ما المقصود بشعر الراهن؟

حجم الخط
1

إن الحداثة غير الحديث، وبينهما اختلاف كبير، فالشعر الحداثي جزء من الشعر الحديث باعتبار الزمن، غير أن الشعر الحديث لا يقصد به الأنماط الحداثية وحدها، إنما ما كتب حديثا، وإن كان وفق الطرق التقليدية، مجردا من خلفياته الفلسفية وتوجهاته المعرفية والأيديولوجية. ثم إن من أبرز مظاهر الحداثة في الشعر المغربي ما وصلت إليه القصيدة من وعي كتابي كبير، وما قدمت من مساهمات في تكوين شخصيته ورسم ملامحه وتفاصيله، ومن ثم فإن الشعر الحداثي أشمل من الشعر الحديث، من حيث الحمولة المعرفية التي يمتلكها المفهوم، بينما الشعر الحديث أشمل زمنيا، أو بمقولة أخرى، مفهوم إطار لما كتب منذ فترة التقليد إلى يومنا.
لكن لا تقف عملية خلق المفاهيم عند هذا الحد، بل أصبحنا أمام «شعر الراهن» الذي يتخذ لنفسه مكانة بين مفاهيم عدة محاولا التعبير بدقة عن وضعية شعرية معينة، والأكيد أن ثمة اختلاف كبير بين هذا المفهوم وما ذكرنا سابقا. إن الكتابة اللحظية، بمعنى ما، كتابة راهنية، وما يكتب الآن في زمننا القريب، أو في الحاضر، يمثل تجسيدا لكتابة الراهن بشكله العام، فيكون الشعر الراهني ضرب من الشعر الحديث من حيث الزمن، غير أن الحديث أوسع منه باعتبار المنطلق الأساس المتصل بالفكرة والتنفيذ والبداية، وباعتبار المسايرة الزمنية ذاتها، معنى ذلك، أن مفهومي الشعر الحديث والشعر الراهني متصلان بالنظر إليهما زمنيا، غير أنهما يختلفان في ضبط الفترة، وذلك مدار الإشكال الذي يفرض نفسه بالتساؤل حول الأسس التي ترجح أن هذا الشعر المكتوب الآن راهني، وعن خصائص تميزه ومعايير فنية من حيث بنية الشكل أو بنية الموضوع، تخصصه عن غيره، أما ما يبدو مستعصيا بشكل كبير في تحديد هذا المفهوم، تطور الزمن وسيره المستمر، فما كتب اليوم وكان «راهنيا» يمكنه أن يصبح «حديثا» بعد مرور فترة زمنية أخرى طويلة كانت أم قصيرة، إذا ربطناه بمنطلق الشعر الحديث وسيرورته المتنامية.
ولسنا ندري من جهة ثانية، دوافع استعمال هذا المفهوم، خصوصا في الدرس النقدي، إذا كانت رامية للتنظير إلى تيار بخصائص تحدده وتميزه، بحيث يكون قادرا على تمثيل نفسه لا زمنه كضرورة أولى، وذلك يستدعي البحث عن خلفيات معرفية أساس ومنطلقات فكرية جديدة غير مقتصرة على الزمان والفضاء، أو إذا كان مجرد استعمال طبيعي تقتضيه ضرورة التعبير عن فترة محددة، ثم يموت بموتها ويبقى داخل الإطار المعروف، الحديث أو الحداثي.

ثمة من يُقصر الشعر الراهني على التفعيلة والنثيرة، على أساس أن رواجهما وجنوح مختلف الشعراء لهما شكّل قوة لحظية، لكن المعيار الأول لذلك كمي بالنظر إلى حجم الإنتاج المنشور في هذين النوعين، غير أن قصيدة الهايكو في المغرب مثلا أخذت تشكل ملامحها في الفترة نفسها التي تتشكل فيها الكتابة الجديدة، وهما يسيران معا جنبا إلى جنب.

لقد وقف الكثير من الدارسين على هذا المفهوم، من حيث الاستعمال، باعتبار الدلالة التاريخية وما يتصل بالمفهوم من معاني فضفاضة، فما يكتب في الراهن، لا يمكن أن يكون تيارا واحدا، يتفق بالضرورة على خصائص بعينها، وذلك راجع إلى الانخراط الكبير لشعراء مختلفين في الزمن والتوجهات والاختيارات، بين التشبث بأعراف الشعر القديم، أو التمسك بتقاليد شعر التفعيلة أو اللجوء إلى رحابة قصيدة النثر أو الإقبال على نصوص الهايكو والشعر الرقمي في صورته الافتراضية، إلا إذا كان مفهوم «شعر الراهن» قادرا على استيعاب كل هذه الأنواع وتعددها، بما أن الراهن الشعري في المغرب، لا يقتصر فقط على نوع دون غيره، لكننا في المقابل نجده يتكون من تلال متفرقة، يمثل كل تل اتجاها ويدافع عنه.
وبالتالي، من الضروري على مستعملي هذا المفهوم الرائج بكثرة، الوعي بما يحتضن من معاني وأنواع شعرية مختلفة، ولا تكون الدراسة التي تعتمده كاملة، في اعتقادي، إلا إذا أحاطت براهن الشعر من كل هذه المناحي ولمت شملها، فلا يقتصر الراهن على كتابة جديدة واحدة، ولا على كتابة قديمة، وقد انخرطت النصوص الجيلية في الراهن، إلى جانب انخراط كتاب قصيدة النثر والتجربة الجديدة أو شعراء الحساسية، فالراهن إذن، يجسد اللحظة الإبداعية التي يتشارك فيها النص التقليدي والتفعيلي والمنثور والهايكو والرقمي، مشاركة زمنية من حيث التاريخ، ودلالية من حيث الإنتاج، ولعل أبرز ما يقدمه هذا المفهوم، القدرة على جعل أزمنة مختلفة في لحظة واحدة، في آن واحد.
ثمة من يُقصر الشعر الراهني على التفعيلة والنثيرة، على أساس أن رواجهما وجنوح مختلف الشعراء لهما شكّل قوة لحظية، لكن المعيار الأول لذلك كمي بالنظر إلى حجم الإنتاج المنشور في هذين النوعين، غير أن قصيدة الهايكو في المغرب مثلا أخذت تشكل ملامحها في الفترة نفسها التي تتشكل فيها الكتابة الجديدة، وهما يسيران معا جنبا إلى جنب. فينبغي عدم إقصائها في قولنا «شعر الراهن» إلا إذا كان رفضا لها، رفضا ذوقيا لا غير. إننا إذن أمام مفهوم فضفاض ومجرد، يستوعب كل ما من شأنه أن ينتج داخل لحظة آنية، تتدفق فيها الشعرية المغربية من مختلف منابعها ومشاربها، وبالتالي فشعر الراهن يستمر ويتمدد مع فجر كل لحظة جديدة وولادة قصيدة أو نص، مع أن التصور هذا غير محدد، فمتى بداية شعر الراهن ونهايته، ما دمنا نستند إلى لحظة زئبقية في عملية توليد النصوص، لحظة منفلتة تتمنع على القبض.
يبقى هذا المفهوم كثير التداول رغم ذلك، مع أنه لا يلزم فقط نوعا شعريا واحدا، أو نوعين، بل لا بد من استعماله للإحاطة بما يتم إنتاجه في مختلف أنواع شعر الآن، والبحث عن خصائص تميزه جماليا وإبداعيا، تكون مرتبطة معرفيا بالمفهوم، لا بالضرورة عن خاصية التاريخ والزمن، ويكون الاعتماد عليها في تمييز نص عن غير، فراهن الشعر متوتر إلى أقصى حد، تتعايش فيه الأنواع الأدبية كما لم تكن من قبل، وتكثر فيه التصورات المتباينة والمتضاربة زمنيا وإبداعيا، فكتابات الألفية الثالثة تتلاقح مع كتابات الجيل السبعيني في لحظة إنتاج واحدة اليوم، وهما معا كتابات الراهن، وراهن الكتابة، وهذه النقطة فقط تكفي لإعادة تدوير المفهوم وتحديد منطلقاته ومخرجاته.

كاتب مغربي

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول شهدان باريس:

    موضوع جميل جمال اللغة العربية والتي تعتبر من اغني اللغات لكن تخلي الأهل عنها يزيدها اوجاعا وأري أن الأجيال الصاعدة الغائبون عن القراءة وما اخبارك عن الكتابة الكل تائه بين وسائل التواصل الاجتماعي مما جعله يفقد حتي لسانه ولا يتذوق حلاوة أية اللغة وربما حتي لهجته ,شكرا لكاتبنا .

إشترك في قائمتنا البريدية