روري كارول في «قتلُ مارغريت ثاتشر»: مجرمون أم مقاومون؟ تجربة الجيش الجمهوري الإرلندي

 سمير ناصيف
حجم الخط
0

هل هناك حدود على أي مقاومة وطنية عدم تجاوزها في صراعها العسكري الميداني مع الجهات التي تقمعها وتعتدي على حقوقها وقدرتها على التحررّ من الاحتلال؟
هذا أحد الأسئلة الهامة والمرتبطة بالأوضاع الحالية في فلسطين وفي الشرق الأوسط والعالم الذي يطرحه كتاب صدر مؤخراً بعنوان «قتلُ مارغريت ثاتشر: الجيش الجمهوري الإرلندي وحربه الطويلة الأمد ضد العرش البريطاني» لمؤلفه روري كارول.
هذا الكتاب يتناول التفجير الذي نفذهُ أحد أركان الجناح العسكري لـ «الجيش الجمهوري الإرلندي» في فندق غراند في مدينة برايتون البريطانية الساحلية في خريف عام 1984 والذي أدى إلى وقوع عدد كبير من الضحايا وكان على قاب قوسين أو أدنى من اغتيال ثاتشر انتقاماً من سياساتها المتشددة والقاسية ضد المعتقلين من منفذي عمليات الجيش الإرلندي في السجون البريطانية ومعاملتهم كسجناء عاديين بدلاً من معتقلين سياسيين ما أدى إلى إضرابهم عن الطعام ووفاة عدد منهم بينهم الكاتب والشاعر بوبي ساندز. وبرغم أن الكاتب يسرد وقائع توصل إليها بعد أبحاث دقيقة وطويلة وإثر مقابلات مع كبار أعضاء الأجهزة الأمنية البريطانية التي اعتقلت منفذ العملية باتريك ماكغي مع أبرز أعضائها، فإنه كتب وكأنه رواية مثيرة وأجمع اختصاصيون في حقول السياسة والصحافة والأمن والأدب الروائي على القدرة الفائقة للكاتب في جمع هذين الحقلين في كتاب واحد.
وبما انه على أي مُراجعٍ لأي كتاب اختيار المنحى الذي يراه أكثر أهمية فيه وبسبب تشابه ما ورد فيه مع عمليات مقاومة جرت وتجري في الشرق الأوسط حالياً، تّم التركيز في هذه التغطية على دور جيري آدامز، كبير قادة الجيش الجمهوري الإرلندي ورئيس جناحه السياسي «شن فين» في تلك الحقبة في الإشراف و«دوزنة» عمليات المقاومة العنيفة التي نفذها ماكغي في بريطانيا وما تبعها وفي طليعتها عملية تفجير فندق غراند في برايتون.
يؤكد الكاتب أن آدامز كان يخوض صراعاً سياسياً ضد معارضين لمواقفه في «اللجنة التنفيذية للجيش الجمهوري الإرلندي» وعملياتها إذ كان آدامز يحسب حساب ما سيحدث لاحقاً وبعد تنفيذ هذه العمليات في بريطانيا على الصعيد السياسي، فقد كان مؤمناً بذكاء بأن المقاومة المسلحة هي وسيلة للوصول إلى تحقيق الانتصار السياسي وليست فقط هدفاً في حد ذاته. وبالتالي، خاض الانتخابات الاشتراعية في إرلندا الشمالية بعد وفاة المقاوم بوبي ساندر في السجن وفاز فيها. كما حثَ أنصار «شن فين» (الجناح السياسي للجيش) على خوض الانتخابات أكان ذلك في إرلندا الشمالية التي تتبع المملكة المتحدة سياسياً أو في إرلندا الجنوبية المستقلة عن المملكة.
وفاز آدامز في بلفاست بمقعد برلماني في مجلس العموم البريطاني، كما تبعه آخرون وخاضوا مشروعه السياسي في هذا المجال وأصبح حزب «شن فين» حالياً كما توقع يمثل الأكثرية في المجلس التمثيلي في إرلندا الشمالية. كما أن هذا الحزب هو في طريقه ليصبح حزب الأكثرية الحاكمة في إرلندا الجنوبية وربما في الطريق نحو توحيد إرلندا في العقود اللاحقة. ويطرح المؤلف سؤالاً هاماً في هذا المجال قائلا: «ماذا لو نجح اغتيال ثاتشر في فندق غراند في برايتون عام 1984؟ وهل كان الزعيم البريطاني المحافظ الذي سيحتل منصبها من بعدها سيقبل بتنفيذ اتفاقية عام 1985 التي سمحت فيها إنكلترا لقيادة إرلندا الجنوبية بالمشاركة في القرارات المصيرية المتعلقة بإرلندا الشمالية؟ علماً أن هذه الاتفاقية مهدت بعد ذلك بسنوات (عام 1998) وفي عهد الحكومة البريطانية العمالية لتوقيع اتفاقية الجمعة العظيمة التي أوقفت العنف في إرلندا الشمالية والتي تخلى بعدها «الجيش الجمهوري الإرلندي» عن القيام بعمليات تفجيرية ضخمة في أراضي بريطانيا وقرر العمل السياسي تحت مظلة حزب «شين فين». وبالتالي، صار بإمكان جيري آدامز زيارة بريطانيا ولقاء حلفاء حزبه من سياسيي إنكلترا من دون أن يعتقل.
كل ذلك لا ينفي انه، وفي الكتاب، يشير كارول إلى أن ثاتشر أرادت أن ينفذ حكم الإعدام بباتريك ماكغي ورفقائه منفذي عملية فندق غراند والعمليات التفجيرية الأخرى، وطرحت حكومتها مشروعاً في مجلس العموم البريطاني في هذا الصدد ولكن النواب البريطانيين أسقطوه، وبالتالي حُكم على ماكغي ورفاقه بالسجن المؤبد على ان يقضي ماكغي نفسه 35 عاما على الأقل في السجن. ولكنه نفذ 14 عاما فقط من هذا الحكم، إذ تقرر الإفراج عنه بعد توقيع اتفاقية الجمعة العظيمة في أواخر تسعينيات القرن الماضي. وكان هذا القرار أحد الشروط التي وضعها جيري آدامز وقيادة حزبه على حكومة إنكلترا مقابل توقيعهم على الاتفاقية مع الحكومة البريطانية. وقد نفذ في عام 1999 وخرج آنذاك ماكغي من السجن. الكتاب يصف أيضا الأوضاع الاجتماعية الصعبة التي عاشها ماكغي وآدامز وغيرهما من الذين انتسبوا إلى «الجيش الجمهوري الإرلندي» وهي تشبه إلى حد كبير الأوضاع الاجتماعية التي عاشها ويعيشها أبناء الشعوب القابعة تحت الاحتلال والذين ينضمون إلى حركات المقاومة الوطنية في بلدانهم ويكونون مستعدين للتضحية بحياتهم في سبيل تحرير أوطانهم في فلسطين وفي العالم العربي والإسلامي عموما وفي أماكن أخرى من العالم.
وما زال أعضاء حزب جيري آدامز يدعون إلى توحيد شطري إرلندا الشمالي والجنوبي برغم مشاركتهم في حكومة وبرلمان إقليميين في برلمان بلفاست (شمال إرلندا) مع خصومهم البروتستانتيي التوجه المتمسكين بانتساب إرلندا الشمالية إلى بريطانيا العظمى، علما ان معظم مؤيدي حزب «شن فين» هم من طائفة الكاثوليك وذلك على الرغم من أن الخصومة بين الجهتين هي قومية أكثر منها دينية مسيحية لاهوتية.
ويقول المؤلف في الصفحة 339 من كتابه إن سياسة جيري آدامز حولته من قائد مقاومة وطنية عسكرية إلى رجل سياسة مُعترفا به حتى من خصومه.
وانه برغم تخليه عن قيادة «شن فين» في عام 2018 فما زال كبير النفوذ في الحزب والحركة في شطري إرلندا، كما انه ما زال يحاول تغطية دوره في اللجنه التنفيذيه لـ «الجيش الجمهوري الإرلندي» من خلال تنفيذ العمليات التفجيرية في بريطانيا المسماة لجنة إنكلترا.
حاليا، يقول كارول أصبح حزب «شن فين» حزب الأكثرية في برلمان إرلندا الشمالية وتتزعمه الرئيسة المنتخبة للحكومة في بلفاست. ويحتل منصب نائبها قائد حزب «آلستر الوحدويين» المعارض لوحدة شطري إرلندا وذلك بعد تفاهم الجهتين المتخاصمتين في المقاطعة.
بالنسبة لعامل الصدفة في القبض على ماكغي فإن أحد ضباط الشرطة البريطانية في إرلندا الشمالية كان يُشرف على عملية تعقّب لأحد أعضاء «الجيش الجمهوري الإرلندي» الذي يسافر بحراً إلى إسكتلندا واسمه بيتر شيري. وبعد وصول شيري إلى الشاطئ الإسكتلندي التقى باتريك ماكغي في إحدى الحانات دون ادراكهما بانهما كانا تحت مراقبة الشرطة الإسكتلندية. ماكغي المعتقل نشط وهو في السجن في القراءة والأبحاث ونال شهادة أكاديمية من الجامعة البريطانية المفتوحة، واختار حياة مختلفة عن حياة المقاومة العنيفة بعد خروجه من السجن، حيث أصبح من مؤيدي عمليات التفاهم والتفاوض لتحقيق الحلول للقضايا السياسية، وألّف كتباً في هذا المجال، حسب ما قال المؤلف.
ولابدّ، في سياق مراجعة هذا الكتاب، تناول ما ورد فيه عن علاقة «الجيش الجمهوري الإرلندي» بالزعيم الليبي الراحل معمر القذافي الذي كان مؤيداً للعمليات التي نفذها الجيش ضد حكومة مارغريت ثاتشر في حقبة الثمانينيات من القرن الماضي، بما في ذلك عملية تفجير فندق غراند في برايتون في خريف عام 1984. في الصفحة 118 يقول المؤلف إن القذافي التقى عضو المجلس التنفيذي العسكري في الجيش الإرلندي الجمهوري جو كاهيل بناء على طلب من العقيد الليبي.
وقد رحّب القذافي بكاهيل وأعوانه الذين زاروه في طرابلس الغرب حسب قول كاهيل للمؤلف. كما أشار كاهيل إلى أن القذافي رأى بأن وحدة شطري إرلندا تشكل جزءاً من الصراع ضد الامبريالية العالمية، وسأله عما يريده «الجيش الجمهوري الإرلندي» من مساعدات.
وبعدما أبلغه كاهيل عن الحاجات يضيف المؤلف: «غادر كاهيل ورفاقه الشاطئ الليبي على متن الباخرة كلوديا المحملة بخمسة أطنان من المدافع والمتفجرات السوفييتية الصنع، ولكن دائرة خفر السواحل الإرلندي احتجزت الباخرة وقبضت على كاهيل وزوجته وسجنته لمدة ثلاث سنوات»(ص119). وبالتالي، اضطر الجيش الإرلندي إلى فتح قنوات للمساعدة العسكرية مع القيادات الإرلندية الأمريكية.
غير أن القذافي عاد وفتح النافذة مع «الجيش الجمهوري الإرلندي» في عام 1982 حسب المؤلف، وخصوصاً مع جناحه الراغب باستمرار ممارسة العنف ضدّ بريطانيا الجناح المؤقت في الجيش الإرلندي، وقد تأثر القذافي بالاضراب عن الطعام الذي مارسه السجناء من الجيش في السجون البريطانيه وفي طليعتهم بوبي ساندز.
وقررّ الزعيم الليبي مواجهة الرئيس الأمريكي رونالد ريغان ورئيسة الحكومة البريطانية مارغريت ثاتشر عن طريق المزيد من الدعم للجيش الجمهوري الإرلندي، وخصوصاً بعد إسقاط الطيران العسكري الأمريكي طائرتين حربيتين ليبيتين وشن هجوم ضد ليبيا. واعتبر القذافي أن ثاتشر هي مشاركة فاعلة في الجريمة ضد ليبيا، وبالتالي «أراد سماع المزيد من حلفائه الإرلنديين عن عملياتهم ضدهاً» ص128.
وفي ختام كتابه يقول كارول إن الأطروحة التي كتبها ماكغي خلال سجنه تحولت إلى كتاب أكاديمي بعنوان: «مجرمون أو مقاومون؟ ممثلو الجيش الجمهوري الإرلندي». كما أقام ماكغي علاقة صداقة مع إبنة أحد ضحايا انفجار فندق غراند النائب انتوني بيري واسمها جوان بيري وأصبحا معاً من دعاة اعتماد التفاهم والتصالح في القضايا السياسية. واعترف ماكغي في إحدى مقابلاته بالمشاركة مع جوان بيري عن والدها بانه «قتل إنساناً صالحاً لا يستحق القتل». وقال إنه يشعر بالندم بسبب الألم الذي سبّبه لضحاياه ولكنه «ما يزال يعتبر بأن تفجيره لفندق غراند في برايتون عام 1984 كان عملاً عسكرياً مشروعاً».
وعندما سألته جوان عما إذا كانت المعاناة التي سبّبها التفجير في برايتون تساوي دوافعه الوطنية، فضّل ماكغي عدم الإجابة على السؤال. وماكغي حالياً هو في السبعينيات من عمره، وقد كتب كتباً أخرى، وما زال على علاقة جيدة بجيري آدامز وجوان بيري، ومتمسكاً بمشروع وحدة شطري إرلندا، الذي ربما سيتحقق في المستقبل.

Rory Carrol: «Killing Thatcher»
Mudlark (Harper Collins), London 2024
397 Pages.

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية