«حجر في زغرب» رواية المصرية إيثار غراب: بنية التغييب ومدى التأويل بين الأسطوري والواقعي

عادل ضرغام
حجم الخط
0

في روايتها «حجر في زغرب» تقدم المصرية إيثار غراب نصّا متعدد الطبقات منفتحا على التأويل، فمداخله عديدة، منها ما يتصل بالتصديرات التي تسبق كل فصل، ودورها في تجذير الشعور بالحنين إلى الهدوء والانسجام المفقودين داخل الرحلة المكانية في النص الروائي التي لا تكفّ عن الإشارة إلى رحلة روحية للوصول إلى حالة من حالات المغايرة، ومنها ما يتصل بحالات وأشكال التغييب في أسماء الشخصيات الذي يحتاج إلى تأويل، يرتبط بخصوصية الحالة وعمومية التجربة، لأنها مشدودة إلى وجود الإنسان بشكل عام، وتحولاته المعرفية من فترة إلى أخرى.
في سياق هذا التغييب هناك حكايات جانبية غير مكتملة مبتورة عن قصدية، لطرح حالة من غموض شفيف، يقلل من هذا الغموض الإصرار على تشكيل تقابلات كاشفة ونماذج متوازية، تشير إلى جزء من المسكوت عنه في هذه الحكايات، فيكتمل جزء من نقصانها، وإن ظلت محافظة على غموضها الرهيف. وهذه الحكايات غير المكتملة أو الإشارات ربما تشكل مفتاحا لقراءة العمل. فالرواية قائمة على جزئية أساسية ترتبط بالتخاطر مع الموتى والطيور، ولكن تأسيس هذا المنحى لا يتمّ إلا من خلال إشارات خافتة ترتبط بحتمية الموت، وترتبط – أيضا – بإثارة أسئلة حول الموت بوصفه صورة ممتدة للحياة بشكل أو بآخر لا يغيّب الوجود السابق، لكن يجعله يتجلى في إطار مغاير.
فمفاتيح التأويل لا تتولّد إلا من خلال هذه الحكايات الجانبية، بل وتغدو هذه الحكايات جزءا أساسيا للتوجه نحو فكّ مغاليقه، وتوجيه التلقي في ظلّ استحضار طبقاتها وتوازياتها إلى وجهة معينة مشدودة إلى الرمز والتمثيل أولا، ومسدلة أخيرا نوعا من المقبولية والمشروعية إليه. فالنص الروائي يمكن تلقيه عند حدوده العادية في إطار فكرة التخاطر مع الموتى كتخاطر الشخصية الرئيسة مع شخص من خارج حدود وطنها، لم تره من قبل، أو مع الطيور مثل الغراب أو الحيوانات مثل القطط، وهي فكرة بالرغم من غرابتها أو عجائبيتها لها مشروعية إلى حد ما. لكن هناك قراءات لا تقف عند حدود الحكاية في مداميكها الهيكلية الأولى، من خلال الاستقواء بالبحث عن مفاتيح فاعلة في إنتاج تأويل خاص.

البنية وسياق التحول

تؤسس البنية الخاصة للرواية وجودا وتشكيلا متساوقين مع حركة المعنى النامية تدريجيا في النص، ومع الأفكار المشدودة لمقاربة العالم وتحولاته بمنظور ذات أنثوية وحيدة، تحيل إلى تجربة عامة يمرّ بها الجميع، فبداية من الإهداء، ومرورا بالتصديرات في كل فصل من الفصول، وانتهاء بالآليات السردية تتكوّم الدلالات المرتبطة بلحظة السأم والتوزّع والوقوف، سواء على مستوى الذات المسرود عنها، أو على مستوى العالم المحيط وتحولاته، ذلك العالم أو الكون الذي يحتوينا، ويكيّف حركتنا، ولكننا نخضعه – بالرغم من ذلك- للمراقبة والتأمل.
وربما يجدي الوقوف أمام كل تصدير من تصديرات الفصول المكوّنة للعمل في ترجيح هذا التوجه في تلقي العمل، فالملاحق أشبه بالمؤطر أو الموجّه لحركة كل فصل، ولتجلياته الدلالية النامية، فهي تفتح براحا للتأويل، وخاصة تلك التصديرات التي تحدث فارقا في نقل التأويل من سياق إلى سياق، من خلال ما تمارسه من زحزحة لدلالة فعل القتل، من فعل يتمّ ممارسته على شخص محدد فيزيائيا، إلى فعل يرتبط بفكرة تجريدية وثيقة الصلة بالذات، فالصراع في هذا العالم ليس صراعا بين أفراد وبشر أو شخصيات، بقدر ما هو صراع داخلي بين وعيين وإدراكين، يمثلان صورتين متقابلتين للذات.
يتجاوب مع هذه التصديرات الكاشفة عن نقصان، وعن محاولة للاكتمال، التشكيل الخاص للشخصية المسرود عنها بضمير الغياب، فقد تجلّت في نسق مغاير كاشف عن القدرة على التخاطر، ومخاطبة الموتى والإنصات إليهم مثل الجدة والأب والأم، ومع شخصية من بلد آخر لا تعرفه ولم تره قبل ذلك، بالإضافة إلى التخاطر مع الطيور، مثل الغراب الذي يعيدنا حضوره المتكرّر- شئنا أم أبينا- إلى قصة قابيل وهابيل في النصوص الدينية وفي الأساطير التي سبقت وجودها، فالغربان -على حد تعبير الجدة- تحمل رسائل من العالم الآخر.
والتخاطر الذي تقوم به الشخصية الرئيسة المسرود عنها في النص الروائي، لا يقف عند حدود الحوار أو الاستحضار، لكنه يكشف – طالما هذا التخاطر مع الموتى – عن خلخلة لبنية الزمن ارتدادا أو استباقا من جهة أولى، ومن جهة أخرى يؤسس إطارا معرفيا خارقا لبنية الزمن، فالشخصية الرئيسة لديها قدرة على خرق المحدودية للارتداد للخلف أو الاستباق إلى لحظات زمنية لم تعشها، وإلى أشخاص لم تعرفهم. فالبطلة تمتلك معرفة ارتدادية حين تشير إلى أن الهانم زوجة البرنس كانت تملك قبعة بترولية في شبابها، أو حين تتخاطر مع البرنس، وتدرك لحظات أو مواقف لم تكن موجودة.
وهذا التخاطر مع شخصيات تنتمي إلى لحظات زمنية سابقة وثيق الصلة بالمعرفة، ووثيق الصلة – في حضوره – بالمنعطفات الحادة التي تستدعي حضور هذه الشخصيات لتوجيه الحركة أو الاختيار من الشخصية الرئيسة، سواء تعلّق الأمر بشأن ذاتي أو بسياق عام فحضور الجدة أو الجد والتخاطر معهما تتجلى فاعليته في العلاقة الملتبسة بالشخص الوحيد الذي يحمل اسما، وهو (ماركو بترسو) الذي يقع عليه فعل القتل المتخيل، وفي علاقتها بخطيبها الذي لا يحمل سوى هذه الصفة.
لكن حضور المونولوج على هذا النحو المرتكز على مراقبة الأشياء في حيّزها الآني ووجودها، وعلى الصورة المختزنة لها في لحظات سابقة، ربما يكون أكثر تساوقا مع حالة التيه أو التوزع التي تمر بها الشخصية المسرود عنها، ومع حجم التغييرات التي أصابت الأشياء والأماكن، فجزء كبير من توجه النص الروائي يرتبط بمعاينة ومراقبة الآني من جهة، ومقارنته بماضيه من جهة أخرى، ومن هنا تتوغّل الرواية في عقد التشابهات والتباينات بين الماضي والحاضر، ورصد حجم الاختلاف في كل ما يخص العالم الروائي. فالاعتماد على المونولوج الجزئي المنقطع بالآني كان له أثره في صناعة جوّ من الحنين في أجزاء كثيرة من النص الروائي، منها ما يرتبط ببعض الشخصيات وعوالمها، ومنها ما يرتبط بالجزئيات التي لم تعد حاضرة، وتشكل متخيلا حاضرا، مثل مترو مصر الجديدة أو حي الكوربة. فحين يقول النص الروائي عن المترو بوصفه وسيلة نقل لا تخلو من رومانسية في زمنها (ماذا نفعل بعدك يا غالي؟)، يشعر القارئ بالحنين الممتد إلى ذلك العالم.
آلية المونولوج تظلّ فاعلة في إحالة النص إلى حالة من حالات التيه والانقسام بين الماضي والحاضر، فالشخصية المسرود عنها تتحرّك وفق هذين القسيمين، وتظل موزّعة بينهما، لكن آلية الحوار التي تشير إلى انفتاح ثقافات وعقليات وقناعات مختلفة على بعضها البعض، تمثل منبها وحضورا لحركة الواقع وتأثيرها، خاصة تلك الحوارات التي تتم بينها وبين خطيبها، ومحاولة الانتصار للنسوي في مقابل الذكوري. فالحوار- في كل أشكاله في النص الروائي- تخلّص من حالة التيه التي يؤسس لها المونولوج الداخلي، وكأن الحوار فعل من أفعال الإفاقة والانشداد إلى الواقع.

التغييب ومدى التأويل

في الرواية هناك حضور للتغييب المتعمد بأشكاله المختلفة، ويتجلى هذا التغييب بصورة أولى واضحة في غياب كل أسماء الشخصيات، بما فيها الشخصية الرئيسة المسرود عنها، وهناك في مقابل ذلك حضور للصفة أو صلة القرابة والارتباط مثل الجدّة أو الجد أو الأب أو الأم أو الخطيب، أو الجارات على تنوّع أشكالهن وصفاتهن، أو الوظيفة مثل الخادمة أو البوّاب أو الطبيب، أو اللقب مثل البرنس، ولا ينجو من هذا التغييب على مستوى التسمية والتحديد سوى الشخص (الأوكراني) الذي يقيم في (زغرب).
التغييب لم يقف عند حدود الأسماء لتجسيد الوظيفة أو القيمة التي تمثلها كل شخصية، لكنه يطال أشياء عديدة، فالشخصيات تظل في حالة مزاوجة ومراوحة بين الوضوح والغموض، فهي لا تقدم كاملة واضحة الملامح والسمات، بل ناقصة مبتورة، مثل شخصية الخطيب. فالرواية تشير إلى أهمية عمله، لكنها لا تفصح عن طبيعته الخاصة، وكذلك شخصية الطبيب الذي يقطن في العمارة المقابلة أو المجاورة، فحضورها لا يغدو – ارتباطا بحركة المعنى أو المنحى المعرفي – سوى تشويه الصورة اللامعة والمصقولة للبرنس، من خلال وجود سابق أو صورة ماضية، لم تفصح عنه الرواية بشكل كامل استنادا إلى طبيعة الأحلام والتخاطر.
هناك حضور لافت لمشهد كاشف في النص الروائي عن التوازي بين البرنس وماركو بترسو، وعن تأصيل وتأسيس هذا المنحى، فبعد أن رسمت الشخصية الرئيسة صورة لماركو من خلال التخاطر بينهما، ورسمت بعد ذلك بفترة لوحة للبرنس، وضعتهما بجوار بعضهما، لتكشف عن توازيهما في ظل لحظتين زمانيتين مختلفتين، يؤيد ذلك مساحات التشوّه التي ظهرت في اللوحة بالرغم من الوجه النموذجي المنمط المصقول، وكأن التفسخ والخراب الداخلي- حتى لو كانا ماضيين يظهران بقوة شئنا أم أبينا.
لكن القتل المتخيل لم يأت بغتة على أنه فعل عادي، فقد تمّ التأسيس له من لحظة الاتصال الأولى والبناء عليها، وذلك لإحالة الواقعي المعيش إلى أسطوري، أو للإشارة إلى استمرار الفعل الأسطوري بالرغم من تباعد المسافات، وفي ذلك زحزحة للحدود بين الأسطوري والواقعي. حين نتأمل حضور الغراب في البداية، وحضوره مع كل ذكر أو إشارة لماركو بترسو، ندرك أن هناك مساحة من التأويل سوف تتولّد، خاصة حين يستحضر القارئ الحكايات أو الإشارات الجانبية في النص الروائي، مثل الإشارة إلى قصة (موعد في سامراء) لسومرست موم.
لقد كانت رحلة الانتقال من القاهرة إلى زغرب رحلة جسدية وروحية في آن، يستعيد فيها الجسد القدرة على استئناف الحياة دون إرهاق أو خوف من الماضي، أو من حضوره الذي يكبّل الحركة، ويشعر الشخصية بالكثير من العجز، وتستعيد فيها الروح وصل انسجامها مع المتخيل القديم قبل التدنيس، وكأن هذه الرحلة تمثل ولادة جديدة. وفي الرواية من الإشارات ما يجعل ذلك التأويل به نوعا من المشروعية، فالإنسان لا يولد مرة واحدة، بل يولد مرات عديدة، ترتبط بعدد التحولات، وإعادة الاتصال بالصفاء الروحي القديم الذي يلحّ حاضرا في كل تصدير من تصديرات العمل بوصفه أملا منشودا أو إكمالا لنقصان. ففي لحظة الغضب من خطيبها بسبب الفيديو الكاشف عن احتضانه لإحدى النساء، تقول له: (أتريد أن يكون وجودك الثاني مشابها لوجودك الأول).
وتلح في السياق ذاته بشكل لافت طبيعة النظرة إلى الموت، وهي الفكرة التي أسست من خلالها الرواية المنحى الفكري ومنطلقاتها الدلالية، فالموت – في ظل حركة الشخصيات التي غادرت الحياة مثل الجدة والجد والأب والأم – ليس إلا وجودا واستمرارا للحياة بشكل مغاير، يكشف عن ذلك حضور هذه الشخصيات في النص الروائي مخترقة حدود الزمن التواصلي، وحدود المكان.
إيثار غراب: «حجر في زغرب»
المحروسة للنشر، القاهرة 2024
208 صفحة.

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية