سبعة إبدالات في شعر الألفية الثالثة في المغرب

حجم الخط
0

يعيش الشعر المغربي مرحلته الجديدة في تشكيل أنفاسه بروح مغايرة، وإن ما مرّ من مراحل لا شك أنها أغنته وتمثل تاريخه الزاخر، فإنه حاول أن يجدد ويرسم طرقا بمعالم أخرى تفضي إلى أمل منشود وغاية كبرى في نفسه، أن يصل إلى ذروة الإدراك الوجودي، وهو ما أحدث ضرورة ملحة لتبني منطلقات التغيير، والإبدالات الممكنة على مستوى الإنتاج والتلقي النصي، وبتأملنا في عدد من المجاميع الشعرية الراهنة، نجد أن هذا التغيير طرأ في عدد من المستويات، أهمها:

من الجماعة إلى الفرد

إن الشعر المغربي الجديد الآن ينظر إلى ذاته نظرة الفرد، بينما يجابه مآلاته وحيدا، موغلا في منفاه، لم نعد نرى الشعر المغربي في راهننا شعر الأجيال التي تتفق – في الغالب – على مبادئ بعينها، وتسير وفق رؤيا شعرية محددة، غير أنه اليوم، ولكونه شعر الشك والسؤال والرفض، تجاوز تخوم القصيدة السائدة إلى قصيدة يخلقها بنفسه، بل يمنحها نبضه لتعيش.

من تكسير الوزن إلى تكسير المعنى

لعل ما واكبناه من نصوص تعج بكثير من القضايا، التي لا يسعنا في هذا المقام تناولها بالكامل، بدءا بخطى التمرد المعاصر، فبعدما كان التمرد لصيق الشكل والمضمون في النص، معبرا عن التكسير الفكري والاجتماعي والسياسي والثقافي.. أضحى اليوم فوق ذلك، سيرا من فقدان الوزن كاملا إلى فقدان المعنى، بل في كثير من الأحايين نجد اللامعنى يمارس التمرد نفسه على الفهم، والواقع على الواقع، فالكتابة على الكاتب.

طعم مرّ للكتابة

إن القصيدة تتمرد على الشاعر، والكتابة على حد تعبير فلوبير، تضطلع بدور المرأة، أي أن لها أيضا دور الحاضن للرغبات واللذة، ولذة الكاتب في إيجاد الفهم أو الإدراك، غير أنها كتابة التيه والتشظي في الكثير من المواضع، لتكون هي بدورها متمردة على لذة الشاعر في الوصول إلى طريق مفتوح يدرك به ذاته والعالم.

تبئير الذات

لقد كانت الذات في ما اطلعنا عليه من المجاميع الشعرية التي صدرت حديثا، من بين القضايا الأساسية ونقطة الارتكاز الأولى لدى الشاعر، ومنه نفهم أن الشعراء المغاربة مهووسون بفهم الأنا والآخر بحمولته المعرفية المتبدلة من حين إلى حين، ولكن هذا المسار الذي سلكه الشعراء في الغالب لم يوصلهم إلى إدراك ما، بل دفعهم لمزيد من التشكيك، ولم يجدوا في ذواتهم ما يطفئ نار السؤال الوجودي الصارخ في حضارة غيرت جلدها.

تشتيت الواقع

إن منظور الشعر للواقع في ألفيتنا الثالثة مختلف، لقد قدمت القصيدة مفهومها للكائن إنه التشظي البراني، وأسقط ذلك داخل القصيدة، فأرداها متشظية يلفها التجزيء في الجسد والأفكار، وتلك حالة من حالات تمرد الواقع على الكتابة. إن الدعوة للخروج إلى نهضة جديدة تلملم شتات وانحطاط الأوضاع تقابل بالرفض، بل تدخل في المتاهة الكبيرة، التي تدفع الشعراء للهجرة أو المنفى. غير أنهما ـ الهجرة والمنفى معا ـ ليسا بمفهومهما المعروف، ولكنهما بمفهوم شعري مغاير، هجرة الشاعر والقصيدة من الكائن إلى الممكن، حتى إذا لم يتبدَّ لهما الضوء المنير، يختاران منفاهما الذي برجه السؤال وجسده نبض الشاعر الوحيد، يقتاتان منه ويحاولان خلق عالمهما الخاص.

من الكائن المتشظي إلى الممكن المسدود

يبحث الشعراء في الممكن ويتساءلون، ماذا بعد الواقع؟ وبما أن شعر الراهن في المغرب هو شعر السؤال والشك، لا يكادون يجدون سبيلا واضحا يقدم شرارات النهضة والتغيير المنشود حتى يسقطوا بين براثن المتاهة من جديد، أو يستنجدون بالتاريخ الغابر في فك رموز الآتي، إن الشعر المغربي لا يحمل جوابا قطعيا للمصير أو الخلاص، ولكنه موقن أنه وسط ضبابات لا توصل إلى الفهم والإدراك، وهي صورة من صور إنسان حضارة الألفية الثالثة من داخل “حساسية جديدة”، أو هي إشارة مفادها أن الهوية تفتقد في الليلة الظلماء الطويلة، أما البدر الكامل، فشهوة الشعر ونزوته التي لم تتحقق.
لعل الهم الأكبر في المجاميع الشعرية الحديثة هو ثالوث الشعر المقدس، الإنسان والعالم والخلاص، وكلها مجالات بحث فيها الشعر المغربي بروح جديدة أكثر تمردا وتحررا، بل أكثر انقلابية حتى على المعنى والفهم، وإلا لكان استقر بهم الحال إلى سبيل واحد، الشعر بهذه الفكرة لا يحمل أي جواب لهوية الإنسان، بل لهويته أيضا.

الهوية المفقودة

إن عتاد القصيدة من عتاد الشاعر، وإذا تحرر تحررت، وإذا ألجم ألجمت، فهما يعيشان بروح واحدة، وبها يسيران إلى كل الطرق حتى تخومها سعيدة أو بائسة، ولذلك، إذا فقد الشاعر إحساسه بالانتماء الوجودي، تفقد القصيدة الإحساس بانتمائها إلى جسد النص، هو ما حصل في مجموعة من النصوص، إذا بحثنا عن هوية القصيدة انطلاقا من تسميتها ـ عنوانها، فإننا نجد بينهما فتقا واسعا، كما الفتق الذي أصاب الشاعر وذاته وعالمه، سواء الداخلي أو الخارجي. إن عنوان القصيدة المغربية بعيد عن النص الشعري في مواقف عدة، إنه نص آخر، يشكل عالمه الخاص، كما يبني الشعراء عوالمهم في وجدانهم وينفون إليها، يتيه كما يتيه التفكير الشعري المعاصر، ولا يجد طريقا من أجل الوصول إلى معنى النص الكبير، كما لا يجد الشاعر طريقا للوصول إلى إدراك يشتهيه، ذاتا وواقعا وآتيا. ومن جهة فإن الاضطراب في الانتماء والهوية وعدم إدراك الواقع إلا ديستوبيا، ولأن الآتي ملغوم ولم يقدم إلا طريقا مسدودا، مارس الشاعر حق السؤال، وهو الذي يعبر به عن آماله، على الأقل، شعريا.
لقد رددنا كثيرا، إن الشعر المغربي في ألفيته الثالثة هو شعر السؤال لا الإجابة، إن الطرح في شعر الحساسية الجديدة بحر لا ينضب له معين، وعلى قدر الحمولة التي يأتي بها السؤال على قدر المتاهة التي تسقي آمال الشعراء المغاربة وأحلامهم وخلاصهم، وهو موطن الأمل الوحيد، لذلك نلاحظ كثرة بسط السؤال في النصوص الشعرية على اختلافها، تفعيلية أو نثرية… ومن جهة أخرى، إن الشعر المغربي يمر من حالة العزلة والمنفى، ليس على مستوى الممارسة أو على مستوى المضمون، بل هي عزلة من مناحي عديدة، تصل إلى عزلة القراءة، لكن ما يطبع مسار هذا الشعر، على الرغم مما يحمل من تراجيديا الفهم والإدراك، هو قدرته على احتواء الاضطراب والتيه بصفته معنى يعلو كل المعنى، يسايره الشعراء بالنبوءات وطرح السؤال، والتحرق على مصير ملغوم غير مدرك ولا فجر له. ومع ذلك، الشعر المغربي في الألفية الثالثة يصرخ بكل حروفه الجهورية في وجه القتامة والطرق المسدودة.

كاتب مغربي

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية