الحرب تكشف عن ضآلة الشعب الذي يهشّم إدراكه، وتغيّب معرفته بفعل السلطة وأكاذيبها البلاغية، وأذرعها، فهذه السلطة التي تتحرّك بوصفها مبعوث الآلهة تؤسس لوجودها مكانة مختلفة في المعرفة والإدراك. في ظل ذلك يبدو الفرد معزولا ومهمشا، يتحرّك وفق أسس وأنماط قاهرة، ليس لديه قدرة على التملص منها أو دفعها، فيكتفي بصناعة انتصاراته البسيطة في سياجه الشخصي.
هي رواية الوعي بالحياة والوعي بالحرب في آن، فالساردة يتمّ توجيه وجودها الزمني داخل حيز اكتساب المعرفة، فالمقاربة والمعايشة والحدس داخل النص الروائي تتشكل في حدود مدى زمني يبدأ بطفولة فتاة، وينتهي عند حدود بداية شبابها. في الحرب يصبح الوعي بالعالم مختلفا، فالوعي هنا وعي مزلزل منقسم على ذاته، تكتسب وتفقد لفظتا الموت والحياة معاني ودلالات، فالموت يغادر جلاله ويصبح حدثا عاديا، والحياة في ظل ذلك الوضع تتحول إلى مراقبة وارتباط دائمين لكل الأشياء العادية التي كنا لا نلتفت إليها، وكأننا نعزز ارتباطنا بالحياة من خلال الانتباه إليها.
هي رواية عن القيم المتحللة والحرب والوضع الخاص للفرد والمجموع في مواجهة المتغيرات. رواية الأنثى اليتيمة في مواجهة الفقد المبكر الذي أورثها معرفة خاصة تدريجية بالكون والوجود المنفتح على سؤال الموت، بكل ما يخلقه من قلق وخوف من المستقبل، ورواية المجموع في مواجهة النزف الدائم من حرب إلى أخرى دون مبرر واضح سوى الأكاذيب البلاغية التي تمرّر الهزيمة على أنها نصر من خلال أذرعها السياسية والفنية. وهي- بالرغم من ذلك- رواية استبقاء الشموخ والاختلاف العراقيين، وكأنها محاولة لإبراز الإرث التاريخي التليد الذي تأثر بفعل الحرب.

التدرج المعرفي واستبقاء الطبقة
الرواية تسرد من خلال حدقة الطفلة طبيعة ارتباطها بالعالم، سواء أكان ذلك عالمها الضيق، أو عالمها الواسع، ويلحّ من خلال خطابها المدى الزمني لحرب العراق وإيران، بوصف هذه الحرب إطارا متعاليا، يجعل شعور البشر بالأشياء مختلفا، ويجعل الطفولة بحد ذاتها مختلفة، فالطفولة تكبر بسرعة سابقة لأوانها، والموت نفسه لم يعد حدثا كبيرا جليلا، بل أصبح حدثا عاديا، لأنه يتكرر بشكل دائم. وإذا كانت الحرب تزلزل وضع الفرد والمجموع، فإن رصد هذه الزلزلة روائيا لا يتم بشكل مباشر، بل يتمّ داخل تجربة اكتساب المعرفة.
اليوميات مساحة لاكتساب المعرفة، لكنها معرفة تدريجية حتى تستقيم وتؤسس حدودها. فالساردة في النص الروائي- نتيجة لذلك- تقدم عالمها دون توجيه ودون قصدية، لأنها تكتفي بوصف عالمها المحيط في حدود وعيها ودرجته. وفي إطار هذا الوعي المراقب، نجد أن ما تقدمه عن الحرب وآثارها يظل مشدودا إلى الوصف والتعبير. ويمكن في ذلك السياق التوقف عند ثلاث شخصيات تأثرت كثيرا بفعل الحرب التي شكلت إطارا متعاليا فاعلا، بداية من الخال فارس الذي تحوّلت لحظات بعده عن الحرب والخدمة العسكرية إلى لحظات مرح وانتشاء إلى آخر رمق، فكل لحظة منفلتة من الحرب بالنسبة له حياة، وكأنه يعاين الحياة ويقاربها من وجهة نظر الخائف المنتظر حتفه في أية لحظة. وهذا يبرّر توتر علاقته بزوجته إيمان فكل نزول –على حد تعبير نص الرواية- مغامرة موت جديدة، وكل عودة إلى البيت حياة أخرى. ومرورا بوالد غدي صديقة الساردة الذي يقوم بتصوير وتسجيل الحرب، فالوجود على قيد الحياة بالنسبة لهذا الرجل موت مؤجل، والحياة مندغمة في الموت، ومن ثم نستطيع تفسير محاولته في الانعتاق من المسئولية والزواج بأخرى. وانتهاء بعلاء خال صديقتها زينب الذي لا يستطيع الحصول على البكالوريا التي تعطيه انعتاقا من الخدمة العسكرية فترة الجامعة، وحين أدرك ذلك مارس فعل الانتحار بوصفه استباقا للموت المرتقب والمنتظر في الحرب.
ما تقدمه في يومياتها أو مذكراتها ليس إلا وصفا لحدود عالمها، فهي لا تتورّط نتيجة لذلك في الوعظ أو إظهار حدود الانتماء، فقد حمتها هذه الآلية التي ترتبط بالتقطيع الجزئي للحكاية من التجذّر بشكل واضح داخل نسق أيديولوجي، فهي تمرّ على كل الأمور الشائكة دون تورّط حقيقي، ساعدها على ذلك المساحة الزمنية لعمرها، وهذا جعل أسئلتها الخاصة مثل الفرق بين السنة والشيعة واقفة عند حدود خاصة، نظرا للإجابات التي تقدمها لها الجدة، وهي إجابات لا تساعد على التمدد، بل على سدّ الأفق أمامها.
إن اختيار عنوان لكل فصل من فصول الرواية، ليس اختيارا عشوائيا، بل هو اختيار يحمل تبئيرا وتوجيها، فالعنوان غالبا يحمل تيمة الفصل الأساسية، وكأنه محرّك للفصل دلاليا، وعلى القارئ أن يتوقف عنده باحثا عن دلالة العنوان داخل الفصل. فعنوان مثل (ذات الضفيرة المتينة الحالكة السواد) لا يعمل فقط بشكل آني للحظة المعيشة، وإنما يعمل ويؤدي دوره للإشارة إلى طبقة الحزن الآنية التي لا تزال تصرّ على إحضار المعددات من جانب، ولكنها من جانب آخر تحفر عميقا- ربما في ظل استحضار دلالات كلمات المتانة والحالكة والسواد- في طبقات حياتية موغلة في القدم، ومع وجود إشارات دالة لهذا التوجه في النص الروائي، لجعل الحزن والاحتفاء به جزءا من الهوية الروحية للعراقيين.
أوّل شيء يقابلنا في النص الروائي يكشف عن ملامح الطبقة يتمثل في الإبقاء على الكلمات العراقية دون استبدالها بكلمات أخرى أكثر استخداما، فكلمات مثل (الطارمة، والمحلة، وسدية، وخوش، وحجية، وحجي) لها ما يقابلها في العامية المتداولة في الوطن العربي، ولكنّ هناك إصرارا على شد السرد إلى البيئة العراقية، بألفاظها، وكأن في ذلك نوعا من الإحياء والتدثر بها في لحظة مغايرة. وكذلك إذا وقف المتلقي عند أنواع الأطعمة مثل (العصرونية، والكاهي، والكليمر، والعروك، والراشي) سوف يدرك ان هذا الاستخدام على هذا النحو قد يكون ناتجا عن الحرب، في إسدالها الخوف والتقوقع حول الأصيل الممتد مما يشكل ذواتنا، فنظل متمسكين به، حيث يحرّك بداخلنا ارتباطا خاصا بماضينا الذي أصبح لحظة الحرب في مهب الريح.

بنية التوزّع

القارئ للرواية يدرك أن هناك توزّعا لافتا بين جزئيتين، تتمثل الأولى في توزع الفصول السردية في بنيتها الداخلية بين اليوميات والمذكرات، وسوف تستوقفه تلك الإضاءات الخاصة بالساردة، فهي في سردها لا تقدم يوميات عادية، لكنها يوميات أشبه بالمذكرات، فتحديد اليوم هنا أو الفترة الزمنية بشكل واسع، لا يغدو أن يكون مؤقتا، ولكن الكتابة في النص الروائي هي فعل تأمل وتساؤل مستمرين، تأمل من لحظة الاستواء أو النهاية، أو من لحظة إمكانية القراءة والتأويل لتجربة معيشة تمّ المرور بها.
فالنص الروائي يحتوي على جزئيات معرفية ترتبط بوجود الإنسان وتجاربه المتراصة والمتراكمة في مقاربة الواقع والوجود، ففي هذه الجزئيات يتوحّد الفردي بالجماعي، ويختفي الصوت المباشر المتكلم الكاشف عن تجربة خاصة، وكذلك يختفي الصوت المراقب للآخر في ظل تحولات الضمائر السردية، ويحلّ محلهما الصوت الجمعي المتشبث بنا الفاعلين. فحين تتحدث عن حزن عايدة في لحظة مراودة عباس في تخليه عن إتمام أمر زواجهما، لا تتحدث عن فرد أو عن طريق امرأة تتحدث عن ذاتها، أو مراقبة من غيرها، فكأن عايدة هنا ليست إلا نموذجا يتمّ التعبير عنه، في ظل استبدالات وإزاحات وتوازيات، لتحل محل شخصية عايدة شخصية الساردة، ونساء أخريات بالضرورة، فحين تقول الرواية (هذا هو حزن النهايات إذن، حزن يفني كل شذرة فينا، لا يبقي على شيء، ينهكنا، يمضي ويخلق مناعة ضد طارق جديد) ندرك أن الوعي المعرفي هنا وعي متراكم ناتج عن التأمل والمساءلة الطويلة لحيوات متوازية.
أما التوزّع الأخير فيأتي ماثلا في التوزّع بين المتكلم والغائب، فضمير المتكلم يأتي مهيمنا في البداية لعقد اتصال بين الذات والعالم، وبناء معرفة وإدراك لهما نوع من الخصوصية تماشيا مع إشكاليتها الأساسية المتمثلة في الفقد. ويأتي الغياب لتقديم رؤية موضوعية لشخصية لها حضور لافت في النص الروائي، فقد تحولّت شخصية عايدة التي مات زوجها وتركها وابنها خالدا، إلى شخصية لها وجود مماثل ومواز للساردة، وذلك من خلال وضعها في دائرة الاهتمام والرصد. فبعد أن كان السرد يفصح عن وجودها في إطار وجود وهيمنة المتكلم، أصبح يفرد لها بالتدريج جزءا من الفصل، تماهيا مع حضور حكايتها، وما ترمز إليه.
شخصية عايدة تتجلى في أشكال عديدة من خلال المتكلم ومن خلال الغياب، وتتكشف بشكل مباشر من خلال الحوار بينها وبين عباس الذي تعمل معه في جريدة ألف باء، فيظهر للقارئ أن هناك مؤثرا في كل هذه الأحداث والتناقضات، يتمثل في الحرب. ففي قول عباس في حواره معها: (أي مثالية تقصدين؟ هل نعيش في عالم مثالي؟ هههه كم هي مثالية تلك الحرب التي ترشرش دما على جدران البيوت كل صباح، صباح الحرب، عزيزتي مساء الحرب، زادنا الحرب، الحرب قتلت زوجك، وقتلت صحتي، وملأتني هموما، تقولين مثالية؟) كشف عن المتواري الحقيقي، وكشف عن البلاغة الكاذبة التي يجب أن يتحلى بها، وهي تتعارض مع كونه مثقفا، يمرّر الرفض في صراخه داخل سيارته المغلقة.
فالمعرفة الذاتية- أو اكتسابها بالتدريج لا تتمّ إلا بفعل المراقبة، لأن الرواية لا تقدم قراءة باطنية للذات، بقدر ما تقوم به في الآن ذاته من عقد وسائل اتصال والتحام بالواقع، وتشييد وسائل للاتصال والالتحام، سواء في بيت جدتها لأبيها، أو في بيت جدها لأمها، أو في مراقبة الجيران والمحيطين للوقوف أمام سردياتهم وحكاياتهم. ففي أحيان ليست قليلة بعد أن تحوّلت (حكاية عايدة وعبّاس) إلى حكاية أساسية مشاركة تتقاسم السرد من خلال حضور الغياب كاملا، نجد لحضورها وتشكلها أنماطا عديدة، في شكل منها تتخلى الشخصية الرئيسة عن منصة السرد وعن ضمير المتكلم، وتترك المجال لفعل المراقبة والتأمل.
ربما يكون التبرير ماثلا في كون عايدة يمكن أن تعدّ قسيما للذات الساردة في مرحلة تالية، فالقارئ يشعر أن هناك نوعا من المزاوجة- حتى من الناحية البنائية- بين عالم الساردة وعالم شخصية عايدة. فهناك تناظر يؤسسه النص الروائي بين البطلة وعايدة من جانب، وبين عبّاس ونزار من جانب آخر في المنطلقات والتوجهات، بالرغم من الفوارق الزمنية، وكأنه تناظر الوعي والإدراك لكل مرحلة زمنية.
وهذا التناظر يتكامل ويصبح له نوع من المشروعية إذا تم استحضار الرمز مع كل قسيم، يؤيد ذلك الفهم أن الحضور النسوي في هذه الرواية له الوجود المهيمن، فتظهر الشخصيات النسوية في النص الروائي بوصفهن نساء يواجهن- فوق ما يواجهن من أعباء- آلة الحرب، وما تفرضه من متغيرات مؤثرة.

سارة الصراف: «سمعت كل شيء»
دار الحكمة، لندن 2023
408 صفحة.

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية