«يا دنيا يا غرامي»

هذا كتاب ممتع فكريا وأدبيا للصحافية والأديبة نوال مصطفى، منشور حديثا في «الشركة العربية الحديثة». لغة تجسد الأفكار بسلاسة مدهشة. إنجازات نوال مصطفى الصحافية حافلة بالمغامرة، ولم تبتعد عن الكتابة الأدبية، فلها أكثر من مجموعة قصصية مثل «مواسم القمر» و»الحياة مرة أخرى» وأكثر من رواية مثل «الفخ» و»الوقوع في الحب» كما فازت بجوائز مثل جائزة الدولة للتفوق في الآداب، وجائزة الأمير طلال الدولية للقضاء على الفقر وغيرها. لها كتاب مهم هو «أسطورة الإسكندرية» عن مكتبتها في التاريخ، تمت ترجمته للفرنسية والإنكليزية.
اختارت للكتاب عنوان أغنية شهير لمحمد عبد الوهاب صارت مثلا، وحمل العنوان نفسه، فيلمٌ رائعٌ من تأليف محمد حلمي هلال وإخراج مجدي أحمد علي عام 1995. للكتاب عنوان فرعي هو حكايات من دفتر الذكريات. الكتاب يعكس إقبالا على الحياة والغرام بالدنيا رغم المتاعب، منذ بدأت العمل وهي طالبة في كلية الإعلام في نهاية السبعينيات وحتى الآن. لها دور اجتماعي مهم جدا وكبير في رعاية السجينات والمساجين استحقت عليه أبرز الأوسمة من الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم حاكم دبي عام 2018 باعتبارها واحدة من أهم صناع الأمل، في حفل رائع تجسده بكل المشاعر الإنسانية عن المشروع والفائزين. الكتاب مجموعة من المقالات والحوارات الصحافية عن قضايا مستمرة في مصر والعالم. ما أن بدأت في القراءة، وليست هذه هي المرة الأولى التي أقرأ لها، حتى رأيت نفسي أرى ما تكتب عنه مجسدا في عبارت أشبه بالرسم. تبدأ بطلب من القارئ قبل أن يقرأ، أن يتساءل هل هي إنسانة محظوظة، أم مجتهدة مخلصة للأهداف التي آمنت بها، والأشياء التي أحبتها، الصحافة والعمل الإنساني والأدب. دفعتها الإجابة إلى مخزن الذاكرة، وهو ما يأتي في ما بعد. رحلة رائعة مع مصطفى أمين أبيها الروحي، بعد أن التقت به في «أخبار اليوم» وهي طالبة في كلية الإعلام، واختارها أستاذها جلال الدين الحمامصي مع مجموعة أخرى للتدريب في الجريدة. كيف لفت نظر مصطفى أمين تحقيق صحافي حول رجل أعمال شهير وقتها، استفاد من الدولة وحصل على أراض بحق الانتفاع، مقابل أن ينتج بيضا ودواجن بأسعار مخففة، وكشفت زيف ما يفعل. لأنها كانت متدربة، كان التحقيق يُنشر بلا إسم لصاحبه، فأقام رجل الأعمال الدنيا، وطلب أن تعتذر الجريدة عما كتبته، لكن مصطفى أمين استدعاها وشجعها وقال لها «لو كنت رئيس التحرير لأعطيتك مكافأة كبيرة» صار يتابعها وأسند لها في ما بعد رئاسة أقسام إنسانية شهيرة مثل «أسبوع الشفاء» و»لست وحدك» و»نفسي» لتحقيق أمنيات الأطفال.

تدخل في حكاية القبض عليه أيام عبد الناصر ظلما، وسنوات السجن وكيف أطلق السادات سراحه بعد حرب أكتوبر/تشرين الأول وعاد إلى المؤسسة، وإعجابه بأم كلثوم التي حاولت كثيرا إخراجه من السجن. رحلتها مع السجينات بعد أن زارت أحد السجون مرة لتحقيق صحافي فوجدت أطفالا، عرفت أنهم يعيشون في السجن مع أمهاتهم. كان ذلك منذ ثلاثين سنة. قصص مؤلمة عن السجينات ودخولها في عالمهم ومساعدتهم بجمعياتها، ورؤية شجاعة لما يجب أن يتم لرعاية السجناء. حديث عائلي عن والدها الناشر، ثم أخيها حمدي مصطفى مؤسس دار «المؤسسة العربية الحديثة» وتاريخهما مع الطباعة منذ عشرينيات القرن الماضي حتى الآن، وكيف ابتكر أخوها في الستينيات فكرة «سلاح التلميذ» الذي صار قرينا لكل المدارس، ثم فكرة «روايات مصرية للجيب» عام 1984 التي انتشرت بشكل مذهل بين القراء الشباب، وأبرز كتابها مثل نبيل فاروق. حديث رائع مثل كل أحاديثها عن ومع الدكتور مجدي يعقوب أمير القلوب، الذي حظي بأبرز الألقاب والأوسمة في إنكلترا، وجاء إلى مصر ليؤسس مستشفى ومعهد القلب في أسوان. عمله منذ سنوات على تأسيس مستشفى آخر في مدينة السادس من أكتوبر.. إنجازاته في مستشفى أسوان وإيمانه بالشباب من الأطباء والممرضين، وكيف ينقل إليهم خبراته العظيمة، وكيف أن الطب رسالة وليس تجارة. حكايتها مع مي زيادة وكيف قرأت عنها، وما جري لها هي المرأة التي أرادت أن تقتحم العالم المعادي للمرأة، وكيف نجحت، وما جرى عليها من مؤامرات فوضعوها في مستشفى المجانين في العصفورية في بيروت، وكيف تأثرت بها وكتبت عنها سيرة روائية في الحقيقة ممتعة وعظيمة قرأتها منذ سنوات، وكيف نجحت السيرة الروائية وتتالت طبعاتها. الأمر نفسه مع عمر الشريف وكيف صار أيقونة في العالم. حوارها معه وكيف في سنواته الأخيرة كان يفضل لو كان نجما سينمائيا في مصر، بعد أن افتقد العائلة والدفء الأسري. وكيف خسر كثيرا جدا من أمواله في لعب القمار، وهي اللعبة التي ورثها عن أمه، كنت أنا اتساءل لماذا حقا يحب عمر الشريف ذلك، وعرفت منها أن أمه كانت في بيت العائلة مغرمة بذلك. من أجمل اللقاءات لقائها مع بنظير بوتو رئيسة وزراء باكستان عام 1988. كان اللقاء في السادس عشر من يناير/كانون الثاني 1990 في إسلام أباد.

كيف أخذها الشغف للقائها، وما بذلته من جهد على مدى شهرين حتى وصلت لما تريد. بنظير بوتو المرأة التي كانت حاملا لا تتوقف عن دورها كأم. كيف حاولت التخلص من الحكم العسكري. آراء بنظير بوتو في السياسة والمعارضة، ودورها تصلح دليلا لمن يريد الصواب، لكنها انتهت برصاص الغدر وهي في الرابعة والخمسين من عمرها عام 2007.
ننتقل إلى حوار وحديث عن الأستاذة مفيدة.. تعرف أنها السيدة مفيدة عبد الرحمن من الحوار، بعد العنوان الذي يفتح لك أبواب المعاني الجميلة. مفيدة عبد الرحمن التي كانت أول فتاة تلتحق بكلية الحقوق عام 1935، وأول مصرية تشغل مناصب عديدة منها انتخابها في البرلمان، وأول محامية تترافع أمام المحاكم العسكرية. حياتها بين كونها امرأة تحافظ على بيتها وزوجها، لم تفتنها المناصب. ننتقل إلى نزار قباني وحديث رائع عن شعره وتجديده وشجاعته وأزمته في مصر بعد هزيمة 1967 بعد نشر قصيدته «هوامش على دفتر النكسة» التي مُنعت بعدها كتبه وأغانيه في مصر، وكيف ألغى عبد الناصر القرار بعد رسالة من نزار له يوضح فيها ماذا كان يمكن أن يكتب غير هذا. حياته بين الألم والحزن والوفيات التي صادفها منها أخته وهو صغير ثم ابنه الذي كان في الثانية والعشرين ثم زوجته بلقيس. تمشي مع صداقات الأُنس كما تسميها مع موسى صبري وإحسان عبد القدوس وفتحي غانم وكامل زهيري، وتقف عند كتاب رائعين من أجيال تالية مثل، جابر عصفور ومعركته مع الظلاميين وانشائه للمركز القومي للترجمة، وعزت القمحاوي وكتابه الرائع «غرفة المسافرين» ومحمد المخزنجي ومجموعته القصصية الرائعة «صياد النسيم» وتستمر بحثا عن الجواهر مع أحمد القرملاوي في روايته «ورثة آل الشيخ» والشيخ محمد بن راشد آل مكتوم حاكم دبي في كتابه «تأملات في السعادة والإيجابية» وهو صاحب المبادرات الرائعة مثل «صناع الأمل» ومبادرة «تحدي القراءة» ومبادرة «تحدي الترجمة» وغيرها من المبادرات التي تسعى لسعادة الإنسان أيا كان جنسه، أو نوعه. وأماكن أخرى وشخصيات سينمائية.
نوال مصطفى تقدم مقالات من النقد الأدبي أيضا تأكيدا على أهمية النقد، رغم شعورها بابتعاد النقاد عن أعمالها، وأنا أقول لها إن هذا أمر طبيعي فلا أحد يعرف خرائط النقد في مصر، وبشكل عام وتاريخي يبتعد النقاد عن مشاهير الصحافيين، ربما لأنهم يحظون بكل المتابعات الصحافية لأعمالهم. الله أعلم. لكن عادة يقع ظلم عليهم. حدث ذلك مع إحسان عبد القدوس ويوسف السباعي وحتى فتحي غانم وكثيرين. المهم أنها كاتبة تستحق كل احتفاء لكتابتها، وعملها الاجتماعي المميز، ومغامراتها في مهنتها الصحافية التي سبقت بها الكثيرين. رحلة جميلة مع مشاعر وأفكار من القلب في غرام الدنيا والناس العاديين والمفكرين والسياسيين تستحق كل احتفاء.

كاتب مصري

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية