سحر التسمية ووهم الخرائط «بناية الأسُود» في بيروت و«وعد» سايكس-بيكو

 فواز طرابلسي
حجم الخط
0

كنت وصديقة في سيارتها أرشِدها إلى كيفية الوصول إلى منزلي في حي الوتوات. أشرت عليها ان تتجه نحو بناية «الاتحاد الوطني» بعد «حديقة الصنائع»، مطلع «شارع سبيرز» ثم تنعطف يمينا. قالت: أي. أعرفها. انها بناية الأسُود. قلت لها حين نصلها، ألقي نظرة على «الأسود». كم دُهِشتْ لما شاهدت في واجهة البناية تمثالين لامرأتين مكشوفتي الصدر.
أمضيت القسط الأوفر من حياتي في رأس بيروت وفي ذاكرتي ان تلك البناية اسمها «بناية الأسُود». أمرّ قربها في الاياب والمجيء وأزور فيها مكاتب دار رياض الريّس، صديقي وناشري. ومع ذلك لم يدفعني الفضول للتحري عن المفارقة بين اسم البناية ومشهد التمثالين على واجهتها. علّني افترضت، كما كثيرين، أنها واجهةً جديدة حلّت محل واجهة تجسد أسوداً كاسرة.
عدت للتفكير في «بناية الأسود» وأنا أقرأ مخطوطة الصديق جاد ثابت عن سيرة أبيه المعمار اللبناني اللامع أنطون تابت الذي صمم البناية. أكد لي جاد وأرفق التأكيد بصورة فوتوغرافية أن الواجهة قائمة بشكلها الحالي منذ العام 1953 والتمثالان من صنع النحّات الفرنسي ماريوس جان دورييه (1914-2001) الذي سكن لبنان لفترة ونحت أيضا نصبا لشهداء الجيش اللبناني.
لنلقِ نظرة فاحصة. منحوتة اليمين تمثل على الأرجح إلهة بحرية مستلقية عارية النهدين، يلاعب الموج ساقيها العاريين، شعرها معقوص داخل صدفة، تحمل باليد سمكة وقربها حيوان بحري وقوقعة ونورس. في جهة اليسار، تمثل المنحوتة إلهة رعوية، تحمل تفاحة، متجرّدة من ردائها وحولها غزالتان أو عنزتان.
اسم البناية عنصر في الذاكرة الشعبية لأهالي منطقة رأس بيروت عمره سبعة عقود ونيّف من الزمن. تحول إلى لقب وأسدل اللقبُ الحياء الجمعي على مشهد عري عومل كعورة واستبدلتْ الانوثة فيه بالذكورة الحيوانية الضارية.
التسمية كائن أيديولوجي نادرا ما نأبه به وهو أشد العناصر الأيديولوجية مواربة وتدليسا ونفوذا. أن نسمّي الشيء يعني ان نعيّن له هوية ومرجعا ونَسَبا وطبيعة وجوهرا. وقوة التسمية نابعة من البداهة، فالتسمية ليست بحاجة إلى برهان. زيد هو زيد وعمرو هو عمرو. وإذ يلقّب زيد «أبو خالد» مثلا فإذا هو رجل مكتمل الذكورية منجب للرجال.
وهكذا في حالتنا حيث حولت التسمية مشهدا بصريا إلى مشهد افتراضي بديل يدعو المارين إلى انكار ما يشاهدونه من انعدام التطابق بين اسم البناية ومشهد مدخلها. لنسمّ الأمر غض نظر ذهني أيضا يستدعي مقدارا من التواطؤ أو من الاستهتار.

بين خريطتين

ما العلاقة بين «بناية الأسود» في بيروت واتفاقية سايكس بيكو؟
كما ان «بناية الأسود» في رأس بيروت اسم لغير مسمى «اتفاقية سايكس بيكو» (9ـ16 أيار/ مايو 1916) اسم لغير مسمّى: فاسمها الرسمي «اتفاقية آسيا الغربية». فاوض عليها سايكس وبيكو ووقعا على الخريطة لكن التوقيع الرسمي تم بأقلام وزيري خارجية بريطانيا وروسيا غراي وسازانوف وسفير فرنسا في لندن، كامبون. وكان الغرض الأساسي من الاتفاقية هو تثبيت وعد بريطاني-فرنسي بمنح الشريف حسين دولة عربية مستقلة في سوريا يحكمها زعيم عربي، مقابل إعلانه الحرب ضد العثمانيين. وهذا مثبت في المادة الأولى من الاتفاقية.
تحتل سوريا الطبيعية ـ المنطقة المعدة لأن تكون الدولة العربية المستقلة – القسم الأكبر من الخريطة يخترقها خط يفصل بين منطقتي النفوذ الفرنسية شمالًا (A) والبريطانية جنوبًا ( (B شريط الساحل السوري الواصل إلى عكا جنوبا ملّون بالأزرق ويقع تحت السيطرة الفرنسية المباشرة. وولايتا الموصل وبغداد إلى اليمين ملوّنتان بالأحمر دليل أنهما تحت السيطرة البريطانية المباشرة وكذلك عكا وحيفا على الساحل الفلسطيني. وسنجق القدس، أي القسم الأكبر من فلسطين ملوّن بالُبنّي، وهو منطقة دولية بإدارة مشتركة بريطانية-فرنسية-روسية. تشارك الإمبراطورية الروسية في الاتفاقية على اعتبارها الحليفة الراعية للمسيحية الشرقية والموعودة باستعادة القسطنطينية في حال الانتصار.
منذ أن وقعت والاتفاقية وهي موضوع نزاع. فرنسا تعد نفسها بالسيطرة على «سوريا التامة» بما فيها فلسطين وبريطانيا مصممة على السيطرة على كامل فلسطين لحماية قناة السويس وسيطرتها في مصر. سوف يسدد إعلان بلفور في تشرين الثاني/نوفمبر 1917 ضربة قاصمة للاتفاقية إذ مهد لاحتلال الجيش البريطاني لكامل فلسطين التاريخية في أواخر ذلك العام. أخيرا، انعقدت المساومة التي أنتجت الحدود الحالية لأقطار المشرق عندما تنازل كليمنصو الفرنسي للويد جورج الإنكليزي عن لواء الموصل (لقاء حصة في النفط) وعن فلسطين لقاء تنازل الأخير لفرنسا عن سورية. تكرّس نظام الانتداب في مؤتمر سان ريمو، نيسان/ابريل 1920 بناء على خريطة جديدة قام بموجبها «الاتحاد السوري» و«دولة لبنان الكبير» تحت الانتداب الفرنسي. وضُم لواء الموصل ـ الذي كان سابقا في سوريا – إلى لوائي بغداد والبصرة لتكوين مملكة العراق تحت الانتداب البريطاني، واستأثرت بريطانيا بالانتداب على كامل فلسطين وانشأت، عام 1921، إمارة شرقي الأردن تصل العراق بفلسطين. ورسَمَت اتفاقية بوليه-نيوكومب (1923) الحدود بين الدولتين المنتدبتين، أي بين جنوب سوريا ولبنان وشمال فلسطين.
تعدّى الأمر في زوغان النظر هنا إلى خريطة العام 1916 يرينا خريطة العام 1920، وأن الأولى نالت لقب «خريطة التقسيم» بدل الثانية. حمل اسم «سايكسبيكو» التعبيرَ عن جرح تاريخي فاغر خسر فيه عرب المشرق الاستقلال والطموح إلى الوحدة في ذلك العام 1920 الذي سمّي حينها «عام النكبة»، قبل ان تنتقل التسمية إلى عام 1948 الفلسطيني. وجسدّت الخريطة تقطيع أوصال الجسد القومي. لكن المثير هو تحول «سايكسبيكو» إلى شيفرة سحرية جيو-استراتيجية تحلل وتتوقع مشاريع إعادة رسم خريطة المنطقة ووجهتها الدائمة التقسيم، ناهيك عن «تقسيم المقسّم». وآخر التوقعات الشهيرة إعلان «نهاية سايكسبيكو» عندما اجتازت «داعش» الحدود العراقية السورية. ومع ذلك فخريطة التقسيم للعام 1920 صامدة منذ قرن ونيّف. ولا من يسأل لماذا لم تصدق كل تلك التوقّعات وكيف ولماذا تبددت جحافل فزّاعات التقسيم!
وترافق هذا النهج مع تقليد عريق هو الخورجة («حرب الآخرين على لبنان» نموذجا) يحمّل المسؤوليات للغير وللخارج أو ينسبها إلى مجهول، في عادة كسولة من تبرئة الذات انسحبت على تبييض صفحة الحكام، فالكل ضحايا مؤامرات و«مشاريع» هي بالتعريف قدرٌ مقدّر لا قِبَل لأحد أن يتّقيها أو يجابهها. فصار الانخداع بالمؤامرات فضيلة قيادية مثلما الخيبة ميزة قومية.
فهل من مبالغة القول إن الوعي المناهض للاستعمار لا يزال عالقا في فكر الاستقلال والتحرر الوطني إلى أيامنا هذه؟ هذا بالرغم من أن صيغة الانتداب في عشرينات القرن الماضي افتتحت طور «الاستعمار الجديد» الذي ارتكز على حكم نخب وجيوش عربية تابعة بينما تواصل القوى الاستعمارية نهب الموارد والثروات الطبيعية والتحكّم بالمقدرات الاقتصادية. وللمناسبة انطوت «اتفاقية غرب آسيا» على عدد من البنود الاقتصادية والاستراتيجية نادرا ما يؤتى على ذكرها: تثبيت أهمية ميناء البصرة للمصالح الاقتصادية والاستراتيجية البريطانية، بما هي ميناء الهند وحارسة مصفاة النفط البريطاني في عبدان، ببلاد فارس؛ توزع خطوط سكك الحديد بين الطرفين، وحق بريطانيا في بناء خط سكة حديد بغداد-حيفا، يمرّ بأراضي النفوذ الفرنسي، كذلك المعاملة بالمثل في مرافئ الساحل السوري.
هكذا أورثتنا شيفرة «سايكسبيكو» عمىً عوّارا في تعيين الأطوار اللاحقة للإمبريالية واستراتيجتها في المنطقة وصولا إلى طور العولمة النيوليبرالية خلال العقود الأخيرة.

التسمية سلطان

لكن من يسمّي؟ من يمارس سلطة المحو والابدال بواسطة اللغة؟
في بناية «الاتحاد الوطني»، المسمّي مجهول لكنه امتلك سلطة حجب العري والانوثة في شخوص البناية بواسطة التذكير الحيواني الضاري. وأما التسمية الخرائطية للمنطقة فمحفوظة للأقوياء في الأرض: القوى الغربية وعلى رأسها الولايات المتحدة على تلقّب استراتيجياتها والتحالفات.
باكرا، برز «المشرق» اسما للمنطقة لدى الرحالة والمعاهد ثم وزارات الحرب والخارجية الغربية، ثم تسمّت «الشرق»، وفي الحرب العالمية الأولى، صار «الشرق الأدنى»، اسمًا للمدى الاستراتيجي البريطاني خلال الحرب العالمية الثانية، ثم صار الاسم «الشرق الأوسط»، حين أريد دمج المشرق العربي مع تركيا وإيران في مشاريع الأحلاف العسكرية الغربية، إلى أن ظهر «الشرق الأوسط الجديد» بعد اتفاق أوسلو ومشاريع السلام العربية-الإسرائيلية وضم إسرائيل إلى المنطقة. وجاء «الشرق الأوسط الكبير» مع غزو التحالف الغربي لأفغانستان والعراق، في مجرى «الحرب الكونية ضد الإرهاب». طوال تلك الفترة، كانت للمنطقة أسماء خاصة بها بوحي من تيارات وحركات الاستقلال والتحرر الوطني وقومية: «العالم العربي»، «الوطن العربي»، «الأمة العربية»، و«المشرق العربي والمغرب العربي». وقد أمكن التخلص منها بالاستبدال، وجاءت التسمية الجديدة هذه المرة بل من المؤسسات الاقتصادية والتنموية الأممية. فبتنا نسمّى «مينا MENA»-»الشرق الأوسط وشمال أفريقيا».
ولقد تطور دور التسمية واللغة في الأيديولوجيات أيما تطور بعد انتهاء الحرب الباردة وحملت عولمة القطب الواحد لغة شمولية، لا يقتصر تداولها على الإنتاج الأكاديمي والإعلام وإنما دخلت بكامل ثقلها الأيديولوجي في الحياة الكونية اليومية من خلال الإعلام والمؤسسات الدولية والمنظمات غير الحكومية ووسائل الاتصال المجتمعية وغيرها.
هي لغة تمحو قدر ما تحول المعاني وتستبدلها بواسطة التسمية، تبتكر مصطلحات أو تعيد تسمية وتعريف العائد منها إلى الحرب الباردة وحركات التحرر الوطني عبر العالم ـ أو تستبدلها بأخرى جديدة فتغيّر في المعنى والدلالة والموقع والتراتب والقوة والقيمة.
وعلى العكس من ادعاء غياب السرديات الكبرى بعد نهاية الحرب الباردة تنمو من خلال تلك اللغة سرديةٌ شاملة ما علينا إلا أن نجمع عناصرها المتفرّقة، من تسميات ومصطلحات وتراكيب، لتتبدّى أمامنا كونيةً وحدانية وغير مسبوقة.
من حيث المنهجية، طغى المكان على الزمان، والذاكرة على التاريخ، والسياسة على الاقتصاد، وفصِل النصاب المجتمعي عن النصاب السياسي.
وفي الاقتصاد والاجتماع، طغى الأفراد على المجتمع («يوجد أفراد فقط لا يوجد مجتمع»- مارغريت ثاتشر) وحل «النمو» نتاج تلقائية آليات السوق والاستثمار الخارجي محل «التنمية» ابنة الدولة والتخطيط المركزي. وتحوّرت «العدالة الاجتماعية» – التوزيع العادل للفرص والموارد والثروات ـ إلى «الحماية الاجتماعية»، للحد من تدهور مستوى معيشة الفقراء وذوي الدخل المحدود نتيجة الآثار الاجتماعية المدمّرة لآليات السوق. في السياسة، الحوكمة والتعددية بدل الديمقراطية، وحقوق الإنسان المختصرة بالحقوق الشخصية والفردية، على حساب الحقوق الاقتصادية والاجتماعية وحق الشعوب في تقرير المصير. وفي عهدة «المنظمات غير الحكومية»، تحول المناضل إلى «ناشط»، بغض النظر عن وجهة النشاط أو هدفِه وصار «المناضل» militant لقبًا للجهادي و«الإرهابي».
«التطبيع» هو أسم جديد لمشاريع «السلام» العربية الإسرائيلية. أترك لمخيلة القراء التأمل في جدل الشاذ والطبيعي، والمحو والابدال، في مقاومة الشعب الفلسطيني وفي الصراع العربي الإسرائيلي خلال قرن كامل. هنا يبلغ سلطانُ التسمية ذروتَه حيث حرب إبادة جمعية تسمّى «حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها». اكتفي بسرد حادثة واحدة.
الأربعاء 13 آذار (مارس) 2024، طفل فلسطيني يحتفل بحلول شهر رمضان وهو يلوّح بلعبة نارية (فتّيشة). تقتله رصاصة في القلب من قنّاص على برج مراقبة خلف جدار العزل. يهرع بن غفير وزير الشرطة لتهنئة أفراد الشرطة. ويعلن للصحافة: لن يكون تحقيق في الحادثة. سأعمل على تكريم الفاعل بوسام. وأضاف: هذا ليس طفلا عمره 12 سنة. هذا إرهابي عمره 12 سنة.
التسمية تقتل.
(*) من مداخلة في ندوة «العمران، زمان ومكان»، نقابة المهندسين، بيروت.

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية