في غزة: المقاومة هي الحل سِلما أو حربا

تتشابك معادلات كثيرة في تعقيد معضلة الخروج من الوضع الحالي في غزة. هناك حقائق جديدة تنشأ على الأرض تمهد لتقسيم قطاع غزة مؤقتا، وزيادة ضغوط التهديد باقتحام رفح برا، وجمود مفاوضات تبادل الأسرى والمحتجزين بين رغبة الطرفين في إتمام صفقة، حتى لو كانت جزئية، واصطدام شروط كل منهما بسبب إصرار إسرائيل على مواصلة الحرب حتى النهاية، سواء بصفقة أو دونها، وإصرار المقاومة الفلسطينية على أن يكون وقف الحرب شرطا أوليا من شروطها. ومع أن الصفقة المحتملة تمثل تجسيدا مكثفا لتشابك معادلات المعضلة، فإن هناك مظاهر أخرى شديدة التأثير منها، رغبة نتنياهو في الاستمرار في الحكم، والفوز بتشكيل الحكومة مرة أخرى بعد الحرب، وتهديد الولايات المتحدة باتخاذ إجراءات ضد إسرائيل في حال اقتحام رفح، بسبب الخسائر البشرية الرهيبة المتوقعة.
على الصعيد الفلسطيني لا نرى تفاعلا في مجال إقامة حوار حقيقي من أجل إعادة ترتيب البيت الفلسطيني من الداخل لمواجهة تحدي البقاء، أو الفناء لفكرة إقامة دولة فلسطينية، وعلى الصعيد الإقليمي نشهد تزايد الضغوط على قطر، بدءا من وقف عمل قناة «الجزيرة» من إسرائيل، إلى طلب واشنطن إغلاق مكاتب حماس في الدوحة. كما نشهد رغبة حقيقية لدى السعودية في عقد اتفاق دفاعي مع الولايات المتحدة، يعترض تحقيقها اشتراط الجانب الأمريكي أن يكون ثمن ذلك هو تطبيع العلاقات بين الرياض وتل أبيب.

يجب صياغة خطة عملية قابلة للتنفيذ ومستدامة لانتزاع الحقوق بإقامة الحقائق؛ فلن يحصل الشعب الفلسطيني على دولة في صورة منحة من إسرائيل، أو من الولايات المتحدة

مصر أيضا محشورة بين خيارات كلها صعبة في ما يتعلق باحتمالات تدفق الفلسطينيين عبر الحدود إلى شمال سيناء، إذا وقع اقتحام بري شامل لرفح. وتبدو ملامح معضلة الخروج من الوضع الراهن في غزة بين حدين، الأول هو أن تكون المقاومة الفلسطينية هي القوة القادرة على إعادة تشكيل المستقبل في غزة والمنطقة، والثاني هو العكس، أن تكون شروط المنطقة هي التي تقرر حل المعضلة في غزة ومستقبل المقاومة في الأجل المنظور.

صراع بين الحقائق والحقوق

ما يحدث يوميا في غزة في الأسابيع الأخيرة، على الأقل، لا يحمل أي تغيير حقيقي على الأرض، أو في توازنات القوى التي يمكن أن تحمل معها مثل هذا التغيير. يوميا ترتكب إسرائيل المزيد من القتل والتدمير مثلما تفعل منذ بدأ الهجوم البري على غزة في 27 أكتوبر الماضي. يوميا تشن المقاومة الفلسطينية عمليات عسكرية على القوات الإسرائيلية في غزة، أو بإطلاق صواريخ من داخل غزة، أو جنوب لبنان على إسرائيل. لكن أيا من الطرفين حتى الآن عجز عن تحقيق نصر حقيقي على الطرف الآخر. لا إسرائيل استطاعت أن تؤمن وجودها العسكري في غزة، وأن تقتلع المقاومة، ولا المقاومة استطاعت إنهاء الاحتلال وإجبار القوات الإسرائيلية على الانسحاب. المتغير التكتيكي العملي الذي يمكن أن يكسر هذا الجمود العسكري هو، إما أن تتمكن المقاومة من طرد القوات الإسرائيلية من مدن أو أماكن بعينها، والبدء في إقامة «مناطق محررة» والتوسع فيها، أو أن تتمكن إسرائيل من كسر المقاومة تماما في ما تسميه «مناطق آمنة» أو «مناطق إنسانية» تديرها سلطة تابعة لقوات الاحتلال، أو متعاونة معها. ولم تتمكن أي من القوتين حتى الآن من تحقيق ما يمكن اعتباره تغييرا في قواعد اللعبة على الصعيد التكتيكي، ولذلك فإن بقاء الوضع على ما هو عليه، لن يحمل معه يوما بعد يوما إلا المزيد من تكرار الأعمال الانتقامية والعمليات العسكرية التي نشهدها منذ بدأت الحرب. ولن ينتقل الوضع من حالة «الجمود» في التوازن التكتيكي، إلا بتأسيس حقائق جديدة على الأرض؛ فالحقائق إما أن تعزز الحقوق وإما أن تضعضعها. الجديد في الوضع التكتيكي الحالي في غزة يتمثل في متغيرين، الأول هو البدء في إقامة «منطقة أمنية» لترحيل جزء من سكان رفح، وتبرير إبادة من يتبقى. الثاني هو عملية تقسيم قطاع غزة إلى شمال وجنوب، عن طريق إقامة محور أمني حصين هو محور «نيتساريم» الممتد من شرق قطاع غزة في صحراء النقب إلى غربه على شاطئ البحر المتوسط، بالقرب من النقطة التي تتخذها الولايات المتحدة موقعا لإقامة ميناء عائم لاستقبال المساعدات الإنسانية بالسفن عن طريق البحر المتوسط . ويقع المحور على بعد حوالي 5 كيلومترات إلى الجنوب من مدينة غزة، بطول ما يقرب من 7 – 10 كيلومترات. وقد أقامت القوات الإسرائيلية 3 نقاط عسكرية على طول المحور، الذي يتضمن ممرات للآليات العسكرية الثقيلة والخفيفة والسيارات. ويمثل تمركز القوات الإسرائيلية على طول المحور عائقا أساسيا أمام عودة النازحين إلى مساكنهم في شمال غزة، كما أصبح يمثل حقيقة جديدة على الأرض، إما أن تتم إزالتها بالقوة أو الاتفاق، أو يتم إقرار وجودها وبقائها تحت حماية قوة لحفظ السلام.

الجمود السياسي

يرتبط الوضع السياسي في غزة بالتطور في المفاوضات الجارية من أجل التوصل إلى صفقة لتبادل المحتجزين والأسرى على الجانبين. هذه المفاوضات التي انتقل مركزها الجغرافي من الدوحة إلى القاهرة تتعلق بثلاثة متغيرات رئيسية، الأول هو طبيعة وقف إطلاق النار، بين الفترة الضرورية اللازمة لإتمام عملية التبادل، أو فترة طويلة تسمح بهدنة عسكرية طويلة، أو متوسطة الأمد، تمهد لاستمرار المفاوضات من أجل إتمام صفقة شاملة لتبادل المحتجزين والأسرى ووقف إطلاق النار. الثاني هو عودة أهالي غزة النازحين إلى بيوتهم في الشمال، بعد رحيلهم عنها تحت القصف الإسرائيلي إلى الجنوب على اعتبار أنه منطقة آمنة. أما المتغير الثالث فإنه يتعلق بالوضع المستقبلي في غزة وطبيعة العلاقات مع إسرائيل. وبينما تملك إسرائيل رؤية لمستقبل غزة، تشمل أكثر من سيناريو واحد، فإننا لا نرى في المقابل رؤية فلسطينية واحدة أو موحدة، ولا رؤية عربية مستقلة من أي نوع لمستقبل غزة. كما نستطيع القول دون تردد بأنه يتم ترويج الرؤية الإسرائيلية عربيا عن طريق الوسيط الأمريكي. وقد كان اجتماع الرياض الأخير بين وزير الخارجية الأمريكي أنطوني بلينكن مع وزراء الخارجية العرب المعنيين، مناسبة لإعادة التأكيد على ثوابت الموقف الأمريكي في ما يتعلق بضرورة ضمان أمن إسرائيل وضرورة القضاء على حماس، وضرورة إقامة نظام للتعاون الإقليمي بين الدول العربية وإسرائيل عسكريا واقتصاديا. نقطة الخلاف الرئيسية بين الولايات المتحدة وإسرائيل تتعلق على الصعيد التكتيكي بمسألة اقتحام رفح بريا، وعلى الصعيد الاستراتيجي – من الناحية الشكلية فقط – بمسألة السعي لإقامة دولة فلسطينية. وإذا كان هناك بصيص أمل في تطوير رؤية فلسطينية – عربية لليوم التالي في غزة، فإن عناصر هذه الرؤية يجب أن تشمل تقديم إجابات عملية قابلة للتنفيذ ومستدامة بشأن أربع قضايا أساسية هي الإدارة، والأمن، وإعادة البناء، والعلاقات المستقبلية مع إسرائيل. وللبدء في تطوير هذه الرؤية، فإن المقاومة الفلسطينية، وليس حماس فقط، يجب عليها أن تحدد تماما ما تريد. هذا لا يعني الاكتفاء بإعادة ترديد شعارات لحفظ الحقوق مثل إقامة دولة فلسطينية، لأن ذلك لا يقدم جديدا، وإنما يجب صياغة خطة عملية قابلة للتنفيذ ومستدامة لانتزاع الحقوق بإقامة الحقائق؛ فلن يحصل الشعب الفلسطيني على دولة في صورة منحة من إسرائيل، أو من الولايات المتحدة. وإذا كان هذا الشعب قد دفع دما وأرواحا غالية منذ عشرينيات القرن الماضي حتى اليوم في سبيل ضمان حقوقه، فإن المكافأة الحقيقية لمن ضحوا هي إقامة الدولة المستقلة الآمنة القادرة على البقاء والنمو. وهنا تقع على النخبة الفلسطينية، وعلى الحكام العرب مسؤولية تاريخية سوف تطاردهم أبد الدهر، إذا تخلوا عنها أو تواطأوا ضدها، وسوف تخلدهم إذا تمسكوا بتحقيقها قولا وفعلا، إن أي مشروع فلسطيني لن يتحقق دون وفاق إقليمي، وهو ما يتطلب أعلى مستوى من التعاون مع القوى الإقليمية، بما فيها القوى الخارجية المؤثرة اللاعبة في الإقليم. ولن يكون تحقيق وفاق إقليمي مسألة سهلة، ومع ذلك فإن ضغوط عنصر الوقت، بسبب الانتخابات الأمريكية، وتوتر الوضع السياسي الداخلي في إسرائيل، ومخاوف عدم الاستقرار في العالم العربي، يفرض على الجميع الآن التعامل بجدية مع معضلة الخروج من الوضع الحالي بأقل الخسائر الممكنة. ولن يستطيع الحكام العرب فرض حل على المقاومة الفلسطينية، ولن تتحقق أحلامهم في التطبيع مع تل أبيب والتحالف مع واشنطن دون ذلك. كما أن المقاومة الفلسطينية لن تستطيع تحقيق أهدافها السياسية، دون وفاق مع المنطقة والعالم. ومن المؤسف أن نقرر هنا بأننا في الجانب الآخر من المعادلة نسرف في تكرار الحديث عن الحقوق، وننصرف عن إقامة الحقائق الضرورية لحمايتها. ولعل العرب الذين يكتفون بترديد شعار «ما ضاع حق وراءه مُطالب» يتعلمون أن المطالبة بالحق تكون بإقامة الحقائق وليس بالصراخ الأجوف.
كاتب مصري

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية