«روزا اليوسف» و«صباح الخير» وشارع القصر العيني

أماكن كثيرة تغيرت في مصر وصارت مثل الحلم الضائع. ملامح كثيرة من الثقافة في العمارة والبشر ضاعت. أحداث كثيرة جرت وتم تشويه الكثير، إن لم يكن كل ما كان جميلا. أفكر كثيرا في أن أكتب كتابا عن ذلك. ذكرني برغبتي مقال صغير للناقد السينمائي محمود عبد الشكور كتبه على صفحته في فيسبوك عن الزمالك. لكني أعود وأقول إن ما أريده كتبته في رواياتي مجسدا بلا حديث مباشر يفسد الفن، وأيضا عرفته الكثير من مقالاتي. لكن فجأة صار شارع القصر العيني يناديني لأكتب عنه. كان هو أكثر الشوارع التي مشيت فيها وقابلت فيه بشرا سعداء. والسبب أن فيه كانت وما زالت مجلتي «روزا اليوسف» و«صباح الخير» ولأني صرت أعمل لسنوات في الهيئة العامة لقصور الثقافة، الواقعة في الشارع نفسه وعلى بضع خطوات من موقع المجلتين.
هذا الشارع يستيقظ أمامي الآن، والسبب حالة فقد الصحافي رشدي أبو الحسن الذي كان من علامات المكان، ثم بعده الناقد وكاتب السيناريو رؤوف توفيق، بفقدهما قامت أمامي شخصيات عظيمة عرفتها في حياتي كاتبا مبتدئا أو معروفا في ما بعد. وليس بسبب موتهما أتحدث عن عظمتهما وقيمتهما، لكن لأنهما كانا كذلك فعلا. قامات وشخصيات ثقافية عظيمة في تاريخنا المصري. لم أنشر في بدايتي في أي من المجلتين غير قصة قصيرة أو اثنتين، ولم أكتب في «روزا اليوسف» مقالات إلا متأخرا جدا، لكن كانت زيارتي شبه منتظمة لا تقل عن مرة في الأسبوع لأجلس مع صبري موسي وعبد الله الطوخي ورشدي أبو الحسن ورؤوف توفيق وفتحي غانم ولويس جريس. أتذكر لقائي الأول برؤوف توفيق وكيف صار بالنسبة لي أمرا مضحكا في ما بعد وساذجا. كنا عددا قليلا من الشباب نعمل كموجهين سياسيين في منظمة الشباب الاشتراكي في بداية السبعينيات. كنت أنا وثلاثة أو أربعة، منتمين في السر لأحزاب شيوعية سرية، فكانت مهمتنا التي لا يعرفها أحد هي جذب من نستطيع من الشباب إلى هذه الأحزاب. يوما كتب رؤوف توفيق مقالا ينادي فيه بحل هذه المنظمة التي لم يعد لها معنى، فذهبت في سذاجة إليه وعرفته بنفسي، ولم أكن نشرت غير قصتين قصيرتين أو ثلاث قصص.

قلت له في سذاجة أننا مجموعة من الماركسيين نستغل وجودنا لجذب الشباب إلى الأحزاب الشيوعية السرية، ورجوته أن لا يستمر في طلبه بحل المنظمة. طبعا تم حل المنظمة في ما بعد عام 1974 ليس بسببه، لكن بسبب سياسة السادات، وتركنا نحن الأحزاب السرية، لكن ظل لقائي به يثير سخريتي من نفسي أو ضحكي. ظللنا كلما التقيت به هناك أو في مقهى ريش أحيانا يبتسم ابتسامة أعرف منها أنه لم ينس سذاجتي. طبعا كنت أعتقد أن كل من في هاتين المجلتين من أهل اليسار وكانوا بالفعل كذلك، وهاجمهم شيخ الأزهر عبد الحليم محمود في معركة كبيرة أيام السادات، لكن ما قلته كان يجب أن لا يُقال. كان لقائي مع علاء الديب أو صبري موسى أو عبد الله الطوخي أو فتحي غانم مختلفا، فقد تم في وقت تالٍ، ورأيت كيف يقرأون ما أنشر من قصص أو مقالات في مجلات أخرى، ويتحدثون معي فيها ويدون إعجابهم بها، مما كان مصدر سعادة لي كبيرة جدا، فصرت حريصا على زيارتهم. بينهم طبعا من كتب عني مثل فتحي غانم أو علاء الديب، وجميعهم كانوا يثنون عليّ مع الآخرين، إذا جاءت سيرة الكتاب الجدد. المهم كان شارع القصر العيني هو «روزا اليوسف» و»صباح الخير» اللتين كنت أذهب إليهما أكثر مما أذهب إلى عملي في المكان القريب منهما.

لم أنشر في بدايتي في أي من المجلتين غير قصة قصيرة أو اثنتين، ولم أكتب في «روزا اليوسف» مقالات إلا متأخرا جدا، لكن كانت زيارتي شبه منتظمة لا تقل عن مرة في الأسبوع لأجلس مع صبري موسي وعبد الله الطوخي ورشدي أبو الحسن ورؤوف توفيق وفتحي غانم ولويس جريس.

عرفت عن طريقهم وعن طريق، من هم في عمري مثل زينب منتصر وعاصم حنفي ومنير مطاوع الذي كان الأكثر حضورا لنشاط الهيئة العامة لقصور الثقافة، ثم من أجيال أخرى كإبراهيم عيسى أو وائل الإبراشي أو رشاد كامل أو هناء فتحي أو وائل عبد الفتاح أو وائل لطفي وغيرهم، لكن كانت جلساتي الأكبر مع الجيل الأسبق، وبعد أن غابوا عن المشهد تقريبا لم أعد أذهب إلا نادرا، رغم جمال وأهمية الكثيرين من الجيل التالي، الذين أيضا كنت محل إعجابهم بما أجراه بعضهم معي من حوارات، وكانوا ولا يزالون محل إعجابي بما يكتبون من مقالات أو كتب أو روايات آنستني كثيرا في القراءة. بدأت الأمور تتغير في المجلتين مع ما تغير في الصحافة المصرية، وتقدمت أنا في العمر ولم أعد أسعى إلى أي مكان إلا نادرا، حتى الصحف التي صرت أنشر فيها لم أعد أزورها، لأن الإيميلات ظهرت. انتظمتُ خلال الثلاث سنوات الأولى من ظهور «المصري اليوم» في الذهاب إلى مقهى» فيينا» في شارع القصر العيني، وفيها كنت أقابل المرحوم عبد الله كمال، الذي بدوره طلب مني الكتابة في «روزا اليوسف» وقد صار رئيسا لتحريرها. قلت له تغيرت روزا ومقالاتي قد لا تنشر، فأكد لي أنه سينشرها كما هي، وبالفعل حدث. أتذكر أني كتبت يوما مقالا عن النسيان، وكيف سيأتي يوم ننسى فيه حسني مبارك وفتحي سرور وغيرهما ممن يديرون السياسة، وقابلني عبد الله وأخبرني أن جهة أمنية حدثته عن عدم رضائها عن المقال، وكيف أخبرهم أنه لن يطلب مني أن أغيّر وجهة نظري، ولن يمنعني عن الكتابة. توقفت أنا في ما بعد وحدي منتقلا إلى جريدة «الأخبار». كان منهجي أن أنشر في أي صحيفة سواء كانت حكومية أو خاصة، فالمهم أن يتم نشر مقالاتي، دون تغيير أو ملاحظات.

المدهش الذي قلته من قبل أن أكثر مقالاتي المعارضة لنظام مبارك كانت في مجلات مثل «الأهرام» العربي أيام رئاسة مصطفى سرايا، أو «روزا اليوسف» أيام عبد الله كمال، وفي ما بعد كانت في جريدة «الأخبار» أيام ياسر رزق بعد ثورة يناير/كانون الثاني، وفيها نشرت كتابي «أيام التحرير» وكتبت عن المعتقلين بعد الثورة وحتى وقت قريب. ارتحت معهم أكثر مما ارتحت مع الصحف الخاصة، ولم يكن هذا غريبا فكانوا حريصين أن يفتحوا نافذة بحيث لا يبدو الأمر كله مفتعلا وموجها، وكنت ارتاح لذلك فالمهم هو ما أكتبه وفحواه وليس مكان نشره. لم أعد أكتب في «روزا» ولا «المصري اليوم» الذي كان قريبا منها، وحتى «الأخبار» تركتها منذ شهور فلم تعد الصحف رهن رؤساء تحريرها. جرى عليها أكثر مما جرى عليها من التأميم من قبل. رحل الأحباء الكبار واحدا بعد الآخر من الحياة، ولم أعد أذهب إلى شارع القصر العيني ولا مقهى فيينا، لكن بمضي الأيام، ومع رحيل كل منهم، أتذكر جلساتي بينهم وأتذكر حميمية الشارع.

منذ أيام رحل رشدي أبو الحسن ثم رؤوف توفيق وهما من أساتذة الأجيال، ومن قبلهما بوقت قليل عاصم حنفي وزينب منتصر، فعاد الحنين إلى المكان وإلى الشارع والأيام الجميلة، مع أجمل الكتّاب رقيا وخلقا وكتابة. أعرف معنى العمارة القديمة في بنايات الشارع وتاريخه، لكن ظل الشارع هو هؤلاء الكتاب والفنانين الذين أضاءوا حياتنا، أو حياتي. كل شيء كان يعود إليّ مع رحيل كل منهم، لكني هذه المرة لم أستطع أن أمنع نفسي عن الكتابة، أو اكتفي بالعزاء الذي كتبته على صفحتي في فيسبوك أو شاركت فيه. كيف جذبني المكان لأكتب عنه وسط الأحداث الرهيبة في غزة. هو رحيل رؤوف توفيق كآخر من قابلته منهم، ومقال محمود عبد الشكور عن فناني الزمالك الذي له في نفسي ذكريات عظيمة أيضا، لكني أعرف أني لن ابتعد عما يحدث حولي في غزة وفي مصر، وكتبت عنه وأكتب. الراحلون لا يغيبون وغزة لن ترحل ولن تغيب.

روائي مصري

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية