ريبيكا روث غولد في «محو فلسطين» يشكل صفعة موجعة لـ«صناعة العداء للسامية»

سمير ناصيف
حجم الخط
0

كيف تستخدم إسرائيل وحلفاؤها في العالم الغربي والعالم عموماً مفهوم «العداء للسامية» من أجل تمرير سياساتها العدوانية في فلسطين والعالم العربي والشرق الأوسط؟ وكيف تتلطى الجهات الصهيونية وراء هذا المفهوم والتعديلات والتحريفات التي أضافتها إليه في محاولتها تجاوز الرؤية الإنسانية حالياً وفي فلسطين والعالم العربي في السنوات الماضية؟

هذا ما يتضمنه كتاب بعنوان: «محو فلسطين: حرية التعبير وحرية فلسطين» لكاتبته الأمريكية ريبيكا روث غولد، التي عاشت في فلسطين المحتلة وشاهدت بأم عينيها التجاوزات التي يمارسها جيش الاحتلال الإسرائيلي ضد الشعب الفلسطيني هناك فكتبت مقالاً بعنوان: «ما بعد مفهوم العداء للسامية» في عام 2011 كلفها وظيفتها كمحاضرة في جامعة بريستول البريطانية عام 2017 بعد حملة شعواء نظمتها الأوساط البرلمانية والصحافية المؤيدة للصهيونية في بريطانيا ضدها تخاذلت أمامها إدارة تلك الجامعة خشية من مواجهة القضاء البريطاني في هذه القضية.
تفاقم المشكلة للمؤلفة سببتها مجموعة منحازة للصهيونية من نواب حزب المحافظين البريطاني في فترة كانت خلالها تحت قيادة رئيسة الوزراء تيريزا ماي عام 2016 و2017.
فماي قررت في 12 كانون الأول (ديسمبر) 2016 اعتماد تعريف جديد لمفهوم العداء للسامية خلاصته أنّ انتقاد سياسات إسرائيل يشكل عداء للسامية، وبالتالي تجاوز هذا التعريف ما سبقه في العقود الماضية من تعريف بأنه كره لمعتنقي الدين اليهودي باعتبارهم يهوداً وعدم الاعتراف بانهم تعرضوا لمحرقة بشعة في عهد النازية في ألمانيا في الحرب العالمية الثانية الذي كان التعريف المقبول عالمياً لذلك المفهوم.
وبالتالي، نشط نواب حزب المحافظين آنذاك والمنتمون منهم إلى (جبهة النواب البريطانيين اليهود) في التهجم على الأكاديميين والصحافيين والكتّاب الذين ينتقدون ممارسات إسرائيل في شن حملات تهويل ضدهم في المؤسسات التي يعملون فيها. ورافقهم في هذه «المهمة» حلفاؤهم في الكونغرس الأمريكي وفي المؤسسات الحقوقية الأمريكية والغربية خصوصاً في بعض دول أوروبا واستمرت هذه الحملة حتى الساعة.
ففي شباط (فبراير) 2017 تذرع تلميذ في جامعة بريستول البريطانية بانه قرأ مقالاً لمؤلفة الكتاب صدر في عام 2011 في مجلة «كاونتر بانش» تنتقد فيه ممارسات إسرائيل ضد السكان الفلسطينيين كما لاحظتها غولد خلال إقامتها في رام الله وعملها في القدس وتنقلها في تلك المنطقة والمضايقة التي كان يفرضها الجنود الإسرائيليون على الحواجز ضد السكان الفلسطينيين بانتقائية والتي كانت تحطم معنوياتهم وتشعرهم بالذل وبأنهم سكان من الدرجة الثالثة.
فبادر النائب المحافظ أريك بيكلز، الذي أوكلت إليه تيريزا ماي الدفاع عن المفهوم الجديد المنحاز للعداء للسامية، وطلب من مجلس إدارة جامعة بريستول إما طرد المؤلفة أو اجبارها على التراجع عما كتبته في مقالها عام 2011 وطبعاً رفضت غولد هذا الموقف وخسرت منصبها في الجامعة، علماً أن عمليات مشابهة جرت وتجري ضد أكاديميين آخرين في بريطانيا وأمريكا وبلدان أخرى، ما جعل الحياة صعبة جداً من الناحية المادية لهؤلاء الأكاديميين إذ يصعب إيجاد وظائف ومناصب في جامعات أخرى بعد ما يتعرضون للطرد من جامعاتهم لأسباب سياسية «مسلكية».
وفي السنوات والأشهر الأخيرة، تقول المؤلفة، طورت إسرائيل وبعثاتها وحلفاؤها في العالم استخدام هذا التعريف الجديد المنحاز للعداء للسامية ليشمل أيضاً العداء لإسرائيل، وذلك من أجل تحقيق أهداف سياسية والتغطية على الإجرام الإسرائيلي الذي يرتكب بحق الفلسطينيين على أرضهم وفي العالم حالياً وسابقاً.
وفوجئت المؤلفة غولد عندما أدركت لاحقاً بأن نواب (جبهة النواب البريطانيين اليهود) في البرلمان البريطاني كانوا يوجهون رسائل تهديد إلى رئيس جامعة بريستول إذا لم يتخذ إجراءات بحقها وطردها. وبعد ذلك، نقلوا حملتهم إلى صحيفتي «دايلي تلغراف» و«التايمز» وبدأت الأسئلة تنهار عليها من محرري هاتين الصحيفتين وغيرهما علماً أن فحوى هذه الرسائل كانت إذا كانت غولد تقبل بوجود دولة إسرائيل وبشرعية اعتماد المواقف الصهيونية القومية الدينية فيها؟
ولعله من المفيد هنا الذكر بأن وسائل أخرى مشابهة استُخدمت ضد محررات ومحررين في تلفزيون (هيئة الإذاعة البريطانية) في تلك المرحلة وضد قادة سابقين لحزب العمال البريطاني على شاكلة الزعيم السابق للحزب جيريمي كوربن، المؤيد لفلسطين ولحقوق الفلسطينيين، فعندما دعت المسؤولة في برنامج «نيوز نايت» في الهيئة ايميلي مايتليس رئيس الحكومة العمالية السابق توني بلير (أحد داعمي زعيم حزب العمال الصهيوني الميول حالياً كيرستارمر) لمقابلة تلفزيونية حول الانتخابات الاشتراعية في تلك الفترة اشترط بلير أن تركز المقابلة على موضوع «العداء للسامية» الذي استخدمه كير ستارمر وأعوانه لاحقاً لإقصاء جيريمي كوربن عن عضوية وزعامة حزب العمال، وقد تحفظت واستغربت مقدمة البرنامج ايميلي مايتليس إزاء دوافع شرط بلير كما كتبت في مذكراتها، علماً أن نائبة زعيم حزب العمال حالياً هي رفيقة حياة نجل توني بلير يوان بلير، واسمها أنجيلا راينر وقد نشطت في الحملة التي شنتها مجموعة نواب اليمين في الحزب لإخراج كوربن من عضوية وزعامة الحزب بحجة انه حضر مناسبة اجتماعية في بريطانيا كانت تقام لذكرى وفاة قائد فلسطيني وألقى كلمة خلالها وان تصريحاته عموماً تؤيد الحق الفلسطيني وتنتقد إسرائيل. وبالتالي، ألبس كوربن ثوب العداء للسامية بدعم إعلامي وعن طريق المؤيدين للصهيونية وإسرائيل في حزب العمال كما أُلبست غولد ثوب العداء للسامية من قِبل أرباب الصهيونية وإسرائيل في حزب المحافظين البريطاني.
هذا التوجه (برأي المؤلفة) خطير ومضر جداً بحق اليهود والفلسطينيين في العالم في المدى البعيد وفي أمريكا وبريطانيا وأوروبا حالياً.
وتستشهد المؤلفة بأقوال المفكر اليهودي اليساري البارز اسحق دويتشر (المتوفي عام 1967) والذي قال قبل وفاته باشهر: «يجب ألا نسمح نحن كيهود باستخدام محرقة اوشفيتز وأمثالها التي ارتكبها هتلر ومعتنقو ايديولوجيته النازية ضدنا لدعم ممارسات بشرية غير عادلة في العالم». (ص6).
وتعتبر الكاتبة أن إسرائيل وأعوانها في العالم يستخدمون العداء للسامية لارتكاب المجازر ضد الفلسطينيين وأن مفكري العالم الأحرار في حالة رعب وخوف من استخدام هذا المبدأ ضدهم إذا قاموا بانتقاد ممارسات إسرائيل السابقة والحالية استناداً إلى التعريف الجديد الذي فرضته «الجمعية الدولية لتذكر الهولوكوست» في عام 2016 وطبقته الحكومة البريطانية المحافظة تحت قيادة تيريزا ماي في العام نفسه والذي بدأ تنفيذه وممارسة التنكيل بضحاياه في عام 2017 وبينهم الكاتبة والذي هدفه في النهاية «محو فلسطين ومؤيديها من خريطة العالم».
وتأسف الكاتبة، وهي أمريكية الجنسية، أن المملكة المتحدة التي أصدرت وعد بلفور في عام 1917 بادرت وبعد مئة عام تقريباً بإصدار وإقرار هذا التعديل على مفهوم العداء للسامية والذي مهمته الرئيسية كمّ الأفواه المعارضة للتنكيل بالشعب الفلسطيني والذي تعتنقه مجموعات فاعلة في حزبي بريطانيا الرئيسيين المحافظين وحزب العمال والذي استُخدم للسيطرة على المعارضين له بداخل هذين الحزبين والأحزاب الأخرى. وهذا الأمر ينطبق أيضاً حسب قولها على ما يحدث داخل الحزبين الرئيسيين في الولايات المتحدة: الحزب الجمهوري والحزب الديمقراطي بحيث تتسابق وتتنافس قيادتيهما على تأييد وحماية ممارسات إسرائيل القمعية والمتجاوزة للشرائع الدولية في فلسطين بحجة مواجهة «مبدأ العداء للسامية» الذي أصبح يعني انتقاد ومواجهة إسرائيل حتى ولو كانت تحت قيادة سياسيين يرتكبون المجازر البشعة غير الإنسانية ضد الفلسطينيين والعرب.
وتفسر الكاتبة لماذا اختارت عنوان كتابها محو فلسطين قائلة في الفصل الأول منه: «في وقت كانت تجري خلاله إعادة تعريف مفهوم العداء للسامية في القرن الواحد والعشرين كانت إسرائيل تسعى إلى محو فلسطين من خريطة المنطقة وتستولي على المزيد من الأراضي الفلسطينية وتمارس تفتيت فلسطين أمام أنظار العالم برمته، كما تحاول إعادة تجميع ما تبقى من هذا الوطن بطريقة تلائم مصالحها ومصالح حلفائها». (ص 29). علماً أن الكتاب أُنجز في فترة سابقة لعملية «طوفان الأقصى» التي بدأت في تشرين الأول (أكتوبر) 2023.
وتضيف الكاتبة: «عندما تغزو إسرائيل غزة، تهب الجماهير الفلسطينية في الأراضي المحتلة للدفاع عن أرضها وتنطلق الدعوات المغرضة في الوقت عينه في العالم الغربي للمواجهة ولشن الحرب الأجنبية ضد «الإرهاب» ولتطبيع وتمرير مشاريع الاستيلاء الاستيطاني على الأراضي الفلسطينية في وسائل الإعلام العالمية ولدعم مشروع الاستيطان وكأنه أمر طبيعي». (ص 30).
إن «محو فلسطين» يجري برأي الكاتبة «في ثلاث وجهات: الأولى، في إعادة تعريف وتسمية الأمور في القدس وغيرها حسب رغبات إسرائيل وفي بعثرة وتقسيم حياة الفلسطينيين ومجموعاتهم الاجتماعية وعائلاتهم وإدخال الصعوبات على تواصلاتهم الإنسانية الاجتماعية عن طريق بناء الجدران وتصعيب طرق المواصلات وفرض القوانين المجحفة للامتلاك، وثالثاً (والأهم برأي الكاتبة) بمنع حرية الرأي وحرية التعبير وحظر انتقاد ممارسات إسرائيل غير الشرعية عبر تغيير تعريف المفاهيم كمبدأ العداء للسامية ليصبح اعتناق هذا المفهوم تهمة بالعداء لإسرائيل التي يتوجب ممارسة العقاب تجاهها ما ينفي حق الفلسطينيين وحلفائهم بالمطالبة بالأراضي التي استولت عليها إسرائيل بالقوة وسلبتهم اياها في ظل المعاقبة بخسارة الحقوق والوظائف والمردودات المادية والحياتية». (ص 30).
والأمر اللافت في هذا المجال (حسب المؤلفة) أن إسرائيل كانت في الحقب الماضية يهمها بقاء فلسطينيين خاضعين لمشيئتها داخل الكيان الذي فرضته في دولتها التي تحققت بواسطة العنف، لكي تقدم إلى العالم صورة بانها تخضع للشرائع الدولية… ولكن، حالياً يُطرح السؤال عما إذا كانت ما زالت إسرائيل تعتنق هذا التوجه أو تخلت عنه؟ وتتساءل غولد، كما تساءل أسحق دويتشر قبلها، «لماذا على العرب والفلسطينيين أن يدفعوا ثمن الجرائم التي ارتكبتها مجموعة من الدول الغربية (وفي طليعتها ألمانيا) بحق الشعب اليهودي؟ وإذا كان الغرب يشعر بالذنب إزاء هذه الجرائم، فلماذا على الشعب الفلسطيني والشعوب العربية تحمله؟».
ويضيف دويتشر: «هذا المنطق الذي يتفاخر بالنتائج الإيجابية لاعتماد العنف والانتصار في الحروب (منذ عام 1967) سيكون كارثياً بالنسبة لإسرائيل ولقبولها في المنطقة في المستقبل». (ص 46). فالعداء للسامية وكره إسرائيل (حسب ما ترى المؤلفة تأييداً لدويتشر) سيتزايدان في المنطقة والعالم، ومحاولات إعادة تعريف العداء للسامية للاعتداء على حرية الرأي في انتقاد إسرائيل في الدول الغربية والعالمية قد يكون مجدياً في المدى القصير ولكنه سيكون سلبياً في المدى البعيد. فأهم وأقوى أعداء مثل هذا التوجه (برأيها) سيكونون هم الراديكاليون اليهود الذين كانوا يعتنقون هذا التوجه المعارض قبل رجحان كفة الصهيونية، ولكن الدول الامبريالية الاستعمارية الغربية قررت عدم التعاون معهم وعدم المشاركة في مواقفهم وفضلت مشروع «وعد بلفور» وحاييم وايزمان في إنشاء دولة إسرائيلية على أراضي فلسطين كما خططت له الصهيونية العالمية.
وتقول المؤلفة إن الراديكاليين اليهود الذين عارضوا «وعد بلفور» عام 1917 خلقوا أحفاداً سيعارضون مشاريع إسرائيل وحلفائها بعد مئة سنة ونيف وخصوصاً في إعادة تعريف العداء للسامية ومحاولة محو فلسطين من الوجود. (ص 50 ـ 53). وتعتبر غولد أن «وعد بلفور» وتطبيق عملية تسليم فلسطين لليهود كان خطأ يُعاد ارتكابه حالياً في تبديل المفاهيم والمواقف بالنسبة إلى الصهيونية والعداء للسامية. (ص 57 و58).
وتأسف الكاتبة لكون رئيسة الوزراء البريطانية السابقة تيريزا ماي أعلنت عام 2018 ولدى دعوتها للاحتفال بمرور مئة عام على «وعد بلفور» بانه لا يوجد مكان للعداء للسامية وللعنصرية ضد المجموعات الأثنية والجندرية المهمشة في المملكة المتحدة، ولكنها استثنت وتغاضت عن التركيز على شجب ومنع ممارسة «الإسلاموفوبيا» (كره المسلمين لأنهم يعتنقون الإسلام) ولأن بعض قيمهم تختلف عن القيم الدينية في المجتمعات الغربية. (ص 93). هذه الازدواجية في الموقف، اعتبرتها المؤلفة مؤسفة ومتناقضة ومفسرة لأسباب التخاذل الغربي في الدفاع عن حقوق الشعب الفلسطيني وممهدة لتبرير التجاوزات والوحشيات الإسرائيلية تجاهه.
الكتاب يذكرُ وقائع هامة وممارسات سلبية ارتكبتها مؤسسات أكاديمية وثقافية وإعلامية ضد أكاديميين وكتّاب وقادة الرأي الحر، وبعضهم عانى كثيراً وما يزال يعاني بسبب انعكاساتها ولذلك فكتاب غولد، كما وصفته الأكاديمية الفلسطينية البارزة الدكتورة غادة الكرمي، يشكل صفعة موجعة لما سمته الكرمي «صناعة العداء للسامية» الساعية إلى إسكات الفلسطينيين ومؤيديهم في العالم ومحو فلسطين من التاريخ.

Rebecca Ruth Gold: «Erasing Palestine»
Verso, London/NY 2023
170 pages.

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية