المقاطعة الاقتصادية: الوجه الثاني لسقوط إسرائيل عالميا بسبب حرب غزة

إبراهيم نوار
حجم الخط
0

تتعرض إسرائيل حاليا لموجة جديدة من المقاطعة الاقتصادية، على التوازي مع تصاعد حركة الاحتجاجات الطلابية في العالم ضد إبادة الفلسطينيين، وارتفاع تكلفة الحرب في غزة، والتأثير السلبي لتعديلات النظام القضائي الداخلي التي تعطي السلطة التنفيذية والكنيست سلطات تعلو فوق سلطة المحكمة العليا. ولا تتوقف شعارات الاحتجاجات الطلابية في جامعات العالم غربا وشرقا عند مجرد المطالبة بوقف العدوان وإنهاء الحرب، وإنما تتسع إلى مجالات مالية واقتصادية مهمة منها مقاطعة شراء السلع الإسرائيلية، والدعوة إلى التخارج من الاستثمار في إسرائيل، وإلى فرض عقوبات اقتصادية واسعة النطاق على الشركات التي تتعامل معها وتتربح من العدوان على غزة.
الدعوة للمقاطعة الاقتصادية ليست جديدة وإنما تعود إلى عام 2004 وتتصاعد بقوة منذ عام 2014. وقد بلغت للمقاطعة ذروة جديدة مع العدوان الإسرائيلي على غزة. وهي تستمد قوتها الآن من صمود الشعب الفلسطيني، ومن خبرة التجارب السابقة، ودورها في إسقاط نظام التمييز العنصري في جنوب أفريقيا. المخجل أن دولا عربية تتوسع في علاقاتها الاقتصادية مع إسرائيل، متجاهلة المذابح اليومية ضد الشعب الفلسطيني الصامد، في حين أن دولا إسلامية منها ماليزيا وتركيا تتصدر المقاطعة الاقتصادية على مستوى العالم شعبيا وحكوميا.

المقاطعة التجارية

يعتبر قرار تركيا الأخير بوقف التجارة مع إسرائيل أحدث إجراءات المقاطعة الاقتصادية ضدها بسبب عدوانها الوحشي على غزة، وتجويع مواطنيها، واستهداف إبادتهم بالقتل وبكل الوسائل التي يحظرها القانون الدولي. وقد تم وقف التجارة التي بلغت قيمتها السنوية 6.8 مليار دولار في العام الماضي، من وإلى إسرائيل اعتبارا من الثاني من الشهر الحالي، حيث توقفت الموانئ والمطارات التركية عن شحن البضائع المصدرة إلى إسرائيل، وكذلك عن استقبال البضائع الواردة منها، حتى تتوقف الحرب وتسمح إسرائيل بإلغاء كافة القيود على دخول المساعدات الإنسانية إلى غزة.
وكانت السلطات التركية قد بدأت ضغوطا تجارية على إسرائيل اعتبارا من بداية الشهر الماضي بفرض قيود على تصدير 54 سلعة تشمل مواد بناء وسلعا صناعية منها الأسمنت والحديد والألومنيوم والرخام. وكانت التجارة المشتركة بين البلدين في شهر اذار/مارس فقط قد بلغت 604 ملايين دولار، منها صادرات تركية إلى إسرائيل بقيمة 437 مليون دولار مقابل واردات منها بقيمة 167 مليون دولار. كذلك فقد تسبب المقاطعة الاقتصادية، مع تداعيات تكلفة الحرب والتعديلات القضائية، في هبوط قيمة تدفقات الاستثمارات الأجنبية المباشرة إلى إسرائيل في العام الماضي بنسبة 29 في المئة مقارنة بعام 2022 لتبلغ حوالي 16.4 مليار دولار مقابل 23 مليارا في العام السابق. أي إنها تراجعت إلى ما كانت عليه عام 2017 وخسرت كل المكاسب التي كانت قد حققتها حتى نهاية عام 2022. ومع أن بداية الهبوط سبقت حرب غزة، على خلفية مشروع تعديل النظام القضائي ومنح سلطات أكبر للكنيست والحكومة على المحكمة العليا، فإن حرب غزة عجلت من سرعة هذا الهبوط ووسعت نطاقه ليشمل تراجعا بنسبة 8 في المئة في قيمة صادرات الخدمات الإسرائيلية، التي تعتبر واحدا من أهم محركات النمو الاقتصادي. كذلك فإن تدفقات الاستثمارات في المشروعات الرأسمالية المشتركة بين رأس المال الإسرائيلي والأجنبي في قطاع الشركات التكنولوجية الناشئة سجلت هبوطا حادا في العام الماضي لتبلغ 1.5 مليار دولار فقط، وهو أقل مستوى منذ عام 2015 بنسبة انخفاض تبلغ حوالي 74 في المئة مقارنة بعام 2022. ويعتبر قطاع شركات التكنولوجيا من أكثر القطاعات حساسية لتدفقات رؤوس الأموال الأجنبية، بسبب تأثير الحرب والمقاطعة والتعديلات القضائية. وكانت هذه الشركات قد حصلت وحدها على تدفقات بقيمة 5.9 مليار دولار في عام 2022.

اتساع المقاطعة عالميا

اشتعلت موجة المقاطعة ضد الشركات المتواطئة مع إسرائيل في العدوان الوحشي على غزة في تشرين الأول/أكتوبر الماضي بعد انتشار أنباء معززة بصور ومعلومات عن قيام بعض فروع شركة «ماكدونالدز» الأمريكية للوجبات والمشروبات السريعة بإعداد آلاف الوجبات المجانية للتوزيع على الجنود الإسرائيليين الذين يشاركون في الحرب على غزة. وقد ساعدت منصات التواصل الاجتماعي على سرعة انتشار الخبر والدعوة إلى المقاطعة في كل الدول العربية والإسلامية وجميع أنحاء العالم، لتخلق تيارا قويا ضد الشركات المتواطئة مع إسرائيل، وتلك التي تتربح من الحرب في كل المجالات تقريبا من الوجبات والمشروبات السريعة، إلى الملابس الرياضية، إلى البنوك والشركات الصناعية، وكذلك شركات التكنولوجيا والصناعات العسكرية المتعاونة مع إسرائيل بشكل مباشر أو غير مباشر في العدوان على الفلسطينيين. وقد نجحت حركة المقاطعة في التأثير بدرجات متفاوتة على قنوات التعاون العلمي والتكنولوجي والمالي والتجاري مع إسرائيل، مستعينة بقوة منصات التواصل الاجتماعي. وطبقا لتقرير نشرته صحيفة «واشنطن بوست» في كانون الثاني/يناير الماضي فإن نداءات الدعوة إلى مقاطعة إسرائيل انتشرت انتشار النار في الهشيم من خلال المنصات خصوصا «تك توك» لتصل إلى ثلاثة مليارات مشاهدة بعد شهرين من الحرب، وملايين الرسائل على منصات أخرى، ومئات الحملات للتعبئة والتضامن مع المقاومة الفلسطينية وإدانة العدوان الإسرائيلي نظمها أفراد ومجموعات، لاقت استجابة على نطاق واسع في كل أنحاء العالم خصوصا بين الشباب. وقد تجلى مردود هذه الحملات في استطلاعات الرأي العام في الولايات المتحدة وأوروبا، التي أظهرت تأييدا متعاظما للمقاومة الفلسطينية، وإدانة العدوان الإسرائيلي بين الناخبين صغار السن بمن فيهم الذين يصوتون في الانتخابات العامة في بلدانهم لأول مرة هذا العام، خصوصا في الولايات المتحدة.
ومع أن شركات التكنولوجيا التي تدير منصات التواصل الاجتماعي لعبت دورا رئيسيا في ترويج المقاطعة، فإنها كانت مثل غيرها هدفا من أهدافها، بما في ذلك شركة غوغل المملوكة لمجموعة «ألفابت» العالمية الضخمة. وقد شملت الاحتجاجات تقديم شكوى ضد الشركة بواسطة عشرات العاملين فيها إلى المجلس الفيدرالي للعلاقات العمالية في الولايات المتحدة، بسبب صدور قرارات فصل إداري ضد 50 من العاملين الذين شاركوا في احتجاج كبير ضد صفقة أبرمتها «غوغل» مع الحكومة الإسرائيلية يتعلق باستخدام الخدمات «السحابية». وجاء في الشكوى التي تقدم بها العمال أنهم شاركوا في الاحتجاج السلمي «غير المعطل للعمل» ضد الصفقة بما لا يتناقض مع نصوص عقود العمل المبرمة مع الشركة، مطالبين بإعادتهم للعمل والحصول على تعويض عن فترة الإيقاف الإداري. هذا الاحتجاج الذي تم تنظيمه داخل «غوغل» كان يمثل واحدا من مظاهر حركة عمالية قوية ضد التعاون مع النظام السياسي العنصري في إسرائيل، ترفع شعار «لا لتبادل التكنولوجيا مع نظام عنصري». وقد شارك في حركة الاحتجاج داخل «غوغل» عشرات العاملين في منشآتها في نيويورك وكاليفورنيا وسانيفيل وغيرها.

نشأة حركة المقاطعة

نشأت حركة المقاطعة الاقتصادية ضد إسرائيل عام 2004 من رحم ائتلاف واسع بين منظمات المجتمع المدني الفلسطيني التي تتبنى استراتيجية الكفاح السلمي ضد الاحتلال. وقد دعت هذه الحركة أولا إلى وقف التعاون الأكاديمي والثقافي مع المؤسسات التي تمارس تمييزا ضد الفلسطينيين، لكنها توسعت في العام التالي إلى الدعوة لفرض مقاطعة شاملة على نظام التمييز الصهيوني، الذي يهدف لإبادة الهوية الفلسطينية تماما وتدمير كافة مقوماتها المادية والمعنوية. وقد استلهمت اللجنة الفلسطينية للمقاطعة في نهجها السلمي في الكفاح ضد إسرائيل، التجارب الناجحة لهذا النهج في العالم ومنها الكفاح ضد نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا في ثمانينات القرن الماضي، وحركة الشباب الأمريكية- العالمية ضد الحرب الأمريكية على فيتنام في الستينات. ويتم الرمز حاليا لهذه الحركة باسم «بي دي إس» وهي الحروف اللاتينية الأولى من الكلمات التي تعني بالعربية «مقاطعة- تخارج من الاستثمار- عقوبات». وطبقا لبيان صادر عن عمر البرغوثي الذي شارك في تأسيس الحركة، فإن أهدافها تتضمن إنهاء احتلال الأرض الفلسطينية التي اغتصبتها إسرائيل منذ 5 حزيران/يونيو 1967 وإسقاط الأسوار والعوازل التي إقامتها إسرائيل حول المدن والقرى العربية في الضفة، وإنهاء التمييز في الحقوق ضد الفلسطينيين، والتأكيد على حق العودة للاجئين الفلسطينيين الذين غادروا منذ عام 1948.
وتواجه حركة المقاطعة إجراءات معادية من جانب حكومات الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي تصل إلى حد تجريم الدعوة لها، وفرض قيود على المشاركة في أنشطتها أو تقديم تبرعات لها، واتخاذ إجراءات عقابية ضد من يسهم من الأفراد أو المؤسسات في تمويل تلك الأنشطة، وذلك على الرغم من تعارض هذه الإجراءات مع مبادئ الحريات الفردية في النظم الديمقراطية بما في ذلك مبادئ حرية التعبير عن الرأي بالوسائل السلمية في الدستور الأمريكي. وتقود اللجنة العامة للعلاقات الأمريكية- الإسرائيلية «أيباك» تنظيم التحركات المعادية لحركة المقاطعة، بالدعوة للاحتجاجات عليها بقوانين وإجراءات مكافحة «العداء للسامية» التي تستخدمها المنظمات الصهيونية العالمية سلاحا لتبرير حرب الإبادة الإسرائيلية ضد الشعب الفلسطيني.

مدى تأثير المقاطعة؟

مع أن عددا من الاقتصاديين يشيرون إلى ضعف تأثير حركة المقاطعة على الاقتصاد الإسرائيلي، على اعتبار أنه اقتصاد متخصص في التصدير إلى الخارج، فإن المؤشرات الفعلية تشير إلى تأثير المقاطعة الذي أدى إلى تراجع حاد في تدفقات الاستثمارات الأجنبية والتجارة الإسرائيلية، وتعاظم قوة الرأي العام العالمي الذي يدين الوحشية الإسرائيلية واستراتيجية إبادة الشعب الفلسطيني.
ومن أمثلة نجاح المقاطعة إجبار شركة المرافق العامة والخدمات الفرنسية «فيوليا» على الانسحاب عام 2015 من مشاريع محل جدل بسبب الاتهامات الموجهة بالتمييز ضد الفلسطينيين، وهو ما كلف الشركة مليارات الدولارات طبقا لتقديرات خبراء السوق فباعت الشركة أصولها الاستثمارية وتخارجت. وقالت واحدة من أساتذة الاقتصاد في جامعة ولاية جورجيا الأمريكية إن عدد التشريعات والإجراءات التي تتخذها الولايات وفي الكونغرس ضد حركة المقاطعة يثبت تعاظم تأثيرها والخوف من انتشارها، ولولا ذلك لما كانت هذه المعارضة لحركة المقاطعة. ويتضمن تقرير حركة المقاطعة عن الشركات المتعاونة مع الاحتلال الإسرائيلي حتى نهاية اب/أغسطس من العام الماضي أسماء ممولين ومستثمرين ينتمون إلى 51 شركة أوروبية تمارس أنشطة اقتصادية في الأرض الفلسطينية المحتلة. وعلى رأسها بنوك مثل «باركليز» و«إتش إس بي سي» قدمت قروضا وتسهيلات ائتمانية للشركات العاملة في المستوطنات بقيمة 116.6 مليون دولار من عام 2020 حتى اب/أغسطس عام 2023. كما أن هذه البنوك وغيرها تقدم تسهيلات مالية للشركات العاملة في تصنيع وتجارة الأسلحة في إسرائيل مثل شركة «إلبيت» المنتجة لقنابل الفوسفور الأبيض، التي يستخدمها الجيش الإسرائيلي في حرب الإبادة ضد الشعب الفلسطيني وفي جنوب لبنان.
وتشمل قائمة المقاطعة والتخارج من الاستثمار والعقوبات التي يتبناها حاليا طلاب الجامعات في الولايات المتحدة شركات عملاقة عالمية النشاط منها «غوغل» و«أمازون» و «أير بي إن بي». ويطالب أساتذة وطلاب جامعة «كورنيل» بسحب استثمارات الجامعات من شركات صناعة الأسلحة الأمريكية بما فيها «بوينغ» و«لوكهيد مارتن». مصدر هذه الاستثمارات هو الأوقاف الخيرية المملوكة للجامعات، والتي تعتبر الأداة الرئيسية لضمان تمويلها المستقل بعيدا عن الحكومات. لكن الجامعات، وهي تستخدم أموال الأوقاف الخيرية المستقلة، قد لا تدير أموالها بنفسها، وإنما بواسطة صناديق استثمار مستقلة، أو شركات للتمويل، وهو ما يؤدي إلى تغليب اختيارات مديري صناديق الاستثمار. وتبلغ قيمة الوقف الخيري لجامعة هارفارد وحدها حوالي 41.9 مليار دولار، في حين تبلغ قيمة الوقف الخيري لجامعة كولومبيا حوالي 13.6 مليار دولار. ونظرا لأن استثمار أموال الأوقاف المالية للجامعات يتم بقرارات مديري الاستثمار، الذين يضعون اعتبارات الربح فوق الالتزام بالقيم فإن طلاب الجامعات يدعون إلى وقف التعاون مع الشركات المتواطئة مع إسرائيل في حرب إبادة الفلسطينيين والتي تتربح منها، مثل شركات السلاح، أو الشركات التي تشارك في أنشطة الاستيطان، أو تشارك في التمييز ضد الفلسطينيين وسحب استثمارات الجامعات منها. وإضافة إلى ذلك يدعو الطلاب إلى وقف برامج التعاون العلمي والتكنولوجي مع الجامعات الإسرائيلية التي تخدم تحقيق أهداف الاحتلال. ما يثير الخزي في هذا السياق أن حكومات في العالم العربي تتسابق على زيادة علاقاتها مع إسرائيل، وتبتعد عن المشاركة في الحملة العالمية التي تقودها حركة المقاطعة ضد إسرائيل. وخير مثال على ذلك هو موقف الدول العربية من شركة «ألستوم» الفرنسية، التي تقوم بتنفيذ مشروعات البنية الأساسية في المستوطنات، وتساعد الحكومة الإسرائيلية على دمج القدس الشرقية في بنية الاحتلال، من خلال مد خط القطار الكهربائي الخفيف من تل أبيب إلى القدس الشرقية. وبدلا من مقاطعتها عربيا فإنها تلقى ترحيبا كبيرا في تنفيذ مشروعات البنية الأساسية في بلدان مثل الإمارات والسعودية ومصر والعراق والجزائر.

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية