باسمة بطولي: وحدة المعنى في اللوحة التشكيلية والقصيدة

تعمل اللغة الفنية عند الشاعرة والتشكيلية اللبنانية باسمة بطولي على تكثيف جمالي ينبع من الفكر المرتبط بالكلمات والأشكال، فهي تعتمد على الأسس غير التقليدية لإحياء جوهرية الفعل، حيث تفصل بين القول والشكل، أو الأحرى بين الأشياء المفتوحة الآفاق، وفق أبعادها المختلفة، واللغة حيث تتقاطع المعاني من أجل فهم كيفية تمكنها من الربط بين الرسم والشعر. لتحقيق رؤيتها الفنية المتميزة حول جوهرية القصيدة، ضمن اللوحة التشكيلية ومؤثراتها الثنائية المعاصرة، دون أن تحدد مسارات اللغة بشكل أحادي غير قابل للتطور، بين لوحة ولوحة أخرى أو بين قصيدة وقصيدة. إذ تحصر السمات المشتركة حسيا مع الألوان والكلام الشعري، ضمن الإمكانيات البصرية، والأخرى التخيلية، أو على الأقل كل ما هو مستوحى من المواقف المؤثرة على تتبع المسارات. وفق مزيج من العناصر المتباينة تشكيلياً، معتمدة على الإيقاع المتغير والمتناسب مع القصيدة معتمدة على مبدأ الجذب والتنافر الخاضع لمفهوم الفضاءات المفتوحة الأبعاد، والفراغ لفتح الرؤى على عدة احتمالات لا تنفي الواقع، ولا تمتد إلى الخيال اللامتناهي، بل تبقي الكلمة مفتوحة على عدة معان كما الأشكال. فهل ما بين اللوحة الفنية عند باسمة بطولي ونسيج القصيدة نظام ليس أحادي البعد؟ أم أن الصياغة التشكيلية تنتجها القصيدة وتفاعلاتها مع الألوان بشكل متناسق مع المعنى؟ ولماذا هذا النبض الشعري والتسلسل اللفظي في لوحة تستفزنا إلى الاكتشاف؟
تمنح بطولي وحدة المعنى في كل من القصيدة واللوحة أبعادا مختلفة قابلة للتطور، لتنفي البعد الأحادي وتُقبل على الدائرية بمعناها الاصطلاحي شعرياً، حيث تصل الخطوط إلى ذروتها في لوحة بدايات، وعبر الدوائر غير المتصلة محددة قيمة اللون من خلال الأبعاد والتدرجات عبر قاعدة استثنائية تحدد تطلعاتها من خلالها في لعبة شاعرية راسخة في قصيدة الأفق الهارب، ومعظم المعاني في هذه القصيدة تتحرر من القيود أو من صرامة النظم، كأننا نلمس حسيا حقائق الإحساس الفعلي بالجمال وما ينطوي عليه من تغيرات جذرية بين حركة وحركة، أو بين عقل وفعل دون أن تتزحزح مكانة الكلمة، أو اتجاهات الخطوط التي تترجم من خلالها قوة أحاسيسها. فهي تعتمد على الأفق المفتوح لدائرة تبدأ بها من نقطة وتتوقع نهايتها دون أن تغلقها لتتجدد، لكنها تستدعي كل التصورات التي تندفع «حيث سألنا ردّ بالصمت غائب كما الله يبقى حاضراً بالمغيب» فهل في الوضوح الدائري قوة عند باسمة بطولي؟ أم هي تعديلات المعنى الوجودي من خلال الأصداء الفعلية التي تتشكل في لوحة وقصيدة معاً؟ أم أنها تحتفظ بأنوثة امرأة حيث تنكشف فاعلية الخلق بين قافية وخط؟

تجلب باسمة بطولي الأشكال كما الكلمات بانسجام، يتيح لها الربط بين الصوت والنغمة والإيقاع، وبين لون ولون وفق تدرجاته البصرية، ونبض المزج المؤدي إلى التبادل بين المعنى والنغمة، نظراً لقوة التفاعلات، والغنى الفعلي للاتجاهات باختلاف ميلانها، أو حتى الحنو بمعناه المنحني نحو الأشياء «وأنّى اتجهنا تمتمات بذكره أأصبح لأشياء نبض القلوب؟». وهذا يتحقق فعليا من قول الكلمات وتأثيرات المحتوى الفعلي لتلاشي اللفظ النبضي عبر التسلسل الشعري، وقدرة الانفتاح الموضوعي على جمالية التعبيرات ضمن الشكل الداخلي قبل الخارجي، دون أن تقدم وضوحاً مباشراً للمعنى الراسخ والمؤكد على دور المرأة وأهميتها في الحياة، أو حتى في الوجود بشكل كامل. فجسد الكلمة عند باسمة بطولي، لا يختلف عن تكوين اللوحة، لتفرض الاستمتاع بين الحسي والمادي، دون دلالات محددة.. لتوقظ الكلمة من مهد اللوحة، بمعنى حسية الحركة الفعلية بين الكلمة والشكل، حيث يتم الشعور بالجمال المطلق، والإيمان بما يؤسس للتقارب بين الإنسان والإنسان، وبين القلوب والقلوب، وبالتالي بين الأروح التي لا تترك أجسادها، وإنما تلغي المسافات بين صعوبة فهم الكلمة الشعرية لتقديم تشكيلي تنادي من خلال وميضه ما تعجز عنه اللغة البشرية. فهل اللوحة التشكيلية والقصيدة تتقاطعان بالمعنى الحقيقي للجمال؟ أم أن الاسترسال الحسي عند باسمة بطولي هو امرأة قوية قادرة على فرض الذات في وجود تتقاطع فيه الأشياء؟
تتوافق القصيدة مع المعنى التشكيلي الذي يشترك مع لانهائية الشكل في لوحة بدايات، وقدرة إبراز وميض اللون الأبيض وخاصيته المندمجة مع الضوء دون أن تحجب معايير الضوء عن الألوان الأخرى، والتواصل الحسي الذي يتطلب قدرة على إبراز الفراغات، كما الفواصل، كما بُعد اللغة ومكوناتها، بتشويق جذري لنفي العدم كلياً، ولترسيخ النفس والروح واستمراريتهما في ماديات تمسك بالأسس المعقدة لوجود هو استبدال لمحتوى الكلمات الكاملة واتجاهاتها المتعددة. «وأرسلت أنفاسي تبشّر أرضنابحبي كدفء بالربيع القريب» ما يسمح لها بالتحرر من خلال اللوحة من جمود القيود النحوية، وكسر الروابط بين القصيدة واللوحة التشكيليه للوصول إلى تناقضات متعددة الأبعاد، وبحركة دائرية كعادتها بين الكلمات والأشكال. لتتعايش التفاصيل الأخرى مع دائريتها واللإدراك الايقاعي للخطوط لتوحيد الشكل والكلمة وإبقائهما في حالة من التشويق التعبيري غير المستقر في خط مستقيم، بل ضمن قوة الفراغات لتمثيل فعلي منفصل عن الاختلافات الأخرى، في الواقع ضمن المزيج المتلائم تدريجيا مع الضوء والظل في اللوحة، مع الحفاظ على حركة الايقاعات في القصيدة وبالتالي تحدث الانتقالات عن بطولي تحت عدة تأثيرات جمالية قوية، في الكثير منها وبنفس شاعري موسيقي الأبعاد (القوافي، والصور البيانية، والجناس) وتدرجات الضوء ضمن اللون الواحد، وبتجليات توقظ الإحساس لإدراك المعنى العميق والظاهري نظراً للبدايات، دون النهايات وتألقها في القصيدة واللوحة.

تتناسب الألوان بصريا مع بعضها بعضا في لوحة «بدايات» ما يسمح بتأمل تسلسلات الألوان، وبتوافق دلالي ذي متغيرات فنية لا تخلو من الإحساس بروابط التناغم والتطابق والتدفق، وبتزامن حسي ذي استلهام جوهري، دون إحباط لشفافية المعنى، الذي تقدمه بطولي كلوحة أخرى متخيلة محملة بدرجات شاعرية تنبض بقوة بشكل تناسقي مع كل ما يتبلور في أسلوبها التشكيلي، الذي يميل إلى ثنائية الأبعاد، كما إلى دائرية تحاول الالتفاف من خلالها إلى التجديد أو التحديث والتطور في الحياة. فهل اللغة الشعرية عند باسمة بطولي هي ممارسات تشكيلية أصابت الحس الجمالي بقيم الصوت الشعري ونغمات اللون وتأثيراته البصرية. رؤية جمالية ترتسم بحرفية ذات تقلبات تستدعي من خلالها بطولي لغتها الشعرية، لتبقيها في ما بعد طي أحاسيسها التشكيلية، وكأنها تستتبع القصيدة بلوحة تشهد على عشقها للجمال الكوني، دون أن تبتعد عن ممارسات لغوية ذات فلسفة شعرية حميمية تعكس من خلالها العلاقات الغامقة في لوحة بدايات، دون أن تختزل تشكيلياً مشاعرها، أو أن تمس المعنى الشعري، المتنوع بمتناقضات تجعلنا نتساءل عن الخط التعبيري الفاصل بينهما، مع الحفاظ على الفكرة الجمالية التي تسمح بالاكتشاف القابل لخلق عدة انطباعات تتخطى بوضوح التحديد الفني، إذ تحقق بطولي من خلال أسلوبها الشعري والتشكيلي، نداءات الفن الخاصة بها، والمحفوفة ببصمة امرأة قوية المشاعر والأحاسيس، كما أنها تستحدث الكثير من صيغ التعبير الشكلي، كما الحال في لوحة «بدايات» ضمن نسيج شاعري تضفي من خلاله الانفعالات المتوازنة بنشوة بصرية وأخرى لغوية ذات اشتقاقات تغري القارئ بمتعة القصيدة الرصينة المسبوكة الأوزان، وبوضوح الصورة التي تتركها للاكتشاف متحدية بذلك من ينفي قدرة القصيدة على ابتكار صورتها الخاصة، فهل التشكيل عند باسمة بطولي هو قصيدة موزونة ذات حرفية قادرة على إثارة الجمال وبعقلانية لا يمكن إنكارها؟

كاتبة لبنانية

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية