تداعيات رد إسرائيلي واسع النطاق أكبر من أن تتحملها إسرائيل وحدها والمنطقة قد تتجه إلى توازن الردع النووي

إبراهيم نوار
حجم الخط
0

السؤال الذي يطرح نفسه بقوة بعد الاجتماعات التي عقدتها حكومة الحرب الإسرائيلية في أعقاب الهجوم الجوي الإيراني غير المسبوق، هو هل تعاني السياسة العسكرية الإسرائيلية من التخبط والتوازن بعد الهجوم، أم أنها تعكس عمدا تكتيكا من تكتيكات التمويه والتضليل الاستراتيجي، حتى لا يعرف الخصم تماما كيف سيتصرف الطرف الآخر؟ حكومة الحرب الإسرائيلية عقدت اجتماعات متواصلة منذ الهجوم، أحيانا اجتماعين في اليوم، لاتخاذ قرار بشأن طبيعة الرد. الصورة التي رسمها رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو بعد لقائه مع كل من وزير الخارجية البريطاني اللورد كاميرون، ووزيرة خارجية ألمانيا أنالينا بيربوك يوم الأربعاء الماضي ترسم ملامح الرد الإسرائيلي بوضوح: إسرائيل تتخذ القرار الذي يناسب مصالحها ولن تخضع لضغوط خارجية، ولن تقبل نصائح من أحد. في اليوم السابق كان وزير الخارجية الأمريكي أنطوني بلينكن قد التقي وفدا من قيادات المنظمات الصهيونية الأمريكية في مقر الوزارة في واشنطن وقال إن بلاده لن تملي على إسرائيل كيف يتعين عليها أن ترد على الهجوم الإيراني، لكنها تقدم نصيحة للحكومة الإسرائيلية بأن أي رد غير محسوب على إيران ليس في مصلحة الولايات المتحدة وليس في مصلحة إسرائيل. على التوازي فإن وزير الدفاع الأمريكي لويد اوستن خاطب نظيره الإسرائيلي يؤاف غالانت هاتفيا مؤكدا الرسالة نفسها التي أعلنها بلينكن، لكنه في الوقت نفسه طلب من إسرائيل ضرورة التشاور مع الولايات المتحدة بخصوص الرد المحتمل لأن ذلك يرتبط بأمن وسلامة القوات الأمريكية في المنطقة. وأبلغ الوزير الأمريكي نظيره الإسرائيلي غضب الولايات المتحدة من الغارة الإسرائيلية على مقر السفارة الإيرانية في دمشق، في أول الشهر الحالي، التي تمت دون تنسيق مسبق، الأمر الذي يعرض القوات الأمريكية للخطر في سوريا والعراق للخطر.
الموقف الأمريكي الرسمي واضح في الدعوة لتجنب التصعيد، لكنه في الوقت نفسه يلتزم التزاما مطلقا بالدفاع عن أمن إسرائيل وحمايتها من أي تهديدات. ومع أن واشنطن أعلنت يوم الخميس حزمة ضخمة من العقوبات على إيران تستهدف البرنامج الصاروخي وبرنامج إنتاج الطائرات المسيرة، وكانت تهدف من ذلك إلى إقناع إسرائيل بوجود وسائل أخرى لإصابة القوة العسكرية الإيرانية، فإن رد الفعل الإسرائيلي تجاه فرض تلك العقوبات جاء باردا. هذا ربما يؤدي لترجيح خيار توجيه ضربة عسكرية مباشرة واسعة النطاق إلى إيران. لكن هذا الاستنتاج تنقصه الدقة نظرا للتعقيدات التي ينطوي عليها. فما هي هذه التعقيدات؟

أولا: صعوبات عسكرية

إذا عادت بنا الذاكرة إلى واقعة إسقاط طائرة التجسس الأمريكية عام 2019 لأنها اقتربت من المجال الجوي الإيراني فوق مضيق هرمز، فربما نعلم جزءا من الصعوبات العسكرية التي تواجه أي خيار لهجوم إسرائيلي جوي واسع النطاق على إيران. حسابات المكسب والخسارة في أي ضربة جوية انتقامية إسرائيلية موجهة ضد إيران لا تتوقف فقط على إمكان اختراق الدفاعات الجوية الإيرانية، ولكنها ترتبط أيضا بثلاثة عوامل أخرى جوهرية، الأول هو القدرة على إصابة أهداف استراتيجية والعودة بسلام بدون اصابات، والثاني هو إمكان استخدام قذائف تدمير الأهداف العميقة المخبأة في باطن الجبال، والثالث هو مدى توفر القوة الجوية الكافية بما فيها طائرات التزود بالوقود في الجو والكم الكافي من القذائف الفعالة. ومن المعروف أن إمداد إسرائيل بطائرات وقود إضافية، وقذائف الأعماق الثقيلة اللازمة لاختراق الجبال والوصول إلى المواقع النووية والصاروخية الحصينة كان وما يزال مصدر نزاع بين إسرائيل والولايات المتحدة. ورغم أن إسرائيل استطاعت تطوير إنتاج قذائف مضادة للأهداف العميقة، واستخدمتها في حرب غزة عام 2021 في ضرب أهداف داخل الأنفاق، إلا أن هذه القنابل ليست لها القدرة على اختراق أعماق كبيرة حيث تواجد مواقع تطوير التكنولوجيا النووية والوقود النووي المخصب في إيران، ولا على القوة التدميرية الكافية لإصابة الأهداف على هذه الأعماق. ومع أن الجنرال (احتياط) زفيكا هايموفيتش قائد الدفاع الجوي الإسرائيلي سابقا قال إن الطيران الإسرائيلي وطيران قوات الحلفاء سبق وأن تدرب كثيرا على اختراق الأجواء الإيرانية، ولن يواجه مشاكل كثيرة في ذلك، فإنه يتجاهل حقيقة أن الولايات المتحدة نفسها تعرضت لاختبار حاسم في حزيران/يونيو عام 2019 عندما قام الدفاع الجوي الإيراني بإسقاط طائرة تجسس متطورة من طراز RQ-4A غلوبال هوك، ولم تستطع الولايات المتحدة الرد على ذلك خشية التداعيات المحتملة. واضطر الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في ذلك الوقت إلى إلغاء أمر بضرب مواقع منتقاة في إيران قبل موعد تنفيذ الضربة بدقائق، خشية التداعيات المحتملة. فهل تغامر إسرائيل باتخاذ موقف ضد إيران لم تجرؤ على اتخاذه الولايات المتحدة؟ وهل نسيت إسرائيل خلال أيام قليلة أنها دون مساعدة الولايات المتحدة والإمارات والسعودية والأردن في اعتراض وإسقاط عشرات الطائرات المسيرة والصواريخ لكانت الخسائر التي تعرضت لها قد بلغت أضعاف ما حدث فعلا؟
إن تقرير صحيفة «نيويورك تايمز» المنشور يوم الأربعاء الماضي فضح حقيقة فشل المخابرات الإسرائيلية في تقدير طبيعة وقوة الرد الإيراني على الغارة الإسرائيلية في أول نيسان/أبريل. الصحيفة قالت إن إسرائيل توقعت ان تستخدم إيران عددا محدودا من الصواريخ وذلك بناء على سجلات وزارة الدفاع الإسرائيلية. وقد ذهب تقدير المخابرات الإسرائيلية إلى أن إيران قد ترد على الغارة الإسرائيلية باستخدام ما لا يزيد عن 10 صواريخ أرض- جو ضد أهداف داخل إسرائيل. وقبل الهجوم الإيراني بأيام قليلة، بعد أن أبلغتها الولايات المتحدة بقرب حدوث الرد، رفعت المخابرات تقديرها لعدد الصواريخ المحتمل أن تطلقها إيران تجاه إسرائيل من 10 إلى ما يتراوح بين 60 إلى 70 صاروخا كحد أقصى. من وجهة النظر العسكرية فإن هذا الخطأ في التقدير ينعكس بالضرورة على طبيعة الاستعدادات العسكرية لمواجهة الهجوم الإيراني. وهو ما يفسر الحملة الدبلوماسية والعسكرية الأمريكية المكثفة لبناء حائط صد دفاعي صاروخي وجوي ضد الهجوم الإيراني لمنع وصول الطائرات والصواريخ القادمة من داخل إيران واليمن ولبنان وربما من العراق أيضا قبل أن تدخل المجال الجوي الإسرائيلي. ويمكننا القول بأن اجتماعات حكومة الحرب الإسرائيلية في الأيام التالية للهجوم الإيراني حتى يوم الأربعاء الماضي، بعد أن اصطدمت بفساد التقديرات المسبقة عن طبيعة وقوة الرد الإيراني، الذي ظل محدودا بمقاييس القوة الإيرانية باعتراف الولايات المتحدة، فإنها اضطرت إلى مراجعة خطط كانت معدة مسبقا للرد على إيران، لأسباب عسكرية وسياسية. ومن ثم فإن الرواية التي شاعت منذ يوم الخميس الماضي عن أن نتنياهو قرر تأجيل الهجوم على إيران مقابل موافقة الولايات المتحدة على اجتياح رفح بريا هي رواية كاذبة، لا أساس لها، وأن السبب الحقيقي لتخبط القرار الإسرائيلي بشأن الرد على إيران يعود إلى مراجعة تجري حاليا لخطط سابقة كانت قد أعدت في الشهر الماضي، بعد أن ثبت خطأ التقديرات التي بنيت عليها.
أشرت في السطور السابقة إلى أن مراجعة الخطة يرتبط أيضا بأسباب سياسية، وهذا يعود إلى التعقيدات السياسية التي تواجهها إسرائيل مع الرأي العام العالمي والأمريكي ومن داخل الدول الحليفة لها في الشرق الاوسط، خشية خروج تداعيات المواجهة مع إيران عن نطاق السيطرة، الأمر الذي يمكن أن يؤدي إلى صدمة نفطية خطيرة تقصم ظهر الاقتصاد العالمي وتوقف ضخ النفط من الشرق الأوسط ربما لأشهر وليس لأسابيع.

خيار اجتياح رفح

في حال تعليق الرد الإسرائيلي على إيران، حتى إذا كان ذلك لعدة أيام، فإن مصير نتنياهو السياسي وحكومة اليمين الديني الصهيوني المتطرف هو إلى زوال، ذلك أن سكوت المدافع سيخلق فراغا كبيرا في ساحة السياسة الإسرائيلية لن تلبث ان تحتله فورا حركات المعارضة المناوئة للحكومة، من جانب أهالي المحتجزين الذين تخلى عنهم نتنياهو، وقوى التيار الليبرالي المعارضة للمراجعات القضائية التي تهدم استقلال القضاء، وزيادة الضغوط القضائية على نتنياهو نفسه في شأن محاكمته في القضايا المتهم فيها بالرشوة والفساد. ولن يسمح نتنياهو بظهور هذا الفراغ في ساحة السياسة الإسرائيلية لأنه يعرف أن فيه نهايته السياسية. ويأمل نتنياهو في أن يمنحه استمرار الحرب رخصة حياة سياسية ممتدة. وليس أمامه الآن، حتى يستعيد توازنه بعد الهجوم الإيراني إلا أن يعمل بكافة الطرق على إعادة تركيز المجهود العسكري على كل من المقاومة الفلسطينية في غزة، وتحدي حزب الله في لبنان. لكنه في كل من الجبهتين يواجه معضلة كبيرة. في شمال إسرائيل لقنه حزب الله درسا مريرا في عملية عرب العرامشة الأخيرة، وأوقع بالقوات الإسرائيلية خسارة بشرية وعسكرية ثقيلة، تمثل في جوهرها مذاقا لما يمكن أن يأتي بعد في مواجهة واسعة. أما في رفح فإن الأمر يبدو أكثر تعقيدا مما هو على السطح، فبعد الهجوم الإيراني، أعلنت إسرائيل في اليوم التالي أنها قررت تأجيل الهجوم البري على رفح، حتى تتمكن من التركيز على الجبهة الإيرانية، وبعد أقل من أسبوع على هذا الإعلان، عادت إسرائيل لتقول إنها قررت شن العملية العسكرية البرية ضد رفح بعد أن وافقت الولايات المتحدة على خطتها. إسرائيل في الحالتين كانت تكذب وما تزال. الحقيقة أن قواتها في غزة كلها تواجه مأزقا شديدا بسبب المقاومة المنتشرة من شمال غزة إلى جنوبها. القوات الإسرائيلية ما تزال تشن عمليات ضد المقاومة في مناطق مثل بيت حانون والشجاعية والنصيرات وجباليا ودير البلح ورفح نفسها، بعد أن كانت قد أعلنت أنها قضت على المقاومة. هي فشلت حتى الآن في تحقيق ذلك. وبعد المدد المعنوي الذي حصلت عليه المقاومة من الهجوم الإيراني على إسرائيل فإن عمليات المقاومة ستزيد، وستواجه القوات الإسرائيلية موقفا أشد تعقيدا. هذا الاستنتاج ليس مجرد افتراض نظري، ذلك أن الجيش الإسرائيلي بعد أن كان قد سحب قواته من خان يونس في 8 من الشهر الحالي، فإنه يستدعي الآن قوات جديدة إضافية للتصدي للمقاومة في شمال غزة وفي مناطق الوسط والجنوب، شملت لواء ناحال، اللواء 401 ووحدات تابعة للفرقة 162. كما تضم القوات الإسرائيلية في غزة ألوية كارميلي لقوات الاحتياط، واللواء 679 المدرع. وتتضمن مهام هذه القوات احتلال محور نيتساريم الذي يفصل بين شمال قطاع غزة وجنوبه، وتأمين منطقة الميناء البحري المؤقت الذي تقيمه الولايات المتحدة على شاطئ غزة. وكانت القيادة العسكرية الإسرائيلية قد أمرت برفع حالة التعبئة لهذه القوات مساء الأحد 14 من الشهر الحالي، استعدادا لاقتحام رفح بريا، مع تقديم إسناد جوي كثيف لها بواسطة الطائرات القاذفة والطائرات المسيرة. لكنها تراجعت عن ذلك، ثم هي تعلن الآن أنها بصدد إحياء خطة الهجوم البري مرة أخرى.

قلق سياسي من الحلفاء

لم يصدر عن الولايات المتحدة ما يشير إلى قبولها خطة إسرائيلية تستوفي الشروط المتفق عليها من الطرفين بخصوص ضمان تقليل حجم الخسائر بين المدنيين. وحتى أيام قليلة مضت فإن الجنرال جون كيربي المتحدث الرسمي باسم مجلس الأمن القومي الأمريكي أكد أن إسرائيل كانت قد تعهدت بألا تمضي قدما في خطتها لاقتحام رفح إلا بعد عقد لقاء حضوري مع المسؤولين الأمريكيين لمناقشة الأمر، بعد أن فشل اللقاء الذي تم في الأسبوع الأول من الشهر الحالي، عبر دائرة فيديو مغلقة، في التوصل إلى اتفاق بشأن شروط العملية البرية الإسرائيلية في رفح. كما علق كيربي على انسحاب القوات الإسرائيلية من خان يونس بأنه لا توجد أي دلائل على إعادة توجيه هذه القوات إلى رفح للمشاركة في هجوم بري. وتقول الولايات المتحدة أن إسرائيل لا تملك خطة لتقليل الخسائر بين المدنيين في رفح، وأن ما تم تقديمه من إيضاحات بشأن إخلاء المدينة من أكثر من مليون فلسطيني، لجأوا إليها خلال الحرب باعتبارها منطقة آمنة، هي إيضاحات غير عملية وغير قابلة للتنفيذ.
وعاد نتنياهو للتأكيد مرة بعد المرة بأن اقتحام رفح بريا والسيطرة عليها هو الطريق الوحيد للقضاء على حماس في قطاع غزة بأكمله، وأنه بدون دخول رفح تستمر إسرائيل مكشوفة لهجمات المقاومة الفلسطينية. كذلك فإن ماثيو ميللر المتحدث الرسمي باسم وزارة الخارجية الأمريكية كان قد علق في 9 من الشهر الجاري على تصريحات نتنياهو بشأن تحديد موعد لاقتحام رفح قائلا إن الإدارة الأمريكية لا تعلم شيئا عن ذلك، ولم يتم إبلاغها به من جانب إسرائيل، وأنها تعارض أي عملية برية واسعة النطاق في رفح بدون خطة واضحة وعملية قابلة للتنفيذ لتقليل الخسائر بين السكان المدنيين. مساء الخميس الماضي جرت جلسة مشاورات عن بعد عبر دائرة فيديو مغلقة بين وفدين أمنيين، إسرائيلي بقيادة رون درمر وزير الشؤون الاستراتيجية وتساحي هنغبي مستشار الأمن القومي، وأمريكي بقيادة جيك سوليفان مستشار الأمن القومي، لمناقشة الوضع بعد الهجوم الإيراني على إسرائيل والجهود الجماعية المطلوبة لتعزيز أمن إسرائيل وتوسيع نطاق التعاون المشترك لزيادة قدراتها العسكرية. كما ناقش الجانبان الوضع في غزة، وأعاد الجانب الأمريكي التعبير عن قلقه من الإجراءات الإسرائيلية لاقتحام رفح دون أخذ قلق الولايات المتحدة بشأن تقليل أعداد الضحايا المدنيين في الاعتبار. لكنهما اتفقا على ضرورة هزيمة حماس في غزة. وجاء في البيان الصادر عن المشاورات أن لقاء آخر بينهما سيعقد قريبا، دون أن يحدد موعدا لذلك. هذا يعني عمليا عدم صحة التقارير التي افترضت أن الولايات المتحدة أعطت الضوء الأخضر على قيام إسرائيل بارتياح رفح بريا، مقابل امتناع إسرائيل عن الرد على الهجوم الإيراني.
من الناحية السياسية فإن اقتحام رفح بريا يعزز سلطة حكومة إسرائيل ويمنعها من الانهيار، ذلك أن وزير الأمن القومي إيتمار بن غفير ووزير المالية بتسلئيل سموتريش والوزراء من اليمين الديني الصهيوني المتطرف يعتبرون أن السيطرة على رفح بريا يجب أن تكون الفصل الختامي لحرب غزة، وأنه بدون ذلك فإن الجيش الإسرائيلي يكون قد فقد الحرب. وإذا أسفرت العملية البرية عن قتل جميع المحتجزين الاسرائيليين في غزة، فإن قضية المحتجزين يمكن دفنها والتخلص منها تماما مع التعامل مع غضب ذويهم بطرق مختلفة، منها دفع تعويضات مالية ضخمة لهم. ومن ثم فإن نتنياهو يجد حاجة سياسية وعسكرية مركبة لدخول رفح والسيطرة عليها بريا. هذه الحاجة السياسية المحلية تزيد عن حاجته للحصول أولا على مباركة أمريكية لها. فهو نفسه يقول دائما أن التعامل مع واشنطن يحتمل الخلاف، وأن أي خلافات هي قابلة للحل، بعد أن تنفذ إسرائيل ما تعتقد أنه في مصلحتها. ومع أن يائير لبيد زعيم حزب ييش عتيد الإسرائيلي كان قد أعلن انه يقبل بمساندة نتنياهو والانضمام إلى التحالف الحاكم في حال انسحاب أحزاب اليمين الديني الصهيوني المتطرف، فإن نتنياهو نفسه لا يفضل التحالف مع لبيد، ويسعى لاستمرار التحالف الحالي في الحكم حتى الانتخابات القادمة، سواء جاءت مبكرة أم في موعدها. وهنا يتبين جانب آخر من جوانب الأهمية السياسية والعسكرية لاقتحام رفح بريا، وهو أن نتنياهو يستطيع أن يقف ليقول أمام الإسرائيليين انه حقق نصرا بائنا في غزة، يضمن له شعبية قد تمكنه من الفوز في الانتخابات التالية.
الموقف السياسي للحلفاء يمثل وجها آخر من وجوه المعضلة السياسية التي ترافق اجتياح رفح بريا. وقد شهدت الأيام الأخيرة بعد انتهاء عطلة عيد الفطر المبارك زيادة ملموسة في عدد الاتصالات مع القاهرة من جانب الولايات المتحدة وأطراف أخرى عربية وأوروبية. ومن المرجح أن جانبا من هذه الاتصالات كان يتعلق بضرورة التنسيق الإسرائيلي مع مصر قبل بدء الهجوم البري على رفح. في المقابل فإن مستوى الاتصالات المباشرة من أجل التنسيق العسكري بين تل أبيب والقاهرة انخفض منذ الزيارة الأخيرة للوفد العسكري الإسرائيلي الذي رافق وفد مفاوضات تبادل الأسرى والمحتجزين التي تمت في القاهرة دون نتيجة تذكر قبل نهاية شهر رمضان. ويبدو من قراءة الموقف على وجوه المسؤولين المصريين، خصوصا وزير الخارجية سامح شكري، أن القاهرة تعاني من قلق شديد بشأن التداعيات المتوقعة للاقتحام الإسرائيلي لرفح في حال حدوثه. كذلك فإن التسريبات الإعلامية تشير إلى خلاف كبير بين مصر والولايات المتحدة بشأن كيفية إدارة قطاع غزة بعد الحرب. حتى الآن إسرائيل لا تملك خطة عملية قابلة للتنفيذ لما يطلق عليه «اليوم التالي» في غزة، وتحاول الولايات المتحدة إلقاء عبء مهمة اليوم التالي على القاهرة. وقد تردد بشكل غير رسمي أن الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي رفض اقتراحا أمريكيا، قدمه وليام بيريز مدير المخابرات المركزية الأمريكية، بأن تتولى مصر إدارة قطاع غزة مؤقتا بعد انتهاء الحرب لمدة 6 أشهر. هذا الاقتراح في حال قبوله يعني توريط الجيش المصري عمليا في مواجهة مع المقاومة الفلسطينية والشعب الفلسطيني في قطاع غزة. وقد ردت مصر على الاقتراح الأمريكي باقتراح مضاد يقضي بتكليف حلف الأطلنطي القيام بهذه المهمة. هذا يعني أن استمرار وجود القوات الإسرائيلية في غزة دون أي أفق لحل سياسي يضمن سلامة وأمن قطاع غزة وتوفير الأجهزة القادرة على إدارته، يمثل معضلة معقدة الجوانب عسكريا وسياسيا وإداريا، وهو ما يجعل غزة مصيدة لاستنزاف إسرائيل عسكريا. وهكذا، ومع تعقيد الوضع في غزة، وفشل تقدير إسرائيل للقوة الإيرانية فإن استراتيجية الردع الإسرائيلية تكون قد واجهت ضربتين متلاحقتين، واحدة في أكتوبر من العام الماضي، والثانية في أبريل من العام الحالي، دون أن تستطيع الرد بتثبيت استراتيجية الردع التي سقطت. غزة تعيد كتابة تاريخ المنطقة، والموقف الإيراني يسهم في صياغة استراتيجية دفاعية جديدة في المنطقة قد تقوم على أساس توازن الردع النووي. الوضع الحالي على الجبهات الأربع، غزة وشمال إسرائيل والضفة الغربية وإيران يحمل تعقيدات شديدة. وبعد الاختراق الإسرائيلي المحدود للمجال الجوي الإيراني، فإن الجيش الإسرائيلي قد يعفي نفسه مؤقتا من توجيه ضربة مباشرة إلى إيران، خصوصا بعد أن أعلنت طهران أنها لن ترد لأنه ليس هناك ما يستلزم التصعيد في الوقت الحاضر. كذلك فإن الضربة التي تقلتها إسرائيل بواسطة مقاتلي حزب الله أخيرا تستدعي إعادة تقييم الموقف على الجبهة الشمالية قبل أن تفكر القوات الإسرائيلية في القيام بأي عمل كبير داخل لبنان. بعد ذلك تظل جبهة غزة، بما فيها رفح وجبهة الضفة الغربية بما فيها القدس الشرقية هما مسرح العمليات التصعيدية المحتملة في الأيام المقبلة. وربما تبدأ القوات البرية الإسرائيلية محاولة لدخول رفح مع عيد الفصح أو بعده مباشرة.

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية