تحديات العودة الى الوراء في تونس

في الوقت الذي يستمر فيه حكام مصر الجدد في التأكيد على انه لا سبيل للعودة الى الوراء، في اشارة واضحة لعدم استعدادهم تقديم اي تنازل قد يسمح بشكل من الاشكال بعودة محتملة للرئيس محمد مرسي ليستكمل ما تبقى من عهدته الرئاسية، يواصل المعارضون للسلطة في تونس، وتحديدا لحركة النهضة دعواتهم لاسقاط النظام وحل المجلس التأسيسي وجميع السلطات التي انبثقت عنه، ما يعني نسفا بالكامل للخطوات المحدودة التي قطعتها البلاد منذ انتخابات تشرين الاول/اكتوبر2011 قصد بناء مؤسسات قارة ومستقرة والرجوع بها في المقابل الى الوراء، اي الى المرحلة التي سبقت تلك الانتخابات، وقامت على توافقات هشة وصعبة، او ربما حتى الى ابعد من ذلك، اي الى زمن بن علي الذي لم تعد تصفه وسائل الاعلام المحلية بالمخلوع، بل تكتفي فقط بان تطلق عليه صفة الرئيس السابق.
التصلب الذي تبديه المعارضة الان يقابل على الطرف الاخر بقدر واسع من الثقة والهدوء. ومن الواضح ان الائتلاف الحاكم الذي تمكن عقب الازمة السياسية الحادة التي عصفت بالبلاد قبل ستة اشهر باغتيال المعارض اليساري شكري بلعيد من الصمود وامتصاص الصدمة، رغم التنــــازلات البسيطة التي اضطر لتقديمـــها انذاك والمتمــــثلة في تغيير شخص رئيس الحكومة وتعيين وزراء غير منتمين لحركة النهضة في وزارات السيادة، قد اكتسب قدرا من الخــــبرة والمهارة التي تسمح له بان يدير الازمة الحالية بهامـــش واسع للمناورة، فيما استقر اداء المناوئين للحكــــومة على حاله، من دون ادنى تطور لافت، لا في الخطاب والاساليب او، وهذا الاهم، في البدائل العملية المقترحة على التونسيين، الشيء الذي افــــرغ الحراك الظــــرفي بعد الاغتــــيال الثاني لسياسـي اخر، وهو محمد البراهمي، ثم التطورات الامنــية الخطيرة التي تلته، في ما بعد، كل نجاعة او قوة دفع حقيقية على الارض.
المجلس التأسيسي وحتى رئاسة الحكومة هي خط احمر بالنسبة للشيخ راشد الغنوشي رئيس حركة النهضة، وهي بذلك لا يمكن ان تكون الثمن المناسب لتوافقات قد تلبي في جانبها الاكبر مطالب المعارضين، لكنها بالتأكيد سوف تفقد الحركة مواقعها الامامية في الخريطة السياسية، التي تشكلت بفعل الانتخابات وقد تحولها ايضا بعد ذلك، كما يتخوف الكثيرون من حزب شريك في السلطة الى العدو اللدود للماسكين الافتراضيين المقبلين للسلطة، مثلما ظل الامر طيلة العقود التي سبقت هروب بن علي قبل ازيد من عامين.
كيف السبيل بعد كل ذلك اذن الى جسر الهوة التي تزداد عمقا بين الطرفين، وهل مازال الامل ممكنا في ظل ارتفاع سقف مطالب هذا الجانب، والرد السريع برفع الخطوط الحمراء من ذاك الجانب للوصول الى صيغة ترضي الجميع وتكفل الخروج السريع والامن من الازمة باقل التكاليف، ووفق القاعدة الثمينة لا غالب ولا مغلوب؟
المبادرات التي تدفع نحو خفض الاحتقان وجلب الحكومة والمعارضين الى جلسات حوار هادئ قد يخرج بنتائج عملية تسمح بتسريع المسار وتصحيح عثراته والمضي في اقصر الاجال نحو المصادقة على الدستور الجديد وانجاز انتخابات نزيهة وشفافة، بدأت تنضج على نار هادئة، رغم كل ما يبرز على السطح حتى الان من مواقف متصلبة. والاختراق الذي قام به رئيس المجلس التأسيسي باعلانه تعليقا للجلسات حتى الوصول الى جمع الفرقاء حول طاولة واحدة، هو البداية الفعلية لتمهيد الطريق نحو تلك المساعي. بقي ان هناك عاملين مهمين قد يدفعان نحو تفكيك الازمة او مزيد النفخ فيها، وهما موقف النقابات العمالية وتحديدا الاتحاد العام التونسي للشغل، ثم التاثيرات الخارجية بدءا بدول الجوار وصولا الى الدول المهتمة بالشأن التونسي وبالاساس فرنسا.
بالنسبة لاتحاد الشغل فما يصدر عنه حتى الان من مواقف رسمية يدل على قدر من الحرص حتى لا يقطع بالكامل شعرة معاوية بينه وبين النظام، والا يتماهى مع جميع المطالب التي ترفعها احزاب المعارضة، واهمها حل المجلس التأسيسي. لكن هناك مسالة مهمة يعلمها الجميع في تونس وهي ان تلك الاحزاب ليست لديها القدرة الكافية على حشد الشارع، وانها سوف تحتاج الى ما يصفه احد قادة المنظمة العمالية بماكينة الاتحاد، وذلك في صورة ما اذا اختارت تصعيـــد احتجاجاتها. وعلى هذا المستوى بالذات فان ملـــــيونية دعم الشرعية التي نظمتها حركة النهضة بساحة القصبة كانت بمثابة الرسالة المزدوجة للانصار والخصوم، على حد سواء، بجهوزيتها متى اقتضت الضرورة لخيارالنـــزول الى الشارع، ما يعــني فرضية التصادم مع الاتحاد اذا ما انحاز بالكامل لمطالب المعارضين.
اما في ما يتعلق بالمواقف الخارجية فيبدو ان السلطات الجزائرية باتت تدرك ان حالة انعدام الاستقرار وتفاقم الازمة السياسية لدى جارتها الصغرى قد تكون لها ارتدادات قوية مدمرة على اوضاعها الداخلية، خصوصا امام الغموض السائد حاليا بشأن مستقبل البلد في مرحلة ما بعد بوتفليقة، وهو ما قد يجعلها تتجاوز ظرفيا منطق الريبة والتوجس الذي ظل سائدا في علاقاتها مع حركة النهضة، رغم انها تظل بالطبع غير مطمئنة لنجاح اي تجربة تسمح للاسلاميين بالاستمرار في السلطة. اما فرنسا التي صرح رئيسها الشهر الماضي في خطابه امام المجلس التأسيسي في تونس ان بلاده لا ترى تعارضا بين الاسلام والديمقراطية وانها مستعدة للتعامل مع اي طرف تفرزه صناديق الاقتــــراع، فمن الواضـــح انها تجنبت هذه المرة ان تتدخل بصفة مكشوفة مثلما كان الامر بعد اغتيال شكري بلعيد في السادس من شباط/فبراير الماضي، لما ادلى وزير داخليتها بتصريحات صحافية داعمة لمعارضة رأى فيها الضحية، لما اطلـــــق عليه الفاشية الاسلامية. ويبدو الان ان باريس لم تعــــد تفضل، لاعتبارات مختلفة، ان تظهر في الصورة رغم انها تمسك عدة خــــيوط مهمة ولديها ارتباطات وثيقة وقديمة بالعناصر المحورية التي تقود التحركات الاحتجــــاجية في تونس، وهي تدرك الى جانب كل ذلك مدى الضرر المباشر الذي سوف يلحق بمصالحها الاستراتيجية في تونس في صورة انفلات الوضع وخروجه عن السيطرة.
ويقدم المأزق الذي وصلت اليه الامور في مصر من تعطيل لحركة الانتقال الديمقراطي واسقاط للشرعية، اضافة الى ارباك الصديق قبل العدو، نموذجا لما يمكن ان تنحدر اليه الاوضاع في صورة الفشل في تحقيق التوافق المطلوب. وليست لتونس القدرة على تحمل ذلك، كما ان عودتها الى الوراء لن تخدم سوى مافيا الخراب التي تمددت على كامل البلد والتي لا تهتم كثيرا ان كان الحكام اسلاميين ام علمانيين مادام وجودها مستمرا ومصالحها مؤمنة.
الوعي بذلك هو الغــــالب في تونــــس اما الاشكال الحقيقي فهو ان اصحاب المصالح الضـــيقة مستعدون لكل شيء، بما في ذلك احراق البلد ودفعه نحو المجهول فقط من اجل ان تحمى تلك المصالح، حتى ان رددوا باستمرار مع باقي التونسيين نشيدهم الوطني حماة الحمى… بحماسة لا نظير لها.

‘ كاتب وصحفي من تونس

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول معز:

    الوضع في تونس معقد الى درجة يجعله مفتوحا على كل الاحتمالات و هذا يعود الى اسباب منها انعدام الثقة بين الفرقاء. و منها سيطرة الحسابات الضيقة اضافة الى غياب النضج السياسي لدى الكثير من الاطراف.لكن المقارنة بين البدين و ان بدت مشروعة الا ان العديد من المعطيات تجعل المسالة مختلفة.

إشترك في قائمتنا البريدية