أساطير شخصية

من يعرف محسن عبد العزيز وقرأ له، يعرف أنه ليس غريبا عليه الإمساك بشيء غائب عن الفكر في تجلياته البحثية. هو صورة جميلة للكاتب المتمرد لا يخضع لهيراركية، وترديد ما هو معروف سائد. من أعماله الفكرية المهمة كتب مثل «الاستبداد من الخلافة للرئاسة» و»ليل الخلافة العثمانية الطويل ـ سيرة القتل المنسية» ويأتي الخيال في مجموعات قصصية مثل «ولد عفريت تؤرقه البلاد» و»مروة تقول إنها تحبني» ورواية «شيطان صغير عابر».
تولى محسن عبد العزيز مناصب صحافية مهمة في جريدة «الأهرام» وكان دائما نموذجا لمحبي الجمال، فاتحا صفحاته الثقافية التي يشرف عليها، لكل جميل فارق. هنا في هذا الكتاب الصادر عن دار «بيت الحكمة» مؤخرا، والذي يقع في مئتين وخمسين صفحة من القطع الكبير، أنت مع رحلة تبدأ بعلم النفس، لتنطلق إلى السياسة والحياة في كل تجلياتها. الآلهة الصغيرة هم كتاب وسياسيون وفنانون، مروا بمصر على مرّ التاريخ، يقدم لك نماذج كثيرة منها تصل إلى أربعين نموذجا، في فصول صغيرة شديد التركيز، بلا أي استطراد يفسد المتعة. كلهم تقريبا كانوا أساطير في تاريخ مصر، لكن كيف جاءت الأسطورة. لكل منهم حادثة أو حكاية وهو طفل كانت هي دليل حياته ومفتاح أسطورته، بل صارت هي الأسطورة. أكثرهم، وربما كلهم، لم يكونوا يدركون ذلك.
بعد مقدمة يعطي فيها بعض نماذج كتابه وأسطورتها بسرعة، وما معنى الأسطورة عند بعض المفكرين وجدواها للإنسان، تبدأ الرحلة الرائعة، أسطورة جمال عبد الناصر جاءت من حادثة وهو تلميذ صغير يجلس بسبب طوله في مؤخرة صفوف الفصل، حين جاء المفتش وطلب من التلاميذ أن يضعوا كلمة «كتابة» في جملة مفيدة. فشل زملاؤه ما سبب حرجا للمدرس، لكن أجاب عبد الناصر بعدهم قائلا «ظهرت كتابة القرآن واضحة» صفق له الجميع، وحين انصرف المفتش طلب منه المدرس أن يضرب كل تلميذ عصايتين لعدم معرفته الإجابة. رفض الطفل جمال عبد الناصر، فغضب المدرس وخيره أن يفعل ذلك أو يضربه كل تلميذ عصايتين. صمم عبد الناصر على موقفه، وناله الضرب ستين عصا من التلاميذ على يديه تحملها. تحول عبد الناصر إلى زعيم وحكمت هذه الأسطورة حياته، فدائما لديه الإجابة، وبسبب معرفته بها يتعرض للضرب، وبعد كل مرة يخرج أقوى مما كان. كيف دفعه حب المعرفة للقراءة، وكيف دخل الكلية الحربية، وكيف صمد في حرب الفالوجا عام 1948 وكيف خرج من حرب 1956 أقوى وهكذا.

كيف في كل ذلك كان يأخذ أقسى موقف من التشدد، ولا يبالي بالضرب بعد ذلك. بعده ينتقل إلى السادات الذي كان يحمل في روحه فنانا غارقا في السياسة. تأتي حادثة زيارة غاندي لمصر عام 1932 وامتلأت الصحف بالحديث عنه وصوره، فصعد السادات فوق سطح منزلهم خالعا ملابسه، مغطيا نصفه الإسفل بإزار، وصنع له منجلا مثل غاندي. اعتكف عدة أيام حتى منعه والده. كيف حكمت أسطورة الفنان السادات في حياته وقراراته، حتى جاء موته قمة الدراما في مشهد نادر التكرار. نجيب محفوظ أسطورته هي النافذة. منذ كان طفلا في بيتهم الذي فوق سطحه غرفة تطل على الميدان، رأي من نافذتها كل المظاهرات بعد ثورة 1919 التي لخصت له الصراعات، فصار طوال حياته يرقب الصراعات ولا يدخل فيها. من يعرفون نجيب محفوظ يدركون ذلك، فقد حفلت رواياته بكل الآراء، في كل شيء سياسي أو ديني، بينما لم يكتب مقالات في ذلك. تعددت النوافذ التي يطل منها نجيب محفوظ، فكانت أمه أول نافذة تأخذه معها إلى المتحف المصري وزيارة آل البيت، فكانت مخزن الثقافة الشعبية، ثم جاءت القراءة نافذة ثانية فكان يقرأ الروايات التاريخية والبوليسية صغيرا، ويلخصها برؤيته في كشكول يكتب عليه تأليف نجيب محفوظ، والتحق بكلية الآداب، رغم تفوقه في العلوم والرياضيات. سحرته نافذة الفلسفة. ذكرني بما فعلت في صباي وشبابي، حيث كنت ألخص الروايات في كراسة، ولا أعرف أنه كان يفعل ذلك. النافذة الثالثة كانت المقهى الذي تعددت أماكنه وتغيرت. عرف نجيب محفوظ مبكرا أن أسطورته الخاصة القائمة على الرؤية والالتقاط والتسجيل، لن تتحقق إلا في عالم الرواية ففعلها.

أجاب عبد الناصر بعدهم قائلا «ظهرت كتابة القرآن واضحة» صفق له الجميع، وحين انصرف المفتش طلب منه المدرس أن يضرب كل تلميذ عصايتين لعدم معرفته الإجابة. رفض الطفل جمال عبد الناصر، فغضب المدرس وخيره أن يفعل ذلك أو يضربه كل تلميذ عصايتين.

رحلته مع النشر منذ أول رواية وصعوباته وتوقفه سنوات بعد يوليو/تموز 1952. تخفَّى محفوظ وراء نافذة الرواية ليقول كل شيء. يأتي طه حسين الذي أصابه العلاج الخاطئ من الرمد بالعمى. كيف كان يجد في الظلمة وحشة وصوت الخوف يصل إلى أذنيه، فيصحو مبكرا قبل أخوته المبصرين يوقظهم ويغيظهم، فيفزعون ويطردونه مُشيعا بالشتائم واللعنات، وهو يجد في ذلك لذة وامتاعا. كيف صارت حياته إيقاظا للنائمين، وما عاناه من شتائم وانتقادات ولم يتوقف، ومسيرته من الكتّاب إلى الأزهر والجامعة والسوربون في فرنسا، وزواجه من الفرنسية سوزان بريسو، وكيف عاش حياته لإيقاظ النائمين. أم كلثوم عاشت بأسطورة الولد منذ قرر أبوها أن يصنع أسطورته بيديه، بعد أن رأى حلما في منامه لسيدة ترتدي ملابس بيضاء وعمامة يشع وجهها نورا تعطيه لفافة خضراء. جعل أم كلثوم ترتدي ملابس الأولاد وتلملم شعرها خلف كوفية، وأخذها لتغني في الموالد التي فيها الإنشاد للرجال فقط، فصارت ملابس الرجال هي التي تصنع أسطورتها حتى وفاتها. تغيرت الملابس، لكن ظلت معها صفات الرجال من كرامة وكبرياء وقوة الشخصية، والكلمة النافذة والعزم، وأحداث كثيرة تؤكد ذلك طول رحلتها. بعد رحلة مع جمال حمدان وأسطورة الخريطة ومحمد حسنين هيكل وأسطورة الخيال، الذي جعله شغوفا بالمعرفة، ويوسف إدريس حين كان طفلا وعاش حياة قاسية.

لكنه وجد عند جده أول كنز حقيقي، وهو أربعمئة رواية من روايات الجيب وألف ليلة وليلة وغيرها، فراح يلتهمها هروبا من قسوة حياته، فاكتشف دون أن يدري كنزه الأكبر الذي مشى عليه في الحياة، التي صارت كلها بحثا عن الكنز أو دفاعا عنه في كتاباته أو معاركه. ثم تمضي مع أسطورة مثل صلاح عبد الصبور وتوفيق الحكيم وسيد كريم وسعاد حسني وغيرها، حتى تصل إلى الفصل الثاني عن مصر تبحث عن أسطورتها بعد خروج الحملة الفرنسية. تجد نفسك مع أساطير محمد علي وشامبليون ورفاعة الطهطاوي والأمام محمد عبده والخديوي إسماعيل ومصطفى كامل وأحمد شوقي، وسعد زعلول وأسطورة المقامر التي تجلت في مواقفه السياسية التي كانت مغامرة ومقامرة كلها، ثم سلامة موسى الذي في طفولته صعد شجرة فوجد عليها غرابا فأمسكه فحاصرته الغربان تخمش وجهه، وفي مرة أخرى وجد جحرا فمد يده فيه فسحب ثعبانا، فعاش حياته يدخل جحور الغربان والثعابين يخرجها ويقاوم تخلف المجتمع. هكذا حتى تصل إلى أسطورة علي مشرفة والعلم، ليأتي الفصل الثالث في مصر القديمة، بدءا بأسطور الفن والأدب التي ظهرت مع رسائل المصري الفصيح، ثم أسطورة أسرة تحرير مصر وملوكها من «سقنن رع» والد أحمس، وجدة أحمس «تتي شيري» ثم أحمس ثم حتشبسوت وأسطورة الرجل في ملابسها وقوتها، ثم تحتمس الثالث وأخناتون والتوحيد وتوت عنخ آمون، ورمسيس الثاني. تتقدم في الزمن إلى كليوباترا وأفلوطين المصري الصعيدي المولد. من أهم ما تلاحظه في أساطير الفراعنة أنهم كلهم باستثناءات قليلة، كانوا يدركون أن المجال الحيوي لمصر يمتد إلى سوريا وفلسطين في الشمال، وإلى إثيوبيا في الجنوب، فشنوا كل الحروب وطردوا كل الغزاة. وفي هذا عظة الآن للحكام إذا كانوا يتعظون. يبدأ من الحاضر ثم العصر الحديث، ليعود إلى مصر القديمة ومنها في رحلة عكسية إلى مصر الهللينية أيام اليونان والرومان، فتكتمل الدائرة ويعيدك إلى البداية في حبكة فنية جميلة. الكتاب رحلة علمية وفكرية عظيمة، قائمة على حادث محوري يعد اكتشافا رائعا للمؤلف، ومتعة في اللغة يستحق محسن عبد العزيز عليها كعادته، كل احتفاء وتقدير.

كاتب مصري

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية