جلسة مقمرة في شرفة هادئة مع ذكري الانسان خليل السكاكيني

حجم الخط
0

جلسة مقمرة في شرفة هادئة مع ذكري الانسان خليل السكاكيني

زياد خداشجلسة مقمرة في شرفة هادئة مع ذكري الانسان خليل السكاكينيبعد منتصف ليلة امس، طرقت بابي الذكري الرابعة والخمسين للإنسان خليل السكاكيني، فتحت لها الباب، لم افاجأ بها فقد كنت انتظرها، كانت شاحبة وحزينة ومتعبة تتوكأ علي عصا، قالت بصوت كأنه الدموع يكاد لا يسمع : ياه منذ سنوات طويلة لم يفتح لي الباب احد، في بعد منتصف ليل 13 ـ 8 من كل عام اطرق الابواب في بلادي ولا احد يفتح فاظل وحيدة، ليلة كأمية ونصف نهار، ثم اغادر الي العدم لاحاول بعد عام مرة اخري وهكذا تمضي حياتي من باب مغلق الي اخر مغلق، اجلستها قبالتي في شرفتي المطلة علي جبل وقمر يتبادلان النميمة علي الشمس النائمة، وسبع غيمات يترددن بين السواد والبياض،كنت وحيدا، فالاهل والاصحاب والجيران نيام، حتي المستوطنة القريبة نائمة، الهواتف الخلوية مقفلة والحاسوب مطفأ، وكانت الذكري وحيدة جدا، قالت لي : من انت؟ ومالذي يهمك في عظامي التي شبعت عظاما،؟ اجبتها :سيدتي الذكري : انت لست عظاما، انت تاريخ احلامي وجمالي ودروس تفكيري وتجاربي وهواء جذوري الاول ومستقبل مدني القادمة و هواجسي، فقد علمني صاحبك خليل السكاكيني كيف اكون انسانا قبل كل شيء، اري العالم والاشياء من منظار الانسان لا من منظار الطائفة او الحزب او العائلة ففي هذا الزمن العربي وغير العربي الذي تتصارع فيه الهويات شر تصارع، وتديره الطوائف والاصوليات شر ادارة، يحلو لي ان اكون مثل خليل بعيدا عن القوالب قريبا من الاحساس الكوني المجنح الواسع بانسانيتي . ابتسمت الذكري، نهضت القت بالعصا جانبا، دخلت الي المطبخ، أحضرت رغيفا وقطعة جبنة وصحني زيت وزعتر ، وحبة بندورة، راحت تأكل بتلذذ ، ثم نهضت و رقصت امامي رقصة مضحكة، هي اقرب الي التهيؤ للرسم، نقشت بيديها دائرة كبيرة، همست : هذا هو العالم، دخلت الذكري الدائرة، راحت تبحث عن نقطة ففهمت انها تريد مساحة صغيرة لتكون لها وطنا ولتشكل بها هوية، لم تجد الذكري النقطة، فواصلت التحرك هنا وهناك، حائرة وخائفة، فهي بلا لون وبلا تضاريس وبلا اسم ، البشر كلهم يحتاجون غريزيا الي امكنة ليولدوا فيها ويموتوا ، امكنة جميلة ومميزة ومبدعة، ليفاخروا بها العالم، وفجأة صمتت الذكري ووقفت متجمدة كأنها تحولت الي تمثال، كان رأسها مائلا الي الوراء كأنه يبحث في شكل سقف الشرفة علي ايحاء ما، اليدان مرميتان في الهواء بشكل مسرحي، الفم مطبق ، العينان جاحظتان مليئتان بالدهشة المؤلمة او السعيدة ، سمعت صوتا صغيرا لكنه قوي يأتي من جهة الجبل والقمر والغيمات السبع : رائع ان تجد نقطتك ايها الانسان نقطة تحن و،تنتمي اليها وتحبها و تربي فيها اولادك وطاقاتك واحزانك واحلامك، وتعود اليها بعد منفي ما، لكن الرائع اكثر ان تشكل هذه النقطة امتدادا ودافعا لاحساس كبير بـآلام العالم وهمومه، ومتاعبه، وجسرا صلبا مع خير الكون وتطوره، وان لا تصبح هذه النقطة ذريعة لقتل الاخر واعدام الالوان الاخري، وتفجير الجسور مع القمر وقطع الحبال مع الغيوم والقمر، هذا هو درس تجربة السكاكيني مع الاخر ومع ذاته. اوه ما اعذب هذه الليلة، وحدي بلا حاسوب ولا هواتف خليوية وبلا فضائيات وبلا حروب، ليلة مع ذكري رحيل رجل مات قبل نصف قرن، عشق القدس والسفر ونيتشة والحرية، وقدس العلم ، ومقت النفاق والذل، ذكري رجل انسجم مع نفسه الي درجة انه غامر و استقال فورا بلا تردد من عمله الوحيد كمفتش في وزارة المعارف حين عين هوربرت صموئيل الصهيوني المنحاز الي الصهيونية مندوبا ساميا في فلسطين، الهي اين نجد من يتخلي عن لقمة عيشه هذه الايام من اجل موقف وطني؟؟، وحين قال المذيع في اذاعة فلسطين : هنا ارض اسرائيل، هاج السكاكيني وماج، واستقال فورا من الاذاعة مشترطا عودته بالقول: هنا ارض فلسطين،وهذا ما حصل. قلت للذكري: حدثيني عن خليل الانسان والمفكر والوطني والحالم، صمتت قليلا ثم اجابت : احب سلطانة زوجته بجنون، ومضت سنوات طويلة نثر خلالها زهورا كثيرة ودموعا حتي استوعب رحيلها.كان حساسا لآلام الاخرين ومخاوفهم بغض النظر عن جنسيتهم او لونهم، الي درجة انه خاطر بحياته من اجل ان ينقذ يهوديا كانت الدولة العثمانية تطارده، فآواه في بيته في الوقت الذي رفض اليهود انفسهم حمايته، الي ان ابغلت عنه امرأة يهودية السطات العثمانية فسيق السكاكيني مكبلا معه الي سجن في دمشق وكاد هناك ان يشنق لولا زحف البريطانيين وهزيمة العثمانيين من الذي يمكن ان يخالف الشعور السائد هذه الايام ويخبيء جنديا اسرائيليا هاربا و بائسا ومرتبكا امام زحف الجماهير في بيته ؟؟ مع تعسف المقارنة بين الواقعتين ، وماذا ايضا ايتها الذكري؟ تنهدت واشارت لي ان تمهل، مشت باتجاه المطبخ أحضرت كأس ماء، شربته،وواصلت : كان يرفض استغلال الدين لنهب اموال الفقراء وتزييف وعيهم، وكان يعتز بعروبته فطالب بتعريب الكنيسة، لكن اعتزازه هذا لم يمنعه من التواصل بفرح وحماس مع مستجدات الابداع الغربي في الفكر والعلم والادب والتربية، كان حديثا جدا في تفكيرة ونظرته للحياة، كان من أ وائل من اكتشف خطورة هجرات اليهود وتنبأ بمستقبل مرعب اذا لم توقف هذه الهجرات، وهذا ما حصل تماما، كان يحب تلاميذه حبا، غريبا لا يشبهه حب في العالم، فلا ضرب او قمع او تهديد او تخويف ولا اجبار علي حضور الي المدرسة. كانت تظريته التربوية ترتكز علي احترام ميول الطالب وتشجيعها واطلاق طاقاته، الي ابعد مدي، وعلي جعل المدرسة اشبه بالمنتجع السياحي اذا صح التعبير، كان يشجع الطلاب علي الاهتمام بأجسادهم، قبل اذهانهم، كان سباقا لعصره فكل ما كان يؤمن به ويحاول تطبيقه يعمل به الان في العالم الغربي، اما عالمنا العربي فلم ينظر بحماس لطروحات السكاكيني لانها تهدد تقاليده الجامدة وعقله القديم، وماضيه القبائلي، فما زال يرزح تحت قيود التخلف والجهل والسطحية والتدين المتعصب. كان جسدانيا يحب تدليل جسده بالماء والرياضة الصباحية والغذاء الجيد، توقفت الذكري عن الكلام، ومشت باتجاه الحمام، غابت نصف ساعة، كنت اسمع الماء البارد يهبط علي جسدها المتعرق، عادت الذكري، جلست قبالتي منتعشة وسعيدة : اه ما الذ الماء البارد علي جسد كجسدي، لقد علمني خليل ان استحم بالماء البارد، علمني ان امرن جسدي يوميا حتي استطيع ان امرن ذهني بعد ذلك، فالتمرينات هذه متلازمة اذ لا ذهن مرن دون جسد مرن ولا جسد مرن دون ذهن مرن، أخذت الذكري تتمرن امامي، كان جسدها رشيقا ذكيا ومثقفا ،تنهدت الذكري ، نهضت، الي اين ايتها الذكري ؟ الي بيتي فقد اوشك الصبح علي الانفجار، واين هو بيتك ؟؟ بيتي هو تلك الغيمات اللواتي اصبحن الان سوداوات بعد طول ترد. في الصباح، كانت امي تسألني مستغربة : ما هذه الصحون؟؟ هل تعشيت مرتين ايها السمين، كنت اضحك.كم احتاج صديقا لاخبره اني افطر واتعشي ليلا علي يوميات خليل السكاكيني لاسباب كثيرة اهمها : البحث عن تاريخنا المخبأ وغير المفصح عنه، من الذي عرفنا علي البطل الشعبي الفلاح ابراهيم ابودية والبطل الشاب سليم الانصاري؟ وأطرفها واغربها سفري الدائم مع خليل من مدينة فلسطينية الي اخري دون ان اصطدام بحاجزعسكري اسرائيلي، حيث يقول مثلا :اليوم سافرت الي طبريا اوصفد اوعكا لافتش مدارسها اشعر بقشعريرة لذيذة و مؤلمة،واتذكر كم هي بعيدة عكا اليوم عني، لماذا احس ان خليل السكاكيني شخص لم يوجد ؟ كم يشبه حلما ،اوبطلا في رواية ،او فلم اومسرحية،يا لحزنك وقدرك الملعون يا خليل، فقد سقطت في زمن غير زمنك، كنت مبكرا في نضجك وكانوا هم متأخرين ، كم تعذبت! وكم تساءلت! ومازالت اسئلتك في الوطنية و والتاريخ و الوجود والتربية والادب والفكر تدور في حلقات مفرغة في العقل العربي، ولا احد يجيب يا خليل، اتدري لم؟ لان كل ما هاجمته وفضحته ما زال موجودا :، الخراب الداخلي والتعصب والدناءة والنفاق والكذب والضعف والكراهية والغباء والخوف .اخبرت اصحابي ان ذكري خليل سهرت عندي ليلة امس، لم يعلقوا بكلمة، لم ينتبهوا اصلا، فأحست بذلك الاحساس بالآلم والحزن الذي احس به الحوذي الفقير في قصة شقاء لانطون تشيكوف، فقد كان الحوذي المسكين يخبر كل راكب يركب عربته ان ابنه قد مات، لم يكن الركاب يكترثون او يسمعون، وكانوا يقولون له سق العربة واسكت، وفي النهاية لم يجد الحوذي غير حصانه ليلا في الاسطبل وهو يطعمه، ليخبره ان ابنه قد مات، كان الحصان يهز ذيله كأنه يفهم ويحزن، هذا ما اعتقده الحوذي الواهم. اما انا فلم اجد حتي حصانا لاخبره ان ذكري خليل زارتني ليلة امس بل واستحمت في بيتي.كاتب من فلسطين[email protected]

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية